- واعلم أن الشريعة الإسلامية قد وضعت قوانين المعاملات وفصلتها أحسن تفصيل فوضعت نظما للبيع والشراء والرهن والاجارة والشركة والشفعة ووعضت قوانين للاقتصاد والتجارة والزراعة والصناعة ولم تترك شيئا إلا وضعت له نظاما مبنيا على مصلحة النوع الإنساني وترقية حاله ورفع الخصومات من بين الناس وتوطيد علائق الثقة فيما بينهم ونزع العداوة والبغضاء من قلوبهم وحفظ حقوق الضعفاء ورفع الحيف عنهم وقد أخذ المجتهدون من النصوص التي جاء بها الكتاب الكريم أو السنة الصحيحة ما فيه مصالح الناس التي اقتضتها حادثات الأزمنة المختلفة فكان للمسلمين أعظم ثروة فقهية يمكنهم أن يجعلوها اصلا لكل قانون صالح ينتفع به المجتمع وتقوم عليه دعائم العمران وتسعد به الشعوب والأمم سعادة حقيقية ومع هذا فإنها لم تضع عقوبات خاصة لمن خالف قوانين المعاملات المالية بل تركت أمر هذه العقوبات للحاكم ليضع لها ما يناسب كل زمان ومكان وهذا هو باب التعزير فقد جعلت الشريعة للحاكم سلطة يضع بها العقوبات التي تليق بمن يخالف أمر الشريعة أو نهيها بحسب اليئات والزمنة وبحسب ما يترتب على مخالفتها من اشر والفساد ما عدا السرقة فإنها قد وضعت لها الحد الذي سمعته ( 1 ) .
( 1 ) ( مايثبت به حد السرقة . اتفق الأئمة الربعة - على أن حد السرقة يثبت على السارق بشهادة رجلين شاهدين عدلين كشائر الحقوق واتفقوا - على أنه يثبت أيضا بإقرار الحر واعترافه باقتراف الذني .
الحنفية المالكية والشافعية - قالوا : يثبت الحد بإقرار البالغ مالعاقل ولو مرة واحدة لأنه لا تهمة فيه كسائر الحقوق التي تثبت بالإقرار مرة واحدة . فلا حاجة إلى الإقرار مرة ثانية كالقصاص وحد القذف والتنبيه في الشهادة منصوص عليه فلا يقاس عليه الإقرار ولأنه يفيد تقليل تهمة الكذب ولا كذلك الإقرار لأن المقر لا يتهم بالكذب على نفسه واشترط الزيادة في الزنى على خلاف القياس فيقتصر على مورد النص على أن الإقرار الأول إما صادق فبالثاني لا يفيد شيئا إذ لا يزداد صدقا وإما كاذب فبالثاني لا يصير صدقا " فظهر أنه لا فائدة في تكراره .
الحنابلة وأبو يوسف من الحنفية - قالوا : يثبت بلإقراره مرتين والإقرار مرة واحدة لا يثبت الحد . واحتجوا بما روي عن أبي أمية المخزمي رض الله عنه أنه قال : أتي الرسول صولات الله وسلامه عليه بلص قد اعترف اعترافا ولم يوجد معه متاع فقال رسول الله A : ( ما أخالك سرقت ) قال : بلى يا رسول الله فأعادها عليه مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع وجيء به فقال له : استغفر الله وتب إليه فقال : أستغفر الله وأتوب إليه فقال الرسول A : ( اللهم تب عليه ثلاثا ) أخرجه ا مد والنسائي وأبو داود واللفظ له ورجله ثقات ويجب على القاضي أن يلقن المقر الرجوع احتياطا للدرء فقد روي أن النبي A أتي بسارق فقال له : ( أسرقت ؟ مأخاله سرق ) . وإذا رجع المقر عن إقراره صح في القطع لأنه خالص حق الله تعالى فلا يكذب فيه ولكن لا يصح الرجوع في المال لأن صاحبه يكذبه واشترطوا أن يكون الإقراران في مجلسين مختلفين لأنه إحدى الحجتين فيعتبر الأخرى وهي الينة . واسند الطحاوي إلى سيدنا علي كرم الله وجهه أن رجلا أقر عنده بسرقة مرتين فقال له : قد شهدت على نفسك شهادتينن فأمر أن تقطع يده فعلقها في عنقه . وأما المعنى فإلحاق الإقرار بها بالشهادة عليها في العدد فيقال : حد فيعتبر عدد الإقرار به بعدد الشهود نظيره إلحاق الإقرار في حد الزنا في العدد بالشهادة فيه . فلو شهد على السارق رجل وامرأتان ثبت عليه المال فيجب أن يرده أو قيمتهن ولكن لا يجب القطع لعيه لأن شهادة النساء لا تقبل في الحدودز .
كيفية الشهادة .
قالوا : وينبغي للإمام أن يسأل الشاهدين عند أداء الشهادة عن كيفية السرقة أي كيف سرقلاحتمال كونه سرق على كيفية لا يقطع معها كأن نقب الجدار وادخل يده فأخرج المتاع فإنه لا يقطع على طاهر المذاهب الثلاثةن أو أخرج بعض النصاب ثم عاد وأخرج البعض الآخر أو ناول رفيقا له على الباب ويسألهما عن ماهيتها لأنهاتطلق في اللغة على استراق السمع والنقص من اركان الصلاةن قال رسول الله A : ( وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته ) ويسألهما أيضا عن رمانها لاحتمال التقادم وعند التقادم إذا شهدوا يضمن المال ولكن لا يقطع عليهن ويسألهما عن المكان لاحتمال أنه سرق في دار الحرب من مسلم - بخلاف ما لو كان ثبوت السرقة بالإقرار حيث لا يسأل القاضي الشخص المقر عن الزمان لأن التقادم لا يبطل الإقرار ولا يسأل المقر عن المكان لكن يسأله عن باي الشروط من الحرز وغيره . وذلك باتفاق العلماء . وقال بعضهم ويسأل المقر عن الشيء المسروق ( إذ سرقة كل مال لا توجب القطع كما في التمر والكرم وغيره ولا حتمال كون المسروق أقل من النصاب - ويسأله أيضا عن المسروق منه لأن السرقة من بعض الناس لاتوجب القطع كذي الرحم المحرم والعبد من سيده والزوج من زوجته والوالد من مال ولده . ولاحتمال ان يهبه المسروق أو يملكه فيسقط القطع . وقال بعضهم : لا حادة إلى السؤال عن المسروق منه لأنه حاضر في المجلس يخاصم المذنب ويطالب بعقوبته والشهود حضور يشهدون على السرقة منه فلا حاجة إلى السؤال عنه ولأن شهادتهم بأنه سرق من هذا الحاضر وخصومة الحاضر لا يستلزم بيانها النية من السارق ولا رفع الدعوى تستلزم أن يقول : سرق مالي وأنا مولاه وينبغي أن يسأل عن هذه الأمور احتياطا للدرء وإذا بينوا ذلك على وجه لا يسقط الحد فإن كان القاضي عرف الشهود بالعدالة قطعه وإن لم يكن يعرف حالهم حبس المشهود عليه حتى يدلوا لأنه صار متهما بالسرقة والتوثيق بالتكفيل ممتنع لأنه لا كفالة في الحدود . وإذا عدل الشاهدان والمسروق منه حاضرا والشاهدان غائبان لم يقطع ايضا حتى يحضرا لاحتمال رجوعهما في الشهادة أو رجوع احدهما في شهادته وكذلك الموت وهذا في كل الحدود سوى حد الرجم . وقد أفتى العلماء : بأنه إذا كان لص معروف بالسرقة ووجده رجل في منزله يذهب في حاجة له غير مشغول بالسرقة ولا ملتبس بها فليس له أن يقتله ولكن له ان يقبض عليه ويأخذه وللإمام أن يحبسه حتى يتوب لأنه متهم بالفساد في الأرض ( والحبس للزجر عن التهمة مشروع وجائز ) .
خطأ الشهود .
الحنفية المالكية والحنابلة - قالوا : إذا أخطأ الشاهدان في أداء الشهادة على السارق وقطعت يده ثم طهر كذبهما بأن اعترف رجل آخر بأنه هو الذي سرق أو قامت البينة على غيره أو اعترف الشاهدان بخطئهما في أداي الشهادة . فيجب على الإمام أن يغرمهما بدفع دية يد المقوع عقوبة لهما على خطئهما في أداء الشهادة عليه أما إذا قال الشاهدان : إننا تعمدنا اداء الشهادة عليه نكاية به فإنه يجب عليهما في هذه الحالة دفع دية يد المقطوع ولا يجوز أن يقطع يديهما بيد واحدة لنه جور وظلم . الشافعية - قالوا : إذا شهد رجلان على آخر بأنه سرق متاعا من حرز قيمته نصاب ثم تبين كذبهما بعد قطع يده فيقررهما الإمام فإن قالا : أخطأنا في الشهادة عليه فإنه يغرمهما دية يد المقطوع . وإن قالا : تعمدنا أن نشهد عليه بباطل قطعت يداهما بيده قصاصا له . وهذه أشبه بالقياس لأنه إن كان يجوز أن يقتل اثنان بواحد فلم لا تقطع يدان بيد ؟ واليد أقل من النفس وإذا جاز القليل فلم لا يجوز الكثير ؟ واحتجوا على مذهبهم بما روي عن الإمام علي رضي الله تعالى عنه عن الشعبي . ( أن رجلين أتيا الإمام عليا كرم الله وجهه فشهدا على رجل أنه سرق فقطع الإمام يده ثم أتياه بآخر فقالا : هذا الذي سرق وأخطأنا على الول فلم يجز شهادتهما على الآخر وغرمهما دية يد الول وقال لهما : لو أعلمكما تعمدتما لقطعتكما ) فهذا نص في الباب . وإذا شهد رجل وامرأتان على رجل بالسرقة فإنه يضمن المال ولا يقطع يده . وإذا أقر الرجل على نفسه بالسرقة أمام الحاكم ثم رجع في إقراره فإنه يلزمه غرامة المال الذي أقر به ولا قطع عليه - ولا عكس - حتى لو قال المسروق منه أريد قطع يده ولا أريد المال لا تسمع خصومته فإنما يصح حق القطع تبعا للمال وقد انتفى المال فانتفى القطع .
خطأ الحداد .
الحنفية والحنابلة - قالوا : إذا قال الحاكم للحداد - الذي يقيم الحد - اقطع يمين هذا في سرقة سرقها فقطع يساره خطأ أو عمدا فلا شيء عليه ولكن يعزره الإمام لأنه اخطأ في اجتهاده وخطأ المجتهد موضوع بالإجماع وهذا موضع اجتهاد لأن ظاهر النص يسوي بين اليمين واليسار ولأنه وإن أتلف بلا حق ظلما لكنه أخلف من جنسه ما هو خير له وهو اليد اليمنى فإنها لا تقطع بعد قطع اليسرى وهي خير لأن قوة البطش بها أتم والعمل بها أكثر فلا يضمن شيئا وعلى هذا لو قطع اليد غير الحدتد لا يضمن أيضان عمدا أو خطأ لن اليمين كانت على شرف الزوال فكانت كالفائتة فأخلفها إلى خلف استمرارها وبقائها . الصاحبان من الحنفية - قالا : إذا أخطأ الحداد وقط اليد اليسرى بعد أن أمره الحاكم بقطع اليمنى فلا ضمان عليه في حالة الخطأ . أما إذا كان متعمدا فإنه يجب عليه أن يضمن أرش اليد اليسرى . الشافعية والمالكية - قالوا : إذا كان الحداد أخطأ فلا شيء عليه أما إذا كان فعل هذا الفعلن وعطع اليسرى بعد أن امره الحاكم بقطع اليمنى فإنه يجب عليه القصاص وتقطع يده اليسرى وذلك قياسا على ما إذا قطع رجل يد السارق بعد الشهادة قبل القضاء بالقطع في انتظار التعديل ثم عدلت فلا تقطع على السارق لفوات محله وبحيث أن المسروق لو كان أتلفه لن سقوط الضمان باستيفاء القطع حقا لله تعالى ولم يوجد وكذا لو قطع يده اليسري يقتص له ويسقط عنه قطع اليمنى . والخطأ في الاجتمها معناه أن يقطع اليسرى بعد قول الحاكم : اقطع يمينه عن اجتهاد في أن قطعها يجزىء عن قطع السرقة نظرا إلى إطلاق النصن وهو قوله تعالى { فاقطعوا أيديهما } أما الخطأ في معرفة اليمين من الشمال فلا يجعل عفوا لآنه بعيد يتهم فيه مجعيه وعلى هذا فالقطع في الموضعين عمد وإنما يكون معنى العمد حينئذ أن يتعمد القطع لليسار لا عن اجتهادفي اجزائها . أما إذا قال الحاكم للحداد : اقطع يد هذا ولم ينص على اليمنى - فقطع اليسار فلا يضمن اتفاقا وإذا قطع رجل يسار السارق بعد حكم القاضي بقطع يمينه من غير إذن الإمام في قطعها فإذا كان متعمدا وجب عليه القصاص فتقطع يده وفي الخطأ الدية بالاتفاق وسقط القطع عن اليمنى .
إذا سرق رجل من السارق .
الحنفية والحنابلة والشافعية في قول - قالوا : إن قطع سارق بسرقة ثم سرقت منه لم يكن له ولا لرب المال أن يقطع السارق الثاني لن المال لما لم يجب على السارق ضمانه كان ساقط التقوم في حقه وكذا في حق المالك لعدم وجوب الضمان له فيد السارق الول ليست يد ضمان ولايد أمانة ولا يد ملك فكان المسروق مالا غير معصوم فلا تقطع فيه وأصبح كأنه مال ضائع ولا قطع في أخذ مال ضائع وإذا ظهر هذا الحال عند القاضي فإنه لا يرد الحال إلى الأول ولا إلى الثاني إذا رجه لظهر خيانة كل منهما بل يرجه من يد السارق الاثني إلى المالك إن كان حاضرا وإلا حفظه في بيت المال كما يحفظ أموال الغيب . المالكية والشافعية في قول آخر - قالوا : تقطع يد السارق الثاني بخصومة المالك لأنه سرق نصابا محرزا من حرز لا شبهة فيه فيقطع بخصومة الول لأن سقوط التقوم ضرورة القطع ولم يوجد فصارت يده كيد الغاصب .
الحنفية - قالوا : إذا قضي على رجل بالقطع في سرقة فوهبها له المالك وسلمها إليه أو باعها منه فلا يقطع .
الشافعية المالكية والحنابلة - قالوا : يقطع في هذه الحالة لأن السرقة قد تمت انعقادا بفعلها بلا شبهة وظهورا عند الحاكم وقضي عليه بالقطع ولا شبهة في السرقة فيقطع واحتجوا بما ورد في حديث صفوان أنه قال : يا رسول الله لم أرد هذا ردائي عليه صدقة فقال E : ( فهلا قبل أن تأتيني به ) رواه أبو داود وأبن ماجة زاد النسائي في رواية : ( فقطعه رسول الله A ) )