مبحث حكمة مشروعية الحدود .
وحكمة مشروعيته هو الزجر عما يتضرر به العباد . من إفساد الفرش وإضاعة الأنساب وهتك الأعراض وإتلف الأموال وزهاق الأنفس واضطراب الامن . والحدود دواء شاف وعلاج ناجح لما يصيب المجتمع من الأمراض الاخلاقية الخطيرة ولأمراض النفسية الفتاكة . التة تهلك المجتمع وتنخر في جسده وتمزق اوصاله وتودة به الى الهاوية .
إنما الامم الاخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت إخلاقهم ذهبوا .
فالإسلام ينظر إلى الإنحراف على أنه خروج عن الفطرة السليمة التي قفطر الله الإنسان عليها . وعصيان على الطبيعة وتمرد عليها ويحاول العلاج لمن انحرف عن طبعه وغذا تعذر العلاج ولم يفد الإصلاح كان موقف الإسلام أشد صلابة في ردع المجرم والقسوة في الحكم عليه حتى لا يكون بقاء الفساد قضاء على المجتمع كله .
وبهذه الطريقة يحارب الإسلام الإنحرافات ويضع لها الحدود الرادعة التي تناسب خطورة الذنب وقاية للجماعة الإنسانية من الضياع والفساد . كالعضو الذي أصيب بمرض فتاك . فإذا لم يمكن علاجه اضطر إلى بتره حماية للجسد كله .
حد الزنا .
الزنا عبارة عن وطء مكلف في فرج امرأة مشتهاة خال عن الملك وشبهته ويثبت به حرمة المصاهرة نسبا ورضاعة .
ولما كانت جريمة الزنا من ابشع الجرائم التي ترتكب ضد الشرف والأخلاق والفضيلة والكرامة وتؤدي إلى تفويض بناء المجتمع وتفتيت الأسر واختلاط الأنساب وقطع العلاقات الزوجية وسوء تربية الأولاد بل تقضي إلى ضياع الطفل الذي هو قتل له معنى . فإن ولد الزنا ليس له من يربيه والأم بمفردها لا تستضيع تربية والقيام بشؤونه لقصور يدها . فيشب على أسوأ الأحوال ويصير عضوا فاسدا في جسد المجتمع الإنساني ينشر الحقد والبغضاء . ويبث الفساد والإجرام لأنه ثمرة الجريمة البشعة المنكرة .
فجريمة الزنا من أخطر أمور الحياة كلها بل أشدها تعلقا بنظامها ودوام سعادتها وهنائها . وتمسكها وترابطها ولذلك اهتم الشارع الحكيم بهذا الحد أكبر اهتمام صونا للحياة المنزلية من الانهيار وحفظا للروابط الأسرية مما يتهددها من بلاء وأطار فذكر غقاب من لا يحفظ فرجه وبينه أعظم بيان وجعله من أشد العقوبات وأفظعها وأوجب أن لا تأخذنا شفقة ولا رحمة . باجناة .
وأن يشهد إقامة الحد جماعة من المؤمنين فقال تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } . آية رقم / 2 / من النور .
ثم بين ما يجب علينا أن نراعيه في حفظ الفروج وما تحتاج إليه لصيانتها من الضياع وما يجب للإبضاع من الحرمة والصون والإحتياط والمحافظة . فأمرنا بغض النظر إلى الأجنبيات لأن النظر يريد الزنا . وأمرنا بصون أجساد النساء من التبذل والظهور أمام الأجانب وحث المرأة على حفظ جسدها بالإحتشام والتستر والبعد عن مواطن الريبة وبؤر الفساد وعن الإختلاط بالرجل الأجنبي حتى لا تقع في محرم ولا يجرها الإختلاط والتبذل إلى الوقوع في الذنب وتستوجب إقامة الحد عليها . قال تعالى : { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } فقد خاطب الله تعالى أمهات المؤمنين ونساء النبي A وهن الصالحات القانتات الائي تربين في مدرسة النبوة ونشأن في أعظم جامعة إسلامية . وتأدبن بأداب النبوة وتخلقن بأخلاق الرسول صلوات الله وسلامه عليه وقد كن لا يخرجن من بيوتهن إلا لعذر شرغي كحج أو عمرة أو زيارة أبوين أو صلة أرحام أو عيادة مريض أو نحو ذلك . وإذا خرجن لا يبدين زينتهن ولا يظهرن شيئا من محاسنهن ولا يلبسن ثياب براقة فإذا كان الله تعالى قد أمرهن هذا الأمر وهن على هذا الحال فغيرهن من سائر النساء أولى أن يخشى عليهن لو خرجن ومشين في الطرقات على أعين الناس وفيهم من في قلبه مرض من العصاة الفجرة والمجرمين الفسقة الذين لا يخشون الله ولا يخافونه عن ابن مسعود Bه عن النبي A قال : ( إن المرأة عورة . فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان وإن أقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في عقر بيتها ) .
واتفقت كلمة الفقهاء على أن خروج المرأة من بيتها قد يكون كبيرة . إذا تحققت منه المفسدة كخروجها متعطرة متزينة . سافرة عارية . مبدية محاسنها للرجال الأجانب كما هو حاصل في هذا الزمان مما يوجب الفتنة . ويكون الخروج من المنزل حراما وليس كبيرة إذا ظنت وقوع الفتنة ويصد عنها المفسدين المعتدين .
وتبرج الجاهلية الأولى - وهي التي كانت قبل الإسلام التبختر في تثن مع إظهار المحاسن والزينة وما يجب ستره من العنق والصدر والشعر والقفا والظهر والذراعين والساقين .
ومما يدمي قلب الحر المؤمن الغيور ما نشاهده في هذا الزمان من تبرج النساء والفتيات وخروجهن متبذلات كاسيات عاريات . مائلات مميلات . عاريات الشعور والظهور من غير حياء ولا مبالاة . حتى صرن أكثر تبذلا وانحلالا من أهل الجاهلية التي كانت قبل الإسلام . وإثم ذلك راجع إليهن أولا وإلى أولياء أمورهن ثانيا من الأزواج والآباء والأخوة . لعنهن الله ولعن من يرضى بذلك منهن ولعن من ينظر إليهن ومن يوافقهن من الرجال . وصدق رسول الله A إذ يقول : ( صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا ) وهذا الحديث من دلائل النبوة حيث أن رسول الله A قد حدث عما يحدث في المستقبل وأخبر عن المغيبات التي حصلت بعد حياته صلوات الله وسلامه عليه بتسعين وثلاثمائة وألف عام .
فتشريع حد الزنا من أهم الحدود التي تعالج مرضا قوي الاستحكام في النفوس قوي التأثير فيها والتمكن منها وهو سلطان الشهوة في الإنسان وقوة طغيانها على العقل لأنه تعالى ركبها في البشرية بهذه القوة الجامحة لعمارة الكون ودوام الجنس البشري ولكنها قد تخرج بصاحبها عن حدود الفضيلة . فسن الشارع لها الحد حتى يردعها من غيها ويرجعها إلى طريق الصواب .
مضار الزنا .
أما مضار الزنا الشنيعة وآثاره الممقوتة فهي أكثر من أن تحصى لأنها مضار أخلاقية ودينية وجسمانية واجتماعية وأسرية وناهيك بجريمة يرتكبها صاحبها وهو جزلان مسرور بينما يجني على نفسه بإغضاب ربه وتعرضه لمقته وغضبه وشديد عقابه . بل يتعرض لانتزاع الإيمان من قلبه كما يخلع الإنسان قميصه من عنقه . فإن مات وهو متلبس بجنايته مات على ملة غير ملة الإسلام . قال رسول الله A : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) رواه البخاري وغيره .
أما الأضرار التي تعود على المرأة من جراء هذه الفاحشة . فهو هتك عرضها وسلب شرفها واقتراف جريمة من أفظع جرائم المجتمع وهي لاهية مسرورة بلحظات قليلة وشهوة حقيرة .
ولا ننسى تدنس شرف أسرتها وإلحاق العار بأهلها الأبرياء نساء ورجالا بلا ذنب ولا جريرة ثم الجناية على الجنين الذي قد يولد من طريق الزنا ويأتي ثمرة هذه الجريمة فيتعرض للقتل وهو الغالب وإن عاش فالضياع والفساد والعار الملازم له طول حياته . واحتقار المجتمع له ونفورهم منه حتى يصبح الموت أفضل عنده من هذه الحياة . فإن من لم يثبت نسبه ميت حكما .
والجناية على زوجها إن كان لها زوج وهتك عرضه وضياع شرفه وسمعته وسقوطه بين أصحابه وجيرانه ومعارفه وملاحقة العار له مدة حياته وبعد وفاته . والجناية على الأولاد والذرية من ذكور وإناث جناية تعدل القتل وسلب الروح من الجسد فهذه الجريمة البشعة لا تنسى مع الزمن ولا تخفى على أحد لأن رائحتها الكريهة تزكم النفوس وتنتشر انتشار الريح العاصف وقد قيل : إن الجريمة لها أجنحة تطير بها .
وإذا تصورت ما يترتب على هذه الجريمة حينما تدخل الزوجة على أولادها وأسرة زوجها مولودا ليس منهم وتقحم عليهم شخصا غريبا عنهم يشاركهم بلا حق في معيشتهم وشرفهم وأسمهم وميراثهم وكل خواصهم وما يتبع ذلك من أضرار جسيمة ما يعلمها إلا علام الغيوب . علمت فظاعة هذه الجريمة .
ثم إذا نظرت إلى الأضرار الصحية التي تترتب على فاحشة الزنا من أمراض الزهري والسيلان وغيرهما مما أثبته الطب من مضار الزنا وأفردت له كتبا مؤلفة في هذا الشأن أدركت حكمة تشديد الشرع في تحريمه .
وبعد فإن هذا البلاء الخطير متى وقع فيه الشخص مرة استمرأ وتلذلذ به ولا يستطيع الإقلاع عنه . وأحب التنقل فيه بعد أن ذاق لذته فيتفاقم شره ويتزايد ضرره ويصبح وباء للمجتمع الإنساني .
فلا غرابة إذا في أن يكون الأسلوب الذي يعالج به مرتكب هذه الجريمة أن يضرب بالسوط مائة جلده إن كان بكرة ويفتضح أمره على مرأى من أصحابه وجيرانه حتى يحتقر في نفوسهم وتسقط منزلته بينهم ويأخذوا منه حذرهم ويبتعد عن مصاحبته لأنه أصبح كالمريض الأجرب لخبث نفسه وسوء سريرته وشناعة فعله وشددة خطره على الأفراد الذين يتصلون به . وهذه عقوبته الدنيوية ولعذاب الأخرة إن لم يتب أشد وأبقى .
أما عقوبة الرجم بالحجارة للزاني المحصن ففيه معنى إسقاط منزلة الزاني وتجريهما من الإنسانية الكاملة الفاضلة وإلحاقهما بالعجماوات التي لا تفهم تأديب والزجر إلا بالضرب الشديد المؤلم . أو الموت الشنيع حيث لا ينفع معهما ردع ولا نصح ولا يبقى له وسيلة تؤدبه إلا الضرب المبرح فجعل الشارع الحيكم الجلد أو الرجم امام طائفة من امؤمنين ليكون الخزي والعار أبلغ وأكمل في حقهما وليرتدع من تسول له نفسه الوقوع في ذلك الذنب بعد أن رأى عاقبته ونهايته .
فالشارع الحكيم قصد من تشريع عقوبة الزنا الردع للمجتمع والزجر والتخويف للغير أكثر من التنفيذ على الجاني فإن العبد حينما يقارن بين ما سيحصله من اللذة المعارضة بالزنا وبين ما سيتبع هذه اللذة من العقوبات الشديدة والخزي والعار والفضيحة أمام المجتمع في حياته أو بعد مماته أمتنع عن الوقوع فيها وفضل بعقله البعد عنها والفرار منها صونا لنفسه وعرضه وشرفه وكرامته .
وزيادة من الشارع في الإحتياط عن الوقوع في هذه الجريمة وحفظ المجتمع منها حتى يعيش في سلام ومحبة . فليس هنا من يقطع أوصال المجتمع وينشر العداوة بين أفراده وجماعته مثل جريمة الزنا . من أجل ذلك كله نهى الشارع المؤمنين من الإقتراب من الزنا والوقوع في مقدماته وأسبابه خوفا من أن يقعوا في شركه كما ينهى النهندس المواطنين عن الإقتراب من موقع الخطر كتجمع الكهرباء وحقول الألغام ومخازن المفرقعات حتى لا يدهمهم خطرهم وهم لا يشعرون .
قال تعالى : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } أي ولا تقتربوا من الزنا لمباشرة أسبابه القريبة أو البعيدة فضلا عن مباشرته وإنما نهي الشرع عن قربانه لأن قربانه داعه إلى مباشرته { إنه كان فاحشة } لأن فعله ظاهر القوى متجاوز عن الحد { وساء سيبلا } أي بئس طريقة طريقا فإنه غضب الإضياع المؤد إلى اختلال أمر الأنساب وهيجان الفتن وفساد المجتمع كيف لا وقد عده الله تعالى بعد الشرك والقتل فقال تعالى : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخرا ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفل ذلك يلق أثاما . يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا } وبين لبرسول صلوات الله وسلامه عليه بعض أضراره ومساوئه فقال A : ( إياكم والزنا فإن فيه ستة خصال ثلاثة في الدنيا وثلاثة في الأخرة وأما التي في الدنيا : فذهاب البهاء ودوام الفقر وقصر العمر . وأما التي في الأخرة : فسخط الله تعالى وسوء الحساب والخلود في النار ) ورواه أبوحذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه .
وقال A : ( إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه الظلة فإذا انقطع رجع إليه ) .
وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي وردت بالنهي عن الزنا والأسباب التي تقرب منه .
عورة المرأة .
اختلف العلماء فيما يباح للمرأة كشفه من أعضائها أمام الرجل الأجانب وما لا يباح كشفه تبعا لإختلافهم في فهم المراد من قوله تعالى : { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } الآية . والمراد بغض البصر يعني كف النظر إلى المحرم والمراد بحفظ الفروج حفظها من النظر إليها ومن لمسها ومن وطئها إلا على زوجها قال تعالى : { والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } - { ولا يبدين زينتهن } أي لا يظهرن محل زينتهن { إلا ما ظهر منها } وقد اختلف العلماء في تحديد العورة على مذاهب .
الشافعية في إحدى روايتين والحنابلة قالوا : جميع بدن الحرة عورة ولا يصح لها أن تكشف أي جزء من جسدها أمام الرجال الأجانب إلا إذا دعت لذلك ضرورة كالطبيب للعلاج والخاطب للزواج والشهادة أمام القضاء والمعملة في حالة البيع والشراء واستثنوا من ذلك الوجه والكفين لأن ظهورهما لضرورة أما القدم فلا جرم اختلفوا فيه هل هو عورة أم لا ؟ فيه وجهان والأصلح أنه عورة .
( يتبع . . . )