بسم الله الرحمن الرحيم .
روي عن السيدة عائشة Bها " أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا : من يكلم فيها رسول الله A ؟ ثم قالوا : من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله A فكلمه أسامة . فقال رسول الله A : " يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله ثم قام فاختطب . فقال : إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد . وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " .
رواه البخاري ومسلم وغيرهما ( 1 ) .
ويتعلق بشرح هذا الحديث أمور : .
- 1 - بيان معناه .
- 2 - بيان الحدود الشرعية وما في معناها وحكمة مشروعيتها .
- 3 - إذا لم يوجد في الشريعة نص على حكم من الأحكام فماذا يكون العمل ؟ .
( 1 ) ( هذه الرواية لمسلم وفيها زيادة " يا أسامة " . وفي رواية للبخاري " فتلون " ( أي تغير غيظا ) وجه رسول الله A فقال له : ( أتشفع في حد من حدود الله تعالى ؟ ) فقال أسامة لما رأى إنكار النبي A وغضبه عليه مما أتاه : ( استغفر لي يا رسول الله ) أي لتمحي تلك الخطيئة ويغفر لي ربي . ( قال : ثم أمر بتلك المرأة فقطعت يدها ) . زاد البخاري في رواية عنده عن عائشة Bها ( ثم تابت بعد وتزوجت ) فكانت تأتي لعائشة فترفع حاجتها النبي A . وأسم المرأة التي سرقت فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد . وكان هذا الحادث يوم فتح مكة .
والمراد بالذين هلكوا من قبلهم بنو إسرائيل حيث صرح بذلك الإمام البخاري في روايته فقال : إن بني إسرائيل كانوا إذا سرف فيهم الشريف تركوه محاباة ومراعاة لشرفه فأهلكهم الله للمداهنة والنفاق وترك لإقامة الحدود الشرعية ( وإذا سرق فيهم الضعيف ) أي الفقير الذي لا جاه له ولا مال معه ولا حسب يحميه ينفذون عليه الحكم ( وأيم الله ) أقسم النبي A لتأكيد كلامه حيث أن المقام يقتضي ذلك . وهو قسم بالنية لا مطلقا إذ لا يعرفه إلا الخواص ( ولو أن فاطمة بنت محمد A سرقت ) أعذها الله من ذلك .
قال صاحب دليل الفالحين : ففي الحديث ثبوت قطع يد السارق رجل كان أو امرأة . وفيه جواز الحلف من غير استحلف وهو مستحب إذا كان فيه تعظيم الأمر المطلوب كما في الحديث الذي معنا . وفيه المنع من الشفاعة في الحدود وهو مجمع عليه بعد بلوغه للإمام أما قبله فجائز عند أكثر العلماء إذا لم يكن المشفوع فيه ذا شر وأذى للناس فإن كان لم يشفع فيه . أما المعاصي التي لا حد فيها فتجوز الشفاعة فيها بشرطه السابق وإن بلغت الإمام لأنها أهون . وفيه مساواة الشريف وغيره في أحكام الله تعالى وحدوده وعدم مراعاة الأهل والأقارب في مخالفة الدين اه .
وذلك كما أمرنا الله تعالى في كتابه العزيز فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن كان غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا } فقد أمرنا الله تعالى بالمبالغة في العدل في الأحكام وإقامة القسط في الحدود وفي جميع الأمور مجتهدين في ذلك حق الإجتهاد ولو كان هذا الحد على غني أو فقير أو قريب أو غريب فإن الله تعالى أولى بجنس الغني والفقير . ونهانا عن اتباع الهوى والجور في الأحكام والعدول عن الحق لغرض في نفوسنا مجاملة للغني أو محاباة للقريب . ثم خوفنا الله تعالى من عقابه وعذابه في الدنيا بالهلاك وفي الأخرة بالعذاب الأليم فقال تعالى : { فإن الله كان بما تعملون خبيرا } فيجازيكم لا محالة على الظلم وعدم العدل في إقامة الحدود وغيرها من الأعمال فهو وعيد محض من الله تعالى للظلمة الجائرين ولقد كان المسلمون حديثي عهد بالإسلام فظنوا أن الشفاعة عند الحاكم تنفع وترفع العار عن هذه المرأة وأسرتها ومن ينتمي إليها من جراء قطع يدها . ولكن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أهمه هذا الأمر وأراد أن يثبت لهم وللإنسانية كلها أن الإسلام لا يفرق في تنفيذ الحدود بين شريف ووضيع ولا بين غني وفقير بل الكل أمام القانون سواء كلكم لآدم وآدم من تراب { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } . ولهذا قام فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم خطب فيه هذه الخطبة الجامعة التي وضعت قواعد العدل وثبتت دعائم الإنصاف وأقسم الرسول A للمسلمين بهذا القسم القوي حتى لاتشك النفوس بعد ذلك في أن هناك مانعا يقف أمام تنفيذ حدود الله تعالى ولو على أعز الناس وأشرفهم وأقربهم إلى الله D . فضرب المثل بابنته وأحب الناس إلى قلبه وأشرف مخلوقة في الأمة المحمدية كلها وهي السيدة فاطمة الزهراء Bها وتغير وجه النبي A وظهر عليه الغضب الشديد حين سمع أسامة بن زيد يخاطبه في هذا الشأن وهوالوساطة في تعطيل حد من حدود الله تعالى نهره وقال له : ( يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله تعالى ) .
وأسامة من أحب الناس إلى قلب رسول الله A بعد ابنته فاطمة Bها . عن عبد الله بن عمر Bهما : أن رسول الله A قال : ( أحب الناس إلي أسامة ما خلا فاطمة ولا غيرها ) . وروي عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله A قال : ( إن أسامة بن زيد لأحب الناس إلي أو من أحب الناس إلي وأنا أرجوا أن يكون من صالحيهم فاستوصوا به خيرا ) .
بل بلغ من حب الرسول الله A لأسامة وعلو منزلته في نفسه أنه أخر الإفاضة من عرفة في الحج من أجله . فقد روي عن هشام بن عروة عن أبيه أن النبي A أخر الإفاضة من عرفة من أجل أسامة بن زيد ينتظره . فجاء غلام أسود أفطس فقال أهل اليمن : إنما حسبنا من أجل هذا ؟ قال : فلذلك كفر أهل اليمن من أجل هذا . قال يزيد بن هارون : ( يعني ردتهم أيام أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ) .
ولقد كان سيدنا عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة يعرفون مكانة أسامة بن زيد عند رسول الله A ولما فرض عمر بن الخطاب للناس فرض لأسامة خمسة آلاف ولإبن عمر ألفين فقال ابن عمر : فضلت علي أسامة وقد شهدت ما لم يشهد ؟ فقال : إن أسامة كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله من أبيك ) .
ومع هذه المكانة الرفيعة التي كانت لأسامة بن زيد في نفس الرسول صلوات الله وسلامه عليه رد شفاعته ولم يقبلها بل غضب عليه وظهر أثر الغضب على وجهه A كعادته عند انتهاك حرمات الله تعالى حتى ظن سيدنا أسامة Bه أنه قد ارتكب ذنبا يعاقبه الله عليه بسبب هذه الشفاعة فتضرع إلى النبي A أن يستغفر له مما وقع فيه من الإثم عسى أن يغفر الله له ويرحمه كما ورد في الرواية الثانية .
كل هذه الأدلة والبراهين التي وردت في الحديث تدل دلالة صريحة على مقدار حرص الرسول الله A على تنفيذ حكم الله تبارك وتعالى وتوقيع الحد على من يستحق العقوبة مهما كانت منزلته بين القوم . ولا توجد قوة تمنعه من إقامة حدود الله D على الشريف والضعيف والعظيم والحقير من غير تمييز واستثناء لأن في إقامة الحدود حماية للمجتمع من الفساد وحفظا للأمة من الدمار والهلاك ودواما لسعادتها وهنائها وعزها وبقائها وسببا لاستتباب الأمن والنظام بين ربوعها و تثبيتا للعدالة بين أفرادها .
ويؤخذ من الحديث النهي عن الشفاعة في الحدود . وقد ترجم البخاري - بباب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان . ويؤيد هذا ما ورد في بعض روايات هذا الحديث فإنه A قال لأسامة لما تشفع : ( لا تشفع في حد فإن الحدود إذا انتهت إلي فليست بمتروكة ) . وأخرج أبو داود حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يرفعه ( تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب ) وصححه الحاكم .
وأخرج أبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر قال : سمعت رسول الله A يقول : ( من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ) .
وأخرج الطبراني عن عروة بن الزبير قال : ( لقي الزبير سارقا فشفع فيه فقيل : ( حتى يبلغ الإمام ) فقال : إذا بلغ الإمام فلعن الله الشافع والمشفع ) . فلا يجوز للإمام العفو عن الحد ولا تجوز الشفاعة فيه إذا وصل الأمر إلى الحاكم .
ويؤيد هذا أيضا ما أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن الجارود والحاكم عن صفوان بن أمية رصي الله تعالى عنه : أن النبي A قال لما أمر بقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه : ( هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به ) ؟ .
قالوا : وتسن الشفاعة الحسنة إلى ولاة الأمور من أصحاب الحقوق ما لم يكن في حد أو أمر لا يجوز تركه كالشفاعة إلى ناظر يتيم أو وقف في ترك بعض الحقوق التي في ولايته فهذه شفاعة محرمة شرعا .
الشافعية - قالوا : إن الشفاعة الحسنة قيل أن يصل الأمر إلى الحاكم جائزة بقوله تعالى : { من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها } وبما في الصحيحين عن أبي موسى أن النبي A " كان إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه وقال : اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء " )