- اتفق الأئمة على أن وضع الحمل تنقضي به عدة المتوفى عنها زوجها ولو بعد وفاته بلحظة بحيث يحل لها بعد نزول ما في بطنها جميعه وانفصاله منها أن تتزوج ولو قبل دفن زوجها المتوفى ودليلهم على هذا قوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } إذ هو عام يشمل المتوفى عنها زوجها وغيرها وهذا هو رأي ابن مسعود ومن تبعه من الأئمة الأربعة وخالف علي وابن عباس ومن تبعهما فقالوا : إن المتوفى عنها زوجها وهي حامل إذا وضعت حملها قبل انقضاء أربعة أشهر وعشرة أيام فإن عدتها لا تنقضي بوضع الحمل بل لا بد من انتظار مضي المدة بتمامها أما إذا انقضت مدة أربعة أشهر وعشرة أيام قبل الوضع فإن عدتها لا تنقضي إلا بوضع الحمل لأنه حمل الزوج المتوفى فتجب صيانته ودليلهم على ذلك قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } فإنها عامة تشمل الحامل والحائل وقد يقال في وجهة نظر علي وابن عباس Bهما : إن عدة المتوفى زوجها لوحظ فيها أمران : براءة الرحم وحرمة الزوج المتوفى ورعاية خاطر أهله الأحياء فحظر الله علي المرأة المتوفى عنها زوجها أن تبادر بمفاجأة أهله المكلومين بالتزوج بغير المتوفى حرصا على نفوسهم من التألم بآلام الغيرة فقدر لها أقل مدة يسهل فيها على نفوس أهل الميت أن تتزوج امرأته بغيره ويرشد لذلك ما كان عليه أهل الجاهلية بإزاء ذلك فإنهم كانوا يحبسون المرأة التي مات زوجها فيحرمونها من الزينة ومن التزوج ومن كل شؤون الحياة طول حياتها فأنزلهم الله عن عادتهم هذه تدريجا كما هو الشأن في أحكام الشريعة الإسلامية ففرض على المرأة أن تنتظر سنة بعد وفاة زوجها فلما استقر ذلك الحكم في أنفسهم أنزل العدة إلى أربعة أشهر وعشرا وهي أقل مدة ممكنة وجعلها حكما مستمرا وإنما قدرت بهذا العدد بخصوصه لأنك قد عرفت أن الغرض من مشروعية العدة براءة الرحم من جهة وحقوق الزوجية من جهة أخرى ولما كان الولد في أول خلقه يمكث في الرحم أربعين يوما نطفة وأربعين بوما علقة وأربعين يوما مضغة ثم ينفخ فيه الروح التي بها الحياة والحس والحركة فقد قدر لبراءة الرحم هذه الأشهر الأربعة مضافا إليها عشرة أيام تظهر فيها حركته فتتحقق المرأة من شغل الرحم وعدمه بعد هذه العدة وتؤدي حقوق الزوج وأهله ولا يقال : إن هذا التعليل إنما يصح إذا كانت المرأة من ذوات الحيض المستعدات للحمل أما إذا كانت صغيرة لا تحيض أو آيسة أو كانت غير مدخول بها فإن هذا التعليل لا ينطبق عليها لأنا نقول : إن هذه المدة وإن كانت لذوات الحيض ولكن جعلت مقياسا عاما للجميع طردا للباب على وتيرة واحدة .
ولا يخفى حسن التعليل ونفاسته ومنه يتضح أن الظاهر المعقول يؤيد رأي علي وابن عباس Bهما فإن المرأة إذا وضعت حملها في الأسبوع الأول مثلا من وفاة زوجها وتزوجت بغيره لم يكن لضرب مدة الأربعة أشهر وعشر للمتوفى عنها زوجها فائدة مع أن فائدته ظاهرة وهي احترام علاقة الزوجية وتعظيمها بين الناس والحرص على قلوب أهل الزوج المتوفى من التصدع ولا يقال : إنه قد توجد ظروف قاسية توجب الرحمة بالزوجة والشفقة عليها وتجعل زواجها سريعا أمرا ضروريا لحياتها خصوصا إذا وجدت الزوج الكفء الذي لا يصبر وقد يضيع منها ولكنا نقول : إن هذا الكلام يأتي في غير الحامل أيضا إذ ربما تكون في حالة تحتاج معها للزواج . ومع ذلك فإنه لا يحل لها أن تتزوج إلا بعد انقضاء أربعة شهور وعشرة أيام مهما وجد الكفء أو ذهب ومهما توقفت حياتها عليه ولكن الأئمة الأربعة لم ينظروا إلى هذه العلل فلذا قالوا : إن العدة أمر تعبدي ليست له حكمة ظاهرة ولكني أعتقد أن قضايا الشريعة السمحة قسمان : قسم يتعلق بالعبادات وهذه يصح أن يقال فيها : إنها أمور تعبدية لأنها جميعها أمارات للخضوع والخشوع والسلطان له أن يضع منها ما يريد بدون أن يقال له : لم فعلت هذه الرسوم دون تلك وقسم يتعلق بمعاملات الناس بعضهم بعضا من بيع وشراء وأحوال شخصية وهذه لا بد لها من حكمة معقولة تناسب أحوال الناس ومصالحهم على أن العبادات في الشريعة الإسلامية قد اشتملت على كثير من الحكم الظاهرة والأسرار البديعة كما هو ظاهر لمن يتتبع أسرار الطهارة والصلاة والصيام والحج والزكاة فإن منافعها المادية والأدبية ظاهرة في المجتمع الإنساني ظهور الشمس في رابعة النهار .
هذا ما يتعلق بحكمة التشريع أما ما يتعلق بفهم ذلك من الآيتين الكريمتين فحاصله أن آية { والذين يتوفون منكم } عامة من وجه فرض انتظار مدة أربعة شهور وعشرا عن المتوفى عنها زوجها سواء كانت حاملا أو حائلا وخاصة من وجه وهو كون الكلام في خصوص المتوفى عنها زوجها لأنه قال : { والذين يتوفون منكم } أما الآية الثانية وهي قوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } فكذلك عامة من وجه وهو أن وضع الحمل تنتهي به عدة المرأة مطلقا سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها وخاصة من وجه وهو كون الكلام في عدة الحامل بخصوصها لا في عدة المتوفى عنها زوجها فكان الاجتهاد في مثل هذا لازما لا بد منه لدفع ما ظاهره التضارب بين الآيتين فيمكن أن يقال في بيان اجتهاد علي وابن عباس أنهما قد فهما الآية الأولى على ما هي عليه من كونها خاصة بالمتوفى عنها زوجها سواء كانت حاملا أو حائلا وجعلا انقضاء مدة أربعة أشهر لازما للحامل وغيرها وفهما الآية الثانية على حالها أيضا فوافقا على أن وضع الحمل تنقضي به عدة المفارقة حال الحياة وبعد الموت إلا أنهما قيداه في المفارقة بعد الموت بأربعة أشهر وعشرة أيام فإذا وضعت قبلها تنتظرها فخصا الآية الثانية في المتوفى عنها زوجها بانقضاء أربعة أشهر وعشرة أيام المنصوص عنها في الآية الأولى عملا بحكمة التشريع التي ذكرناها . أما ابن مسعود ومن تبعه من الأئمة الأربعة فإنهم قالوا : إن الآية الثانية نسخت الآية الأولى بالنسبة للحامل فمتى وضعت الحمل فإنها لا تنتظر لحظة واحدة بل تحل للأزواج ولو لم يدفن زوجها وعلى هذا تكون مدة الأربعة أشهر وعشرا كان حكما مؤقتا للحامل المتوفى عنها زوجها ثم نسخ .
وقد روى صاحب أعلام الموقعين : أن الصحابة قد اتفقوا بعد ذلك على أن وضع الحمل تنقضي به العدة على أي حال تيسيرا للنساء فقال ما نصه : وقد كان بين السلف نزاع في المتوفى عنها زوجها أنها تتربص أبعد الأجلين ثم حصل الاتفاق على انقضائها بوضع الحمل اه . على أنه لم يذكر لدعوى الاتفاق هذه سندا والمفسرون لم يذكروا هذا الاتفاق ومع هذا فإنني لا أدري كيف يوفق بين هذا وبين قوله بعد هذا بأسطر قليلة ما نصه : وليس المقصود بالعدة ههنا مجرد استبراء الرحم كما ظنه بعض الفقهاء لوجوبها قبل الدخول ولحصول الاستبراء بحيضة واحدة ولاستواء الصغيرة والآيسة وذوات الحيض في مدتها فلما كان الأمر كذلك قالت طائفة هي تعبد محض لا يعقل معناها وهذا باطل لوجوه : منها أنه ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة يعقله من عقله ويخفى على من خفي عليه ومنها أن العدة ليست من باب العبادات المحضة فإنها تجب في حق الصغيرة والكبيرة والعاقلة والمجنونة والمسلمة والذمية ولا تفتقر إلى نية ومنها أن رعاية حق الزوج والولد والزوج الثاني ظاهرة فيها .
فالصواب أن يقال : هي حرام لانقضاء آثار النكاح ولهذا تجد فيها رعاية لحق الزوج وحرمة له الخ ما قال .
فأنت ترى من عبارته هذه أنه لا يوافق بعض الفقهاء الذين يقولون : إن العدة شرعت لبراءة الرحم في ذوات الحيض وما زاد على حيضة واحدة فهو للاحتياط أما غير ذوات الحيض فالعدة فيهن أمر تعبدي وأنه يرى ما قررناه من أن الأحكام الشرعية المتعلقة بالحقوق لا بد فيها من مراعاة الحكم الموافقة لمصلحة الناس على أن ظاهر عبارته تفيد أن الحكمة لا بد منها حتى في العبادات وقد عرفت أنه ليس بضروري لأن العبادات هي أمارات الخضوع فلا يسأل السلطان عن حكمتها . وإذا كان كذلك فأين رعاية حق الزوج المتوفى إذا وضعت الحمل بعد موته بيوم ثم تزوجت بغيره . وما حكمة مدة أربعة أشهر وعشرة أيام التي ضربها الله للمتوفى عنها زوجها إذا لم يكن ذلك لمراعاة حق الزوج المتوفى وحق أهله ؟ ولماذا لم يجعل الله عدة المتوفى عنها زوجها كغيرها فإن كانت حاملا كانت عدتها وضع الحمل وإذا كانت من ذوات الحيض كانت عدتها ثلاث حيض . أو ثلاثة أطهار وإذا كانت آيسة لم تكن لها عدة كما إذا كانت غير مدخول بها لأن براءة رحمها محققة ؟ لا شك أن هذا واضح وأن القائلين بتعليل العدة لا يسعهم إلا اتباع علي وابن عباس أما الأئمة الأربعة الذين قالوا : إن عدة الحامل تنقضي بمجرد انفصال الجنين منها ولها أن تتزوج ولو لم يدفن زوجها المتوفى فإنهم قالوا : إن قوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } نسخ عموم قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم } الخ وأن العدة إما لبراءة الرحم . وإما أمر تعبدي تعبدنا الله به من غير حكمة فلا يرد عليهم ما ورد على صاحب اعلام الموقعين