أما الجواب عن الاعتراض الثاني فإن القرآن قد تواتر نقله كلمة كلمة وحرفا حرفا وانحصر في الموجود بين دفتي المصحف فلا يحتمل سقوط كلمة واحدة منه فلا سبيل للقول بأن خمس رضعات كانت موجودة وسقطت وقد دل الحديث على أنها كانت فيه فلما لم تتواتر علمنا أن لفظها نسخ وبقي حكمها وهذا الجواب حسن ولكن نسخ اللفظ وبقاء معناه لم تظهر له فائدة ما معقولة بل قد يقال عليه ان نسخ الأحكام معقول لأنها تابعة لأحوال الأمم وتطوراتها فلها فائدة واضحة بل قد تكون الأحكام الوقتية ضرورية لأمة حديثة العهد بالتشريع أما رفع اللفظ مع بقاء معناه فإن دل على شيء فإنه يدل على أن هذا اللفظ لا يناسب وضعه في هذه الجملة فلما وضع وظهر فساده حذف وهذا مستحيل على الله تعالى العليم الخبير ومع هذا فقد يقال : إن الحكم لا بد له من لفظ يدل عليه فإذا رفع اللفظ فما هو الدليل الذي يدل عليه ؟ فإن قلتم أنه دل عليه قبل رفعه : قلنا وقد انتفت الدلالة بعد رفعه فلم يبق للحكم دليل فإن قلتم : إن دليل الحكم اللفظ الذي يبينه به الرسول قلنا أن الحكم في هذه الحالة يكون ثابتا بالحديث لا بالقرآن المنسوخ فالحق أن القول بجواز نسخ اللفظ مع بقاء المعنى واه ومع ذلك كله فأي دليل يدل على أن اللفظ نسخ وبقي معناه ؟ أنه لا دليل لا في قول عائشة ولا في غيره .
وبعد فقد أول بعض المحققين خبر عائشة هذا بأنه ليس الغرض منه أن ذلك كان آية من كتاب الله بل كان حكما من الأحكام الشرعية التي أوحى الله بها إلى رسوله في غير القرآن وأمر القرآن باتباعها فمعنى قولها : كان فيما أنزل الله في القرآن عشر رضعات معلومات الخ كان من بين الأحكام التي أنزلها الله على رسوله وأمرنا باتباعها في القرآن أن عشر رضعات لا شك فيها يحرمن ثم نسخ هذا الحكم بخمس رضعات معلومات يحرمن وتوفي رسول الله وهذا حكم باق لم ينسخ فأما كونه منزلا موحى به فذلك لأنه A لا ينطق عن الهوى وأما كوننا مأمورين باتباع ما جاء به الرسول من الأحكام فلأن الله تعالى قال : { وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فلو أن الشافعية والحنابلة رضوا بهذا التأويل لخرجت المسألة من كونها قرآنا إلى كونها حديثا صحيحا وتكون دلالته على ما يريدونه ظاهرة ومع ذلك فإن الشافعية قد أولوا قول عائشة فتوفي رسول الله A وهو يقرأ - بأنه يذكر حكمه - وهذا التأويل يقربهم إلى تأويل الحديث كله بالمعنى الذي أشرنا إليه وقد جاء مثل هذا التأويل فيما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب بأن رجم الزاني المحصن نزل في كتاب الله فقال : إن معناه أن النبي A قد رجم فعلا والله تعالى قال : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فيكون الرجم على هذا مذكورا في كتاب الله أما ما نقله البخاري تعليقا من أن الذي كان في كتاب الله ورفع لفظه دون معناه فهو - الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة الخ - فإنني لا أتردد في نفيه لأن الذي يسمعه لأول وهلة يجزم بأنه كلام مصنوع لا قيمة له بجانب كلام الله الذي بلغ النهاية في الفصاحة والبلاغة فضلا عن كونه لا ينتج الغرض المطلوب فإن الرجم شرطه الإحصان والشيخ في اللغة من بلغ سن الأربعين فمقتضى هذا أنه يرجم ولو كان بكرا لم يتزوج وكذا إذا زنا الفتى في سن العشرين مثلا وهو متزوج فإنه لا يرجم فمثل هذه الكلمة لا يصح .
مطلقا أن يقال : إنها من كتاب الله .
والحاصل أن الأخبار التي جاء فيها ذكر كلمة من كتاب الله على أنها كانت فيه ونسخت في عهد رسول الله فهذه لا يطلق عليها أنها قرآن ولا تعطى حكم القرآن باتفاق ثم ينظر إن كان يمكن تأويلها بما يخرجها عن كونها قرآنا فإن الإخبار بها يعطى حكم الحديث وإن لم يمكن تأويلها فالذي أعتقده أنها لا تصلح للدلالة على حكم شرعي لأن دلالتها موقوفة على ثبوت صيغتها وصيغتها يصح نفيها باتفاق فكيف يمكن الاستدلال بها ؟ فالخير كل الخير في ترك مثل هذه الروايات . أما الأخبار التي فيها أن بعض القرآن المتواتر ليس منه أو أن بعصا منه قد حذف فالواجب على كل مسلم تكذيبها بتاتا . والدعاء على راويها بسوء المصير لأن إدخال شيء في كتاب الله ليس منه وإخراج شيء منه ردة نعوذ بالله منها .
وأما الدليل الثاني وهو ما رواه مسلم من أن الرضعة أو الرضعتين لا يحرم فقد رده الحنفية والمالكية فقالوا : إما أن يكون منسوخا أو تكون روايته غير صحيحة . وذلك لأن الله تعالى قال : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } فالله سبحانه لم يقيد الرضاعة بأي مقدار .
وقد روي عن ابن عمر أنه قيل له : أن ابن الزبير يقول : ولا بأس بالرضعة أو الرضعتين فقال قضاء الله خير من قضائه قال تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } واستدلال ابن عمر بهذه الآية فيه رد للحديث المذكور " لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان " إما بنسخ هذا الحديث وإما أن تكون الرواية غير صحيحة وظاهر هذا أن إطلاق الكتاب الكريم في مقام التشريع والبيان لا يصح تقييده بخبر الواحد لما عرفت من أن الأحاديث الظنية لا يصح أن تعارض المتواتر ولهذا قال ابن عمر : قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير لأن ابن الزبير لم يقل ذلك من تلقاء نفسه بل لا بد أن يكون مستمسكا بحديث فقال له ابن عمر : إن كتاب الله هو الذي يجب العمل به وحيث ورد مطلقا فلا يقيده الحديث ثم لينظر بعد ذلك للحديث فإما أن تكون رواية غير صحيحة وبذلك ينتهي الإشكال وإما أن يكون صحيحا ولكنه نسخ بهذه الآية أو بحديث آخر وفي هذا كلام في علم الأصول ليس هذا محله .
وأما الشرط الثاني المتعلق بحالة اللبن وكيفية وصوله إلى جوف الطفل : فهو أنه يشترط أن يصل اللبن إلى المعدة أو الدماغ بواسطة الفم والصب في الحلق ويقال له : الوجور أو الصب في الأنف ويقال له : السعوط وبذلك ينفذ إلى الدماغ أما إذا وصل إلى الجوف بحقنة من القبل أو الدبر أو وصل إلى الدماغ بتقطير في الأذن والقبل فإنه لا يتعلق به تحريم وبعضهم قيد التقطير في الأذن بما إذا لم يصل إلى الدماغ وإلا فإنه يعتبر كما إذا وصل إلى الدماغ من منفذ عارض كما إذا فتح بجراحة ونحوها ولا يخفى أن هذه صور فرضية محضة لا يكاد تقع إلا قهرا كما إذا مرض الطفل وتوقف دواؤه على لبن امرأة فحقن بلبن أجنبية . أو غذي به أو نحو ذلك فإذا لم يصل اللبن إلى المعدة أو الدماغ بأن تقايأه قبل وصوله فإنه لا يعتبر ولا يشترط في اللبن أن يكون سائلا بل إذا عمل جبنا أو قشدة أو نحو ذلك وتناول منه الصبي كان رضاعا شرعيا ينشر الحرمة وكذا لا يشترط أن لا يكون مخلوطا بغيره بل ينشر الحرمة مطلقا سواء خلط أو لا وسواء غلب على غيره أو لا وسواء أرضعته كل المخلوط أو بعضه ولكن يشترط في هذه الحالة تحقق وصول شيء من اللبن في الجوف في كل رضعة من الرضعات الخمس التي تقدم بيانها .
وإذا حلبت المرضعة لبن الرضعات وصب في حلق الصبي خمس مرات يحسب مرة واحدة أما إذا حلبت لبن خمس مرات وصب في حلقه مرة واحدة فإنه يعتبر خمسا .
الحنابلة - قالوا : يشترط في المرضع شرطان : أحدهما أن تكون امرأة فلو كانت بهيمة أو رجلا أو خنثى مشكلا فإن الرضاع لا يعتبر ولا يوجب التحريم ثانيهما : أن تكون ممن تحمل فإذا رضع من امرأة لا تحمل فإن رضاعه لا يعتبر ولا فرق في التحريم بين أن تكون المرضعة على قيد الحياة أو رضع منها وهي ميتة مادام اللبن ناشئا عن الحمل بالفعل . فإذا كانت عجوزا أو يائسة من الحيض والحبل ولم يكن لبنها ناشئا من حبل سابق " فإن الرضاع منها لا يحرم " خلافا للحنفية والمالكية أما الشافعية فإنهم وإن قالوا : إن المعتبر هو اللبن الناشئ من الحمل إلا أنهم اكتفوا في ذلك باحتمال الحمل ومتى بلغت سن تسع سنين وهو سن الحيض عندهم كان حملها وولادتها محتملين ولو لم تحض بالفعل لأن حيضها محتمل أيضا فالاحتمال عندهم كاف أما الحنابلة فإنهم يشترطون أن يكون اللبن ناشئا من الحمل ولذا قالوا في تعريف الرضاع : إنه مص أو شرب لبن ثاب من حمل وثاب بمعنى اجتمع أي اجتمع في ثدي المرأة أو بمعنى رجع إلى ثدي المرأة بسبب الحمل أما الرضيع فيشترط فيه أن يكون طفلا لم يتجاوز الحولين فإن تجاوزهما ولو بلحظة لا يعتبر رضاع ولا فرق بين أن يكون قد رضع في أثناء الحولين بعد فطامه . أو لا وإذا رضع الطفل أربع مرات وبلغ الحولين يقينا في أول الخامسة فإن رضاعه يعتبر اكتفاء بالرضاع الذي مضى أما اللبن فيشترط في مقداره أن يكون خمس رضعات وتعتبر الرضعة بترك الصبي للثدي فإذا أعطي الثدي للطفل فامتصه ثم تركه ولو قهرا عنه كأن قطعته المرضعة أو قطعه للتنفس أو للانتقال من ثدي إلى ثدي فإنها تحتسب عليه رضعة من الخمس خلافا للشافعية في هذا التفصيل ويشترط أن يصل إلى المعدة من طريق الفم أو بالصب في الحلق أو الأنف ويقال للأول : وجور وللثاني سعوط كما تقدم .
وإذا فرض وعمل لبن الثدي جبنا أو قشدة وأكل منه الطفل فإنه يعتبر كالرضاع وكذا إذا خلط بماء ونحوه وبقيت صفات اللبن به فإنه يحرم أما إذا استهلكت صفاته في الماء فإنه لا يحرم وإذا نزل اللبن في حلقه ثم تقايأه ولم يصل إلى جوفه لا يحرم وكذا إذا وصل بحقنة من القبل أو الدبر فإنه لا يحرم لأنه ليس برضاع وليس بمغذ في هذه الحالة )