ويحجر على المدين في تصرفاته المالية حتى لا تضيع على الناس حقوقهم وأموالهم التي استدانها منهم وفي ذلك تفصيل مبين في المذاهب .
( الحنفية - قالوا : كما أن السفه بالمعنى المتقدم سبب من أسباب الحجر . فكذلك الدين والغفلة فأما الدين الذي يحجر به فهو : أن يستدين الشخص ديونا تستغرق أمواله " وتزيد عنها " فيطلب الدائنون الذين لهم هذه الديون من القاضي أنيحجر عليه كي لا يتصرف في ماله الذي تحت يده فتضيع على الدائنين أموالهم والحجر لا يكون إلا للقاضي فمتى وضع عليه الحجر فلا يصح له أن يتصرف في ماله بصدقة أو هبة أو إقرار بمال لمن له عليه دين غير من حجر عليه بطلبهم . ولكنه يعامل بإقراره هذا بعد فك الحجر عنه . ويصح الحجر على المديون ولو كان غائبا ولكن يشترط لعدم نفاذ تصرفه علمه بالحجر " إعلانه " فإذا لم يعلم به وتصرف فإن تصرفه يقع صحيحا .
وللقاضي أن يبيع مال المحجور عليه بالدين لسداد الدائنين إذا امتنع من بيعه ويقسم بينهم بحسب حصة كل واحد في الدين .
وإذا تزوج المحجور عليه بسبب الدين صح تزوجه وللمرأة أن تشترك مع الدائنين في مهر المثل أما ما زاد على المثل فإنه يكون دينا في ذمته .
وللدائنين أن يلازموا المدين فيذهبوا معه حيث ذهب ولكن ليس لهم منعه من السفر ولا حبسه بمكان خاص وللقاضي أن يحبس المدين بدينه في كل دين التزمه بعقد كالمهر والكفالة فإذا حبسه شهرين أو ثلاثة أشهر ولم يظهر له مال في خلال ذلك فإنه يطلق سراحه وإن أقام البينة على أن لا مال له خلى سبيله لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } وتقبل البينة على الإعسار بعد الحبس فيطلق القاضي سراحه إذا شهد الشهود بأنه معسر .
ولا يضرب المحبوس بالدين ولا يغل بقيد ولا يخوف ولا يجرد ولا يكلف بالوقوف بين يدين صاحب الدين إهانة له ولا يؤجر ولكن يقيد إذا خيف هربه ولا يخرج المدين لجمعة ولا عيد ولا حج ولا لصلاة مكتوبة ولا لصلاة الجنازة ولا عيادة مريض ويحبس في موضع وحش لا يبسط له فرش ولا يدخل عليه أخذ ليستأنس به وكفى بذلك زجرا للناس عن الديون والتورط فيها لأن شريعتنا السمحة تجعل لصاحب الدين سلطانا على المدين في هذا الموقف الحرج . وقد عرفت أن هذا هو المختار المفتى به من مذهب الحنفية أما الإمام فإنه يقول : لا يحجر على الحر البالغ بسبب الدين وإن استغرق كل ماله وطلب الغرماء الحجر عليه ويعمل الحجر فيه شيئا فيصح أن يتصرف في ماله بجميع أنواع التصرف .
ومثل الحجر بسبب الدين : الحجر بسبب الغفلة والغفلة هي : كون الشخص لا يتهدي إلى التصرفات الرائجة في بيعه وشرائه فيغير فيهما لسلامة قلبه وهي غير السفه لأن السفيه هو المفسد لماله بالقصد والاختيار لتغلب الشهوات الفاسدة عليه واتباعه الغي والهوى أما ذو الغفلة " المغفل " فهو لا يفسد ماله قصدا ولا ينقاد لشهواته ولكنه يخدع بسهولة فيستطيع الناس أن يغبنوه في ماله وليس هو المعتوه لأن المعتوه يخلط في كلامه . وقد عرفت أن الإمام لا يرى الحجر على مثل هذا أيضا .
الشافعية - قالوا : يحجر على المدين بسبب الدين إن كان الدين أكثر من ماله أما إن كان ماله أكثر أو مساو فإنه لا يصح الحجر عليه ولا يحجر إلا إذا طلب الغرماء الحجر كلهم أو بعضهم أو طلب هو الحجر على نفسه " كالمفلس الذي يشهر إفلاسه " ولا يصح الحجر إلا إذا حل الدين أما إذا كان باقيا عليه مدة فإنه لا يصح .
ومتى طلب الغرماء الحجر فإنه يجب على القاضي أن يحجر على المفلس حالا . ومتى حجر عليه تعلق حق الغرماء بماله وصار ممنوعا من التصرف فيه فيبطل تصرفه من بيع وهبة ونحوهما حتى يقبض دينه .
ويصح للمفلس المحجور عليه أن يتزوج ويبقى المهر دينا في ذمته لا في المال الذي تحت يده وكذلك يصح خلعه وطلاقه ونحو ذلك وإذا أقر بدين عليه قبل الحجر فالأظهر أنه يقبل إقراره ويكون صاحب الدين شريكا لباقي الدائنين أما إذا قال : إنه استدان بعد الحجر فإن إقراره لا يقبل وإذا أقر بجناية لها عوض مالي بعد الحجر فإنه يقبل منه ويشارك المجني عليه الدائنين .
وإذا كان المحجور عليه بسبب الدين قد اشترى سلعة قبل الحجر ثم ظهر بها عيب فله أن يردها إن كانت المصلحة في ردها أما إذا كان العيب لا ينقص قيمتها وتساوؤ أكثر من الثمن الذي اشتراها به مع ذلك العيب فلا يجوز ردها .
ويستحب أن يبادر القاضي ببيع مال المفلس ولا يشترط أن يكون المدين حاضرا وكذلك الدائنون وإنما يسن ذلك ويجب أن يكون البيع بثمن المثل وأن يكون الثمن حالا لا مؤجلا فإذا لم يكن كذلك فإنه لا يصح البيع إلا برضاء المدين والدائنين وإذا لم يوجد مشتر بثمن المثل حالا فإنه يجب الصبر إذا كان فيه أمل بأن يوجد له مشتر بثمن الحال وما يتحصل من الثمن بعد البيع يقسم على الدائنين بنسبة ديونهم .
وإذا قسم ماله على الدائنين ثم ظهر غيرهم فإنه يشاركهم فيما أخذوه بنسبة دينه فيأخذ من كل واحد منهم نصيبا بنسبة ذلك .
المالكية - قالوا : الدين سبب من أسباب الحجر بشرط أن يستغرق الدين مال المدين ويزيد عليه واختلف فيما إذا كان مساويا له فقيل : إنه يكون سببا في الحجر وقيل : لا واستظهر أنه يكون سببا لأن الغرض حفظ حق الدائن فله منع كل ما ينقص دينه فإذا استغرق الدين كل مال المدين فإن لذلك أحوالا ثلاثة : .
الحالة الأولى : أ الدائنين لم يطلبوا من الحاكم تفليسه " نزع ماله منه وإعطائه للدائنين " وفي هذه الحالة يكون لهم الحق في منعه من التصرف فيما ينقص أموالهم سواء كان دينهم حالا أو مؤجلا فيمنعونه من التبرع والهبة والصدقة والوقف ويمنعونه من أن يضمن شخصا أو يقرض شخصا معدما ونحو ذلك مما فيه ضياع أموالهم ولا يحل لأحد أن يقبل من المدين المستغرق هبة أو هدية أو نحو ذلك وإذا كان لم يعلم ثم علم فإنه يجب عليه أن يرد ما أخذ لأن ذلك مال الغير وكذلك لهم الحق في منعه من الإقرار بدين لشخص يتهم بأنه إنما أقر له فرارا من الدين كولده وزوجه أما من لا يتهم معه فإن إقراره يعتبر .
وليس لهم الحق في منعه مما جرت به العادة كالصدقة القليلة للسائل وكنفقة العيدين والأضحية ونفقة ابنه وأبيه بدون إسراف وكذلك ليس لهم الحق في منعه من البيع والشراء والهبة بعوض ونحو ذلك مما لا يترتب عليه نقص في المال عادة إنما يكون لهم الحق في تفليسه .
الحالة الثانية : أن يحكم الحاكم بتفليسه أي بنزع ماله منه وإعطائه للدائنين وهذا لا يكون إلا بثلاثة شروط : .
الشرط الأول : أنيطلب الدائن التفليس فلا يصح بدون طلبه فلو طلب المدين تفليس نفس لا يصح وإذا تعدد الدائنون فإنه يكفي تفليسه أن يطلبه بعضهم ومتى فلسه الحاكم فإن الجميع يشتركون في ماله سواء من طلب ومن لم يطلب .
الشرط الثاني : أن يكون الدين حالا فلا يصح تفليسه بدين مؤجل .
الشرط الثالث : أن يكون الدين زائدا على ماله فإن كان مساويا فإنه لا يصح تفليسه ويترتب على هذه الحال أربعة أمور : .
أحدها : منعه من التصرفات المذكورة في الحالة الأولى .
ثانيها : منعه من البيع والشراء والتصرفات المالية .
ثالثها : قسمة ماله بين الدائنين .
رابعها : حلول الدين المؤجل إن كان عليه دين مؤجل . لا يلزم في الحكم بتفليسه أن يكون حاضرا بل يحكم عليه وإن كان غائبا .
الحالة الثالثة : أن لا يرفع الغرماء الأمر إلى الحاكم ولكنهم يقومون عليه فيستتر منهم فلا يجدونه فإن لهم أن يحولوا بينه وبين ماله ويمنعوه من التبرعات والتصرفات المالية بالبيع والشراء ونحوهما .
ويقسم مال المفلس المتحصل بالنسبة لمجموع الديون فيأخذ كل واحد من دينه بتلك النسبة ولا تتوقف قسمة ماله على معرفة أنه ليس له دائنون غائبون ولا يكلف الدائنون الحاضرون إثبات أنه ليس غيرهم .
ويحلف المدين بأنه لم يكتم من ماله شيئا فإذا حلف وانتزع الدائنون أمواله من تحت يده على الوجه المذكور فإن الحجر ينفك عنه ولو بقي عليه دين فإذا اكتسب مالا جديدا بميراث أو ربح تجارة أو هبة أو غير ذلك فإنه يكون مطلق التصرف فيه إلا إذا حجر الحاكم عليه ثانيا . وللدائن أن يمنع المدين من سفره حتى يقتضيه دينه ولو كان الدين غير مستغرق للمال بشروط : .
أحدها : أن يكون السفر طويلا بحيث يحل أجل الدين في غيبة المدين : أما إذا كان أمد الدين بعيدا عن المدين فليس للدائن منعه من السفر .
الشرط الثاني : أن يكون المدين موسرا أما إذا ثبت إعساره فإنه ليس له منعه من السفر .
الشرط الثالث : أن لا يوكل المدين عنه من يقوم بسداد الدين فإذا كان موسرا ووكل عنه من يسدد دينه عند حلوله أو ضمنه موسر فليس له منعه من السفر .
ويجوز حبس المدين الذي ثبت عليه الدين إلا إذا ثبت أنه معسر أما إذا ثبت أنه موسر فإنه يحبس حتى يسدد دينه أو يأتي بكفيل مالي . وإذا جهل حال المدين فإنه يحبس حتى يثبت أنه معسر .
الحنابلة - قالوا : الدين من أسباب الحجر ولكن بشرط أن يكون الدين أكثر من ماله الموجود ويسمى المدين الذي يستغرق الدين ماله ويزيد عليه مفلسا لأنه ماله الذي تحت يده مستحق للغير فهو معدوم في الواقع فيحجر على المفلس بواسطة الحاكم . ويشترط أن يطلب الدائنون كلهم أو بعضهم الحجر فإذا لم يطلبوا لم يحجر عليه .
وجميع تصرفات المدين قبل الحجر عليه من البيع والهبة والإقرار وقضاء بعض الدائنين فافذة أما بعد الحجر فإنه لا ينفذ شيء من تصرفه في ماله ببيع أو غيره . وكل ما يتجدد له من مال بعد الحجر فإنه يكون كالموجود حال الحجر فلا يصح له أن يتصرف فيه أيضا . وكذلك لا يصح الإقرار بشيء من ماله لغير الدائنين الذين حجروا عليه .
وبعد الحجر يبيع الحاكم ماله ويقسمه بين الغرماء بحسب ديونهم على الفور . ولا يحتاج الحاكم إلى استئذان المفلس في البيع ولكن يستحب أن يكون حاضرا كما يستحب أن يكون الدائنون حاضرين .
وإذا أقرضه أحد شيئا بعد الحجر أو باعه شيئا فليس له المطالبة إلا بعد فك الحجر عنه وللدائن منع المدين من السفر بشروط .
الشرط الأول : أن يكون السفر طويلا يحل الدين قبل فراغه .
الشرط الثاني : أن يكون مخوفا ولو كان قصيرا أما إن كان مأمونا لكنه قصير يحل الدين بعده فليس له منعه .
الشرط الثالث : أن لا يكون للدين رهن يفي به أو كفيل ذو مال فإن كان ذلك فليس له منعه .
الشرط الرابع : أن لا يكون السفر لجهاد متعين فإن كان لذلك فليس له منعه . وللحاكم حبس المدين الموسر الذي يمتنع عن الوفاء والحبس للدين من الأمور المحدثة . وأول من حبس عليه شريح وهو مأخوذ من قوله A : لي " مطل " الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته وقد فسر عرضه بشكواه للحاكم وعقوبته بحبسه .
تم الجزء الثاني - ويليه الجزء الثالث وأوله مباحث المزارعة