وقد علمت مما تقدر في مباحث الربا أنه لا يصح بيع الرطب بالتمر ولكن يستثنى من ذلك العرايا فيصح فيها الرطب بالتمر اليابس بشرائط خاصة . والعرايا جمع عرية : وهي هبة الثمرة الرطبة كرطب النخل والعنب ونحوهما من الفواكه الرطبة التي تيبس وتجف إذا تركت على أصلها فتستعمل جافة كما تستعمل رطبة كالجوز والعنب والزيتون واللوز والبندق والتين الذي يصلح للتجفيف بخلاف التين الذي لا يصلح كتين حدائق مصر فإنه لا يجفف فلا يكون له حكم العرايا . ومثله الموزون فإنه لا ييبس . وكذلك الخوخ والرمان والتفاح وسائر الفواكه التي لو تركت على أصلها لا تجف ولا ينتفع بها يابسة .
ويشترط لصحة بيع العرايا شروط الأول : أن يكون المشتري هو الذي وهب الثمرة أو من يقوم مقامه فإذا وهب شخص لآخر رطب نخلة فإنه يصح للواهب أن يشتريها من الموهوب له بنفسه أو من يقوم مقامه وهو الذي يملك النخلة بإرث أو شراء أو نحو ذلك . أما الثمن الذي يشتري به فيصح أن يكون بالتمر كيلا بأن يخرص ما عليها من الرطب " يقدر بالحدس والتخمين " فيقال هذا يساوي إردبا مثلا ثم يدفع له إردبا من التمر بحيث لا يزيد ولا ينقص فإن قطع رطبها ووجده أكثر مما قدر بالتخمين فإن عليه أن يرد الزائد للبائع وإن كان أقل وثبت كونه أقل فإن للمشتري أن يرده للبائع ويأخذ ما دفعه من الثمن ولا يلزم بشيء زائد وإن لم يثبت كونه أقل لزم المشتري أن يرده كاملا فضمن ما نقص منه . ولا يصح شراء الرطب بالتمر خرصا في العرية الموهوبة إلا إذا كان المشتري هو الواهب أو من يقوم مقامه كما علمت . ويصح شراؤها بالنقدين وبعروض التجارة على المشهور .
الثاني : أن يقول الواهب " المعري " حين هبة الثمرة : أعريتك هذه الثمرة ونحو ذلك . أما إن قال : وهبتك فلا يجوز لأن الرخصة خاصة بالعرية .
الثالث : أن يظهر صلاح الثمرة حين شرائها بخرصها لا حال هبتها فإن لم يظهر صلاحها فلا يصح بيعها .
الرابع : أن يكون شراؤها بنوعها إن كان بخرصها فلا يصح أن يشتري الجوز الرطب مثلا بالثمر .
الخامس : أن يدفع المشتري للبائع الثمن عند قطع الثمر المعتاد فإن شرط تعجيل الثمن بطل البيع وإن لم يعجل بالفعل .
السادس : أن يكون الثمن دينا في ذمة المشتري فلا يصح تعيين ثمر حديقة خاصة .
السابع : أن لا يزيد المشتري من العرية عن قدر معين وهو خمسة أوسق فأقل وقد تقدم بيانه في الزكاة وقد ذكر هناك أن الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق .
الحنفية - قالوا : الثمار لها ثلاثة أحوال : الحالة الأولى : أن لا تنعقد الثمرة ولا تبرز ولا تتميز عن زهرها وفي هذه الحالة لا يصح بيعها مطلقا لأنها تكون معدومة وقد عرفت أن المعدوم غير صحيح .
الحالة الثانية : أن تظهر الثمرة وتبرز بحيث يتناثر الزهر عنها إن كان لها زهر كالجوافى والمشمش وتتميز الثمرة ولو كانت صغيرة وفي هذه الحالة إما أن يظهر صلاح الثمرة أو لا يظهر فإن ظهر صلاحها فإن بيعها يصح مطلقا ومعنى ظهور صلاحها : هو أن يؤمن عليها من العاهات والفساد فمتى اجتازت الثمرة الأدوار التي تكون فيها عرضة للفساد بسبب الآفات الجوية وغيرها فقد ظهر عند ذلك صلاحها . أما إذا لم يظهر صلاحها فإنها لا يصح بيعها بشرط تركها على الشجر لأن هذا شرط لا يقتضيه العقد فإنه يستلزم شغل الشجر المملوك للغير وهو مناف للملك فإذا لم يشترط ترك الثمرة على الشجر كما لا يشترط قطعها بل سكت عن ذلك فإن ذلك يشمل صورتين : .
الصورة الأولى : أن يكون الثمر على حالة بحيث يمكن الانتفاع به ولو علفا للدواب والبيع في هذه الصورة صحيح لأنه إنما يفسد بشرط الترك فقط .
الصورة الثانية : أن يكون على حالة بحيث لا ينتفع به أصلا والبيع في هذه الصورة مختلف في صحته والصحيح أنه يجوز لأنه مال وإن لم يمكن الانتفاع به في الحال ولكن يمكن الانتفاع به بعد حين ومن شاء أن يجعل البيع في هذه الصورة جائزا باتفاق فإنه يصح له أن يحتال على ذلك بشراء أوراق الشجر من الثمرة فتكون تابعة لأوراق الشجر وحينئذ يصح البيع باتفاق ما لم يشترط تركهما على الشجر . الحالة الثالثة : أن ينعقد بعض الثمر ويبرز دون بعضه ويشمل هذا أربع صور الصورة الأولى : أن يبيع الموجود فقط ويؤخر بيع ما لم يوجد حتى يتم وجوده والبيع في هذه الحالة صحيح وتجري عليه أحكام ما ظهر صلاحه وما لم يظهر المتقدمة . الصورة الثانية : أن يبيع الموجود فقط بجميع ثمنه وثمن ما سيوجد ثم يبيح البائع للمشتري أن ينتفع بما يحدث من الثمر وحكم هذه الصورة كسابقتها .
الصورة الثالثة : أن يبيع الموجود بدون ذكر لما لم يوجد وبدون اشتراط القبض ثمرة أو تركها وتشمل هذه الصورة أمرين : الأول أن يقبض المشتري المبيع ثم يثمر بعد القبض ثمرة جديدة وفي هذه الحالة لا يفسد البيع ويكون البائع شريكا للمشتري فيما حدث من الثمرة لاختلاطه بالثمرة التي كانت بارزة وقت البيع والقول للمشتري في مقدار ما حدث من يمينه لأنه في يده ومثل الثمرة التي على الشجرة ثمار الخضر التي تحدد بعد قطعها كالباذنجان والبطيخ والعجور . الأمر الثاني : أن يحدث الثمر قبل قبض المبيع وفي هذه الحالة يفسد البيع لأنه لا يمكن تسليم المبيع لاختلاط الحادب بالموجود وقت العقد فأشبه هلاك المبيع قبل التسليم . الصورة الرابعة : أن يبيع الموجود المعدوم وفي هذا خلاف : فقال لعضهم . إن البيع يكون فاسدا لأن بيع المعدوم منهي عنه وإنما رخص النبي A في بيع المعدوم في السلم للضرورة وهذا القول هو ظاهر الرواية وقال بعضهم : إن البيع صحيح لتعامل الناس به وفي نزع الناس عن عاداتهم حرج وحيث أجاز رسول الله A لضرورة الناس ورفع الحرج عنهم فكذلك الحال هنا . ومن هذا يتضح أن الناس الذين يبيعون الحدائق " الجناين " في زماننا يستطيعون أن يتبعوا قواعد دينهم بسهولة فليس فيها حرج عليهم فإن في الصورة التي وضحناها لهم ما فيه كفايتهم . على أنها كلها ملاحظ فيها رفع النزاع بين البائع والمشتري وقطع جرثومه الخصام والله الهادي إلى سواء السبيل .
تنبيهان : الأول : إنك قد عرفت في المبحث الذي قبيل هذا أن الثمر الذي على شجرة لا يتبع الشجرة فيبيعه إلا إذا اشترطه المشتري فهو حق للبائع سواء أبر أو لم يؤبر والتأبير : التلقيح وهو أن يتشقق غلاف الطلع فيؤخذ منه ويوضع على طلع المخلة ويدخل في الثمر الورد والياسمين ونحوهما من المشمومات . أما الزرع فقد اختلف في جواز بيعه قبل أن تناله المناجل بحيث يمكن قطعه بها فبعضهم قال : يجوز وبعضهم قال : لا . والأوجه جواز بيعه رجاء أن يكبر بعد فإذا نبت الزرع وكانت له قيمة ثم بيعت الأرض التي هو عليها فإنه لا يدخل إلا بالشرط أما إذا نبت ولم تكن له قيمة فقيل : يدخل في البيع بدون شرط . وقيل : لا يدخل إلا بالشرط . والأصح أنه يدخل بدون شرط فقيل : يدخل في البيع بدون شرط . وقيل : لا يدخل إلا بالشرط . والأصح أنه يدخل بدون شرط وكذلك إذا لم ينبت " كربة " البرسيم وخلفة الزرع الذي يتجدد بعد قطعه فقيل : يدخل . وقيل : لا يدخل .
الثاني : قد تقدم في مباحث الربا أنه يجوز بيع الرطب بالتمر سواء كان في العرايا أو غيرها .
الحنابلة - قالوا : لا يصح بيع الثمار حتى يظهر صلاحها كما لا يصح بيع الزرع حتى يشتد حبه وظهور الصلاح في التمر : هو أن ينضج ويطيب أكله وفي الحب هو أن يشتد أو يبيض على أنه يصح بيع ما لم يظهر صلاحه بشروط . الشرط الأول : أن يشترط قطعه في الحال ولا يصح له أن يستأجر الشجرة أو يستعيرها لترك الثمرة عليها حتى تنضج . الشرط الثاني : أن يكون منتفعا به حين القطع . الشرط الثالث : أن لا يكون مشاعا كأن كان له نصف ثمرة نخل مشاعا فإنه لا يصح بيعه قبل ظهور صلاحه لأنه لا يستطيع قطع ما يملكه إلا بقطع ما لا يملكه وليس له ذلك .
الشرط الرابع : أن يبيعه مع الأصل بأن يبيع الثمرة مع الشجر أو يبيع الزرع مع الأرض . أو يبيع الشجرة أولا لشخص ثم يبيع له ثمرها بعد ذلك .
ولا تباع ثمار الخضر التي تتجدد " إلا قطفة قطفة " فليس له أن يبيع غلا الموجود أما الذي يوجد بعد ذلك فإنه لا يصح بيعه إلا أن يبيعه مع الأرض وذلك كالقثاء والعجور ولكن يصح بيعه مع أصوله " عروشه التي ينبت منها " لأن الثمار في هذه الحالة تكون تابعة للأصل .
وحكم القطن حكم الزرع فمتى كان لوزه ضعيفا رطبا لم يشتد ما فيه لم يصح بيعه كالزرع الأخضر غلا بشرط القطع في الحال . وإذا اشتد جاز بيعه مطلقا بشرط بقائه كالزرع إذا اشتد حبه ومثل القطن الباذنجان .
وإذا ظهر صلاح الثمر أو الزرع جاز بيعه مطلقا بغير اشتراط قطع أو ترك في محله . وإذا باع نخلا قد تشقق طلعه - بكسر الطاء - غلاف العنقود الربيض فالثمن للبائع دون العراجين والسعف والليف ولا يشترط التأبير بالفعل - التلقيح : وهو وضع طلع الفحل في طلع الشجر - وللبائع الحق في إبقاء التمر على النخل إلى وقت استوائه وكمال حلاوته وذلك بشرطين : أحدهما : أن لا يشترط المشتري قطعه في الحال . الثاني : أن لا يحصل ضرر للنخل ببقائه فإن لم يتحقق الشرطان فإن البائع يجبر على القطع .
ومثل البيع في هذه الأحكام : الرهن والهبة والإجارة والخلع والصداق فإذا وهب نخلا أو أجره أو جعله خلعا أو صداقا وكان عليه تمر فإن حكمه في التبعية وغيرها كالبيع )