البيع والشراء مشروع ليربح الناس من بعضهم فأصل المغابنة لا بد منها لأن كلا من البائع والمشتري يرغب في ربح كثير . والشارع لم ينه عن الربح في البيع والشراء ولم يحدد له قدرا وإنما نهى عن الغش والتدليس ومدح السلعة بما ليس فيها وكتم ما بها من عيب ونحو ذلك . فمن فعل بسلعة شيئا من ذلك كان لمن أخذها الحق في ردها كما تقدم مفصلا في مباحث الخيار وقد شرع الخيار ليكون للبائع والمشتري فرصة في التأمل حتى لا يغبن أحدهما ولا يندم كما تقدم . فمن الممكن أن يحتاط البائع والمشتري حتى لا يغبن واحد منهما غبنا فاحشا . ولكن إذا وقع ذلك بدون تدليس ولا غش فما هو حكمه وما هو الحد الذي يغتفر منه وما لا يغتفر ؟ في ذلك تفصيل المذاهب .
( المالكية - قالوا : المشهور في المذاهب أنه لا يرد المبيع بالغبن في الربح ولو كان كثيرا فوق العادة إلا في أمور : .
أحدها : أن يكون البائع والمشتري بالغبن الفاحش وكيلا أو وصيا فإذا كان كذلك فإن بيعها وشراءها يرد . فللوكل أو المحجور عليه أنيرد المبيع فإذا وكل شخص آخر بأن يشتري له سلعة فاشتراها له بغبن فاحش أو محاباة لبائعها كان للموكل الحق فيرد تلك السلعة إذا كانت قائمة لم تتغير فإن تغيرت فإن له الحق في الرجوع على البائع بالزيادة التي وقع فيها الغبن فإن تعذر الرجوع على البائع كان له الحق في الرجوع بذلك على المشتري وهو الوكيل .
وكذلك إذا وكله في أن يبيع له سلعة فباعها بنقص فاحش فإن له أن يستردها إذا لم يطرأ عليها ما يمنع الرد فإذا لم يمكن ردها رجع بالنقص على المشتري فإن تعذر رجع به على البائع . ومثل الوكيل الوصي . فإن للمحجور عليه أن يفعل في بيعه وشرائه ذلك .
واختلف في حد الغبن الفاحش فقال بعضهم : إذا بيعت السلعة بزيادة الثلث عن قيمتها أو بنقص الثلث كان غبنا ولكن المعتمد أن الغبن زيادة السلعة عن قيمتها زيادة بينه أو نقصها نقصا بينا فمتى كانت الزيادة أو النقص ظاهرين كان ذلك غبنا فاحشا .
ثانيها : أن يستسلم المشتري للبائع كأن يقول له : بعني هذه السلعة كما تبيعها للناس أو يستسلم البائع للمشتري بأن يقول له : اشتر مني كما تشتري من الناس فإنه في هذه الحالة إذا غبن البائع أو المشتري غبنا فاحشا كان لهما الحق في رد المبيع .
ثالثها : أن يستأمن البائع المشتري أو العكس كأن يقول له : ما تساوي هذه السلعة من الثمن لأشتري به أو أبيعها به ؟ فإذا أخبره بنقص أو زيادة كان له الحق في رد السلعة .
وقد أفتى بعض أئمة المالكية بأن المبيع إذا زاد على الثلث أو نقص عنه فسخ البيع بشرط أن يكون البائع قد باع وهو عالم بالغبن أو يكون المشتري قد اشترى وهو عالم بذلك واستمر قائما لم يتغير قبل مجاوزة العام وقد جرى العمل على ذلك في بعض الجهات الإسلامية .
الحنابلة - قالوا : يرد المبيع بالغبن الفاحش بالزيادة أو النقص في ثلاثة صور : .
الصورة الأولى : تلقي الركبان .
الصورة الثانية : بيع النجش . وقد تقدم الكلام عليهما قريبا .
الصورة الثالثة : أن يكون البائع أو المشتري لا معرفة لهما بالأسعار ولا يحسنان المماكسة . ويقبل قوله بيمينه أنه جاهل بقيمة الثمن ما لم تقم قرينة تكذبه في دعوى الجهل . ويرى بعضهم أنه لا يسمع قوله إلا ببينة تشهد بأنه جاهل بقيمة الثمن أما من يحسن المماكسة وله خبرة بالأسعار فإنه لا حق له في رد المبيع ولو غبن غبنا فاحشا . وحد الغبن الفاحش : أن يزيد المبيع أو ينقص عما جرت به العادة .
الحنفية - قالوا : الغبن الفاحش هو ما لا يدخل تحت تقويم المقومين كما إذا اشترى سلعة بعشرة فقومها بعض أهل الخبرة بخمسة وبعضهم بستة وبعضهم بسبعة ولم يقل أحد إنها بعشرة فالثمن الذي اشتريت به لم يدخل تحت تقويم أحد . أما إذا دخل تحت التقويم كأن قال بعضهم : بثمانية وبعضهم بسبعة وبعضهم بعشرة فإنه لا يكون غبنا لأن السعر الذي اشتريت به قال به بعضهم فدخل تحت التقويم وحكم الغبن الفاحش : أن المبيع لا يرد به إلا في حالة الغرر فإن قال البائع للمشتري : إن هذه " القطنية " مثلا بلدية فاشتراها بأربعة جنيهات ثم تبين أنها شامية تساوية جنيهين فللمشتري الحق في ردها .
وكذا إذا قال المشتري للبائع : إن هذا الخروف يساوي في السوق جنيها فصدقه وباعه له ثم تبين أنه يساوي جنيهين فإن للبائع الحق في فسخ البيع . وإذا تصرف في بعض المبيع قبل علمه فإن كان مثليا فإنه يصح أن يأتي بالمثل الذي تصرف فيه ويرد المبيع كاملا ويأخذ ما دفعه من الثمن كاملا . أما إذا كان قيميا وتصرف فيه أو في بعضه أو حدث فيه ما يمنع الرد فإنه يسقط خياره حينئذ .
الشافعية - قالوا : الغبن الفاحش لا يوجب رد المبيع متى كان خاليا من التلبيس سواء كان كثيرا أو قليلا على أن من السنة أن لا يشتد البائع أو المشتري حتى يغبن أحدهما صاحبه . وقد عرفت أن من يتلقى الركبان فيشتري منهم بغبن فإن شراءه لا ينفذ ولهم الحق في الرجوع )