من الأصناف الستة المذكورة في الحديث المتقدم بيع البر بالبر والشعير بالشعير وقد قاس الأئمة على هذين النوعين غيرهما من أنواع الحبوب على حسب اختلاف وجهة نظرهم في العلة كما علمت فلا يصح بيع القمح بالقمح إلا مثلا بمثل يدا بيد كما هو منصوص في الحديث وكذلك الشعير . ولكن يصح ( المالكية - قالوا : الشعير والقمح جنس واحد وكذلك السلت " الشعير النبوي " فالثلاثة لا تفاوت بينها لأن المعول عليه في اتحاد الجنس واستواء المنفعة أو تقاربها .
فأنواع القمح والشعير متقاربة فيها لأن الغرض منها القوت وهو حاصل وإن كان يتفاوت من حيث الطعم والجودة فلا يصح بيع الأشياء الثلاثة ببعضها إلا مثلا بمثل يدا بيد . وهذا هو الراجح عندهم . وبعضهم يقول : إن القمح والشعير جنسان مختلفان ) بيع الشعير بالقمح متفاضلين يدا بيد فيصح أن يبيع كيلة من القمح بكيلتين من الشعير بشرط التقابض في المجلس ويقاس على ذلك الذرة والأرز والفول والحمص والترمس والدخن وحب البرسيم ( الشافعية والمالكية - قالوا : البرسيم ليس داخلا في الأصناف التي يدخلها ربا الفضل لأن العلة عند الشافعية الطعمية وهي كونها طعاما للآدمي غالبا وحب البرسيم ليس كذلك . والعلة عند المالكية كونه صالحا للقوت والادخار والبرسيم ليس كذلك ) والحلبة ( الشافعية - قالوا : الحلبة اليابسة يدخلها ربا الفضل لا بعلة كونها مكيلة كما يقول الحنفية والحنابلة وإنما يدخلها بعلة كونها تستعمل دواء فهي مقيسة على الملح المصلح لأنها مصلحة للبدن . أما الحلبة الخضراء فليست من الأصناف التي يدخلها الربا كما تقدم .
المالكية - قالوا : الحلبة لا يدخلها ربا الفضل سواء كانت يابسة أو خضراء واختلف في هل يدخلها ربا النساء أو لا ؟ فقال بعضهم : إنها دواء لا يدخلها ربا النساء أيضا وقال بعضهم : إنها طعام يدخلها ربا النساء ) والجلبان والبسلة وجميع أصناف الحبوب التي تباع بالكيل فإنها لا يصح بيع جنسها ببعضه إلا مثل بمثل ويصح بيعها بالجنس الآخر مفاضلة يدا بيد .
أما بيع الدقيق بالحب أو الخبز وما يتعلق بذلك ففيه تفصيل في المذاهب .
( المالكية - قالوا : الحب والدقيق جنس واحد لأن الطحن لا يخرج الشيء عن جنسه لأنه عبارة عن تفرقة أجزائه مع بقاء تلك الأجزاء . وكذلك العجين مع الدقيق والحب فإن العجن لا يخرجه عن جنسه فلا يصح بيع واحد منهما بالآخر إلا مثلا بمثل بدون زيادة فلو باع قمحا بدقيق مأخوذ منه فإنه يصح إذا كانا متساويين . ويعرف تساويهما بالوزن وقيل : يعرف بالوزن والكيل وكذلك لا يصح أن يبيع دقيقا أو حنطة بعجين مأخوذ منهما إلا مثلا بمثل كما ذكر لأنها جنس واحد أما إذا اختلف الجنس كأن باع دقيقا من الذرة بحب من القمح فإنه يصح بيعه متفاضلا بشرط التقابض في المجلس . ويعرف التماثل بين الدقيق والعجين بالتحري عن قدر الدقيق الموجود في العجين ويبدل بمثله ويعرف التماثل بين العجين والقمح بالتحري عن قدر الدقيق الموجود في القمح والعجين . أما إذا اختلف الجنس كبيع دقيق من الحنطة بذرة فإنه يصح مع التفاضل إذا كان يدا بيد .
أما الخبز فإنه جنس مغاير للدقيق والعجين والحنطة لأن صنعة الخبز جعلته جنسا منفردا فيصح أن يبيع خبزا بدقيق أو حنطة أو عجين متفاضلا بشرط التقابض . على أن الخبز جميعه جنس واحد ولو كان أصله مختلفا فلا يصح بيع أقراص الخبز " الأرغفة " المأخوذة من القمح بأقراص الخبز المأخوذة من القمح أيضا أو من الشعير أو من الذرة وهكذا إلا مثلا بمثل ويدا بيد لأنها كلها جنس واحد . فلا يصح التفاضل فيها إلا الكعك فإنه جنس على حدة لما خالطه من السمن والسمسم والمحلب واللبن وغير ذلك فيصح بيعه متفاضلا يدا بيد .
ثم إن كان الخبز مأخوذا من صنف واحد كالقمح فإن المثلية تعتبر بالتحري عن قدر الدقيق الموجود في كل منهما فإذا كان قدر الدقيق فيهما متساويا كان مثلين وإلا فلا أما إن كان مأخوذا من صنفين مختلفين من الأصناف التي توجد فيها علة الربا كالقمح والذرة فإن المثلية تعتبر بوزنهما بدون تحر عن الدقيق . وإنما يشترط في الخبز إذا كان العقد بيعا . أما إذا كان قرضا فإنه لا يشترط فيه ذلك وإنما المعول في ذلك على العد فيصح أن يقترض خمسة أرغفة ويردها كذلك وإن كانت أقل وزنا أو أكثر اتباعا للعرف . ولا بأس بما يفعله الجيران من قرض الخبز والخميرة ورد مثلها بدون تحر .
وسلق الحبوب " كالبليلة " لا يخرجها عن جنسها أيضا ولكن لا يصح بيع المسلوق بغير المسلوق مطلقا لا متفاضلا ولا متماثلا لأنه لا يصح بيع الرطب باليابس لعدم تحقق المماثلة كما لا يصح بيع المسلوق بالمسلوق لهذه العلة .
الحنفية - قالوا : لا يصح بيع الدقيق المأخوذ من جنس بجنسه فلا يصح بيع الدقيق المأخوذ من القمح بالقمح . وكذلك المأخوذ من الذرة بالذرة وهكذا كانا متساويين أو لا وذلك لأن التساوي في مثل ذلك غير محقق فإن الدقيق ينكبس في المكيال أكثر من القمح فلا تزال شبهة الزيادة باقية لأنها إنما تزول في بيع الجنس بمثله إذا كان التساوي محققا أما بيع الدقيق المأخوذ من جنس بغير جنسه فإن يصح كالدقيق المأخوذ من القمح إذا بيع بالشعير فإنه يصح لاختلاف الجنس متى كان يدا بيد . وكذلك لا يصح بيع الدقيق الناعم بالمجروش " المدشوش " إذا كان متحد الجنس للعلة المذكورة لا متساويا ولا متفاضلا أما بيع الدقيق بالدقيق المتحد الجنس فإنه يجوز بشرط التساوي في الكيل . أما بيع الدقيق بالدقيق وزنا فإنه لا يجوز . وكذلك يصح بيع الدقيق المنخول بالدقيق غير المنخول إذا تساويا في الكيل كما يصح بيع المدشوش مع التساوي في الكيل .
ويجوز بيع الخبز بالحنطة وبيع الحنطة بالخبز متساويا ومتفاضلا لأن الخبز صار بالصفة جنسا مختلفا من الحنطة ولا يشترط في ذلك التقابض وإنما يشترط التعيين الآتي بيانه قريبا بل يصح أن يبيع عشرين رغيفا من الخبز مقبوضة بكيلة من القمح يأخذها بعد شهر وإن كان الكيلة أكثر من الأرغفة كما يصح أن يبيع إردبا من القمح بمائة أقة من الخبز يأخذها بعد أيام وقيل : لا يصح في الحالة الثانية وهو ما إذا كان المؤجل الخبز ولكن الفتوى على أنه يصح . وكذلك يصح بيع الدقيق بالخبز والخبز بالدقيق على التفصيل المذكور في الحنطة .
ويصح استقراض الخبز كأن يأخذ خمسة أرغفة من جاره على أن يردها ولكن يشترط لصحة ذلك الوزن على المفتى به . وبعضهم يقول : يجوز بالوزن والعد .
ويجوز بيع الحنطة المبلولة بالحنطة المبلولة والمبلولة باليابسة والرطبة بالرطبة واليابسة باليابسة وفي بيع الحنطة المقلية " الفشار " بالحنطة غير المقلية خلاف والأصح أنه لا يجوز وإن تساويا كيلا وأما بيع المقلية بالمقلية فإنه يجوز بشرط التساوي .
الحنابلة - قالوا : لا يصح بيع الدقيق بالحب المأخوذ منه مطلقا فلا يصح أن يبيع برا بدقيق مأخوذ منه لأنه يشترط التساوي في بيع الجنس الواحد ببعضه والقمح والدقيق جنس واحد ولكن تساويهما متعذر لأن أجزاء الحب تنتشر بالطحن . وكذلك لا يصح بيع الخبز بالحب المأخوذ منه كما لا يصح بيعه بدقيقه ولا وزنا . ولا يصح بيع الحنطة المبلولة باليابسة وكذلك لا يصح بيع الرطبة " الفريك " قبل تجفيفه باليابسة أما بيع الخبز بالخبز فإنه يصح إذا كانا متساويين فإن زاد أحدهما على الآخر فإنه لا يصح .
الشافعية - قالوا : يشترط في بيع بعض الجنس ببعضه ثلاثة شروط : الحلول فلا يصح بيعه مؤجلا فلو اشترط التأجيل ولو درجة لا يصح . والتقابض الحقيقي في المجلس بأن يقبض البائع المبيع والمشتري الثمن في المجلس فلا تنفع فيه الحوالة ولو قبضه في المجلس والمماثلة يقينا بأن يمكن التأكد من المماثلة فإذا شك فيها لم يصح البيع . أما بيع الجنس بعضه ببعضه فإنه يشترط فيه الحلول والتقابض فقط ولا تشترط المماثلة كما يأتي في الصرف .
ومن هذا يتضح لك أنه لا يصح بيع دقيق بجنسه فلا يصح بيع دقيق الحنطة بدقيق الحنطة مثلا لانتفاء المماثلة اليقينية لسبب النعومة الطارئة عليه إذ قد يكون أحد البدلين أنعم من الآخر فلا ينكبس في الكيل وكذلك لا يصح بيع دقيق الحنطة بيع الخبز المأخوذ من القمح بخبز الشعير مثلا فإنه جائز لاختلاف الجنسين والمماثلة اليقينية ليست شرطا في بيع خبز القمح بخبز الشعير مثلا فإنه جائز لاختلاف الجنسين والمماثلة اليقينية ليست شرطا في بيع بعضهما ببعض .
ويصح بيع دقيق القمح بدقيق الذرة أو الشعير لاختلاف الجنس وكذا باقي الأنواع متى اختلف جنسها لعدم اشتراط المماثلة فيه كما علمت ومثل الدقيق الفول المجروش " المدشوش " فإنه لا يجوز بيعه ببعضه . وكذا العدس المدشوش ومثل الخبز : الكنافة والشعرية فإنه لا يصح بيع كل جنس من هذه الأجناس ببعضه لانتفاء المماثلة الحقيقية أما بيعه بالجنس الآخر فإنه يصح متى تحقق الشرطان الآخران وهما التقابض والحلول ) .
ويعرف اختلاف الأجناس واتحادهما بأمور مفصلة في المذاهب .
( الحنفية - قالوا : يعرف اختلاف الجنس بأمور ثلاثة : .
أحدها : اختلاف الأصل ومثاله الخل المأخوذ من التمر الرديء ويسمى " دقلا " بفتح الدال والقاف والخل المأخوذ من نشارة الخشب مثلا فإنهما حنسان مختلفان وإن كان كل منهما خلا لأن أصلهما المأخوذين منه مختلف . وكذلك لحم البقر مع لحم الضأن فإنهما جنسان مختلفان وإن كان كل منهما لحم .
ثانيهما : اختلاف الغرض المقصود من المبيع كصوف الغنم وشعر المعز فإن ما يقصد من شعر المعز من الاستعمال غير ما يقصد من صوف الغنم فهما جنسان مختلفان . بخلاف لحمهما فإنه جنس واحد لأنه يصدق عليه اسم واحد وهو الغنم . ومثل لحمهما لبنهما فإنه جنس واحد .
ثالثها : زيادة الصنع كالخبز مع الحنطة فهما جنسان مختلفان لتبدل صفتهما بالصفة التي حدثت في عمل الخبز .
ومن هذا تعلم أن الشعير والقمح جنسان مختلفان لأن كل منهما أصل قائم بنفسه مغير للآخر على أن الغرض من استعمالهما مختلف لأن القمح قد يقصد لعمل الفطير والكنافة والكعك بخلاف الشعير فإنه لا يصلح لذلك .
الحنابلة - قالوا : كل شيئين فأكثر أصلهما واحد قد اجتمعا في اسم واحد فهما جنس واحد سواء اختلف القصد من استعمالهما أو اتحد فمثال الأول : القمح فإن له أنواعا كالهندس والصعيدي والبعلي والبحيري والاسترالي فهذه الأنواع يجمعها اسم قمح فهي كلها جنس متحد وكذلك الملح فإن له أنواعا : الرشيدي والمنزلاوي والدمياطي . ولكن كلها يجمعها لفظ ملح فهي جنس واحد ولا شك أن الغرض من الاستعمال في القمح والملح لا يختلف وإن كان في بعضه ميزة عن الآخر . ومثال الثاني وهو ما يختلف الغرض من استعماله : الزيت السيرج مثلا إذا أضيف إلى بعضه دهن الياسمين وأضيف إلى بعض آخر منه دهن الورد وأضيف إلى بعض دهن البنفسح فأصبح عطرا مختلفا يختلف الغرض من استعماله ولكن أصله واحد فهو جنس واحد . وإنما الذي جعله ياسمين وبنفسج وورد هي الرياحين التي أضيفت إليه . فلم تخرجه عن كونه جنسا واحدا وهو الزيت .
المالكية - قالوا : يعرف اتحاد الجنس باستواء المنفعة أو تقاربها . فالملح وإن تنوع إلى رشيدي وغيره إلا أن منفعة الجميع وهي إصلاح الطعام واحدة . والقمح وإن تنوع إلى هندي ومصري لكن منفعته واحدة أما الشعير والقمح فإن منفعتهما متقاربة وهي كونهما يقتات بهما ويختلف الجنس باختلاف أصله المأخوذ منه إذا لم يكن الغرض منه شيء واحد مثل الخل المستخرج من أصناف مختلفة فإن الغرض منه شيء واحد وهو الحموضة وهي موجودة في الخل المستخرج من نشارة الخشب ومن الخل المستخرج من التمر فيكون الخل جنسا واحدا أما إذا كان الغرض منه مختلفا فإنه يكون أجناسا يصح أن يباع بعضها ببعض متفاضلة يدا بيد لأن الزيت وإن كان واحدا لكن الغرض منه مختلف وأصله أيضا مختلف ومثل الزيت العسل المستخرج من قصب السكر ومن البنجر وعسل النحل فهو أجناس مختلفة : أما السكر والعسل فهما جنسان مختلفان وسيأتي بيانه في مبحثه قريبا .
الشافعية - قالوا : اتحاد الجنس بين طعامين هو أن يكون لهما اسم خاص يشتركان فيه اشتراكا حقيقيا بمعنى أن تكون حقيقتهما واحدة كالقمح الهندي والقمح الاسترالي فإنهما مختصان باسم القمح مشتركان فيه اشتراكا حقيقيا وأما إذا كان الاسم عاما كالحب بالنسبة للقمح فإنه ليس بجنس واحد لأن الحب يشمل ايضا الذرة والأصناف الأخرى وكذلك ما إذا اشتركا فيه اشتراكا لفظيا كالبطيخ إذا أطلق على النوع الأخضر منه والأصفر ويسمى " قاوونا " فإن ذلك الاشتراك لفظي فهما جنسان مختلفان لأن حقيقتهما مختلفة ) .
ويعرف ما يباع بالكيل وما يباع بالوزن بما كان عليه المسلمون في عهد النبي A على تفصيل في المذاهب .
( الشافعية - قالوا : المعتبر فيما يباع بالكيل عادة أهل الحجاز : مكة والمدينة . واليمامة والقرى التابعة لها كالطائف وجدة وخيبر وينبع فما كان يبيعه أهل الحجاز بالكيل يكون مكيلا ولو باعه الناس بالوزن أو العد بعد ذلك فمتى كان الشيء يكال في عهد رسول الله A فإن معياره الكيل ولو كان بغير الآلة التي يكال لها في ذلك العهد . ومتى كان يوزن في ذلك العهد فإن معياره الوزن ولو غير الناس هذه العادة . أما ما لم يعرف في عهد النبي A أو كان مستعملا في غير الحجاز أو كان مستعملا في الحجاز تارة بالكيل وتارة بالوزن فإن كان المبيع أكبر جرما من التمر المعتدل فإنه يعتبر فيه بالوزن كالجوز والبيض فإن الكيل لم يعهد في الحجاز يومئذ لصنف أكبر من التمر أما إن كان مساويا للتمر أو دونه كاللوز والبندق والفستق فيعتبر عادة بلد المبيع حالة البيع .
( يتبع . . . )