قد عرفت أن ربا النسيئة هو بيع الجنس الواحد ببعضه أو بجنس آخر مع زيادة في نظير تأخير القبض . كبيع إردب من القمح الآن بإردب ونصف يدفع له بعد شهرين . وكبيع عشرين جنيها الآن بخمسة وعشرين تدفع له بعد سنة . وكبيع إردب من القمح الآن بإردبين من الذرة يدفعان له بعد ستة أشهر لأنه وإن اختلف الجنس في القمح والذرة ولكن يشترط فيه التقابض وعدم تأجيل الدفع وإلا كان ربا .
وإذا كان كذلك : فهل كل جنس في البيع يدخله الربا ؟ أو هو مقصور على الأجناس المذكورة في الحديث المتقدم وهي : البر والشعير . والذهب والفضة والتمر والملح ؟ لا خلاف بين الأئمة الأربعة على أن الربا يدخل في أجناس أخرى غير التي ذكرت في الحديث قياسا عليها . وإنما اختلفوا في علة تحريم الزيادة في الأشياء المذكورة في الحديث ليقاس عليها غيرها متى وجدت تلك العلة كما هو مفصل في أسفل الصحيفة ( الحنابلة - قالوا : العلة في تحريم الزيادة الكيل والوزن فكل ما يباع بالكيل أو الوزن فإنه يدخله الربا سواء كان قليلا لا يتأتى كيله كتمرة بتمرتين . أو لا يتأتى وزنه كقدر الألازة من الذهب وسواء كان مطعوما كالأرز والذرة والدخن أو غير مطعوم كبذر القطن والبرسيم والكتان والحديد والرصاص والنحاس أما ما ليس بمكيل ولا موزون كالمعدود فإنه لا يجري فيه الربا فيصح بيع البيضة بيضتين والسكين بسكينين وإن كانا من جنس واحد لاختلاف الصفة . وقيل : بكراهة ذلك .
الحنفية - قالوا : العلة في تحريم الزيادة هي الكيل والوزن كما يقول الحنابلة إلا أنهم قالوا : إن القدر الذي يتحقق فيه الربا من الطعام هو ما كان نصف صاع فأكثر أما إذا كان أقل من نصف صاع فإنه يصح فيه الزيادة فيجوز أن يشتري حفنة من القمح بحفنتين يدا بيد أو نسيئة وهكذا إلى أن تبلغ نصف صاع فيصح بيع التمرتين لأن التمر يباع مكيلا وكل ما كان أقل من نصف صاع لا يدخله الربا وهذا هو المشهور أما القدر الذي يتحقق فيه الربا من الموزون فهو ما دون الحبة من الذهب والفضة وما كان كتفاحة أو تفاحتين من الطعام يجوز بيع التفاحة بتفاحتين ولكن يشترط في صحة البيع في مثل ذلك تعيين البدلين كأن يقول : بعتك هذه التفاحة المعينة بهاتين التفاحتين كما سيأتي بيانه فكل ما تحققت فيه هذه العلة فإنه يدخله الربا سواء كان مطعوما أو غير مطعوم فيقاس على القمح والشعير المذكورين في الحديث كل ما يباع بالكيل كالذرة والأرز والدخن والسمسم والحلبة والجص إذا كان لا يباع بالكيل ويقاس على الذهب والفضة كل ما يباع بالوزن كالرصاص والنحاس . أما الذي لا يباع بالكيل ولا بالوزن كالمعدود والمذروع فإنه لا يدخله ربا الفضل فيجوز أن يبيع الذراع من الثوب بذراعين بثوب من جنسه بشرط القبض الآتي بيانه كما يجوز أن يبيع البيضة بيضتين والبطيخة باثنتين وهكذا والضابط في ذلك أن المبيع إذا كان متحدا مع الثمن في الجنس كقمح بقمح وشعير بشعير وكان يباع بالكيل والوزن فإنه لا يصح أن يوجد في أحد العوضين زيادة سواء كانت الزيادة لأجل أو لا فيحرم ربا الفضل وربا الزيادة وذلك كالقمح والشعير والذهب ونحوهما مما يباع كيلا أو وزنا لأنه قد تحقق فيها القدر والكيل والوزن والجنس أما إذا وجد أحدها فقط فإنه لا يدخله ربا الفضل وإنما يحرم فيه ربا النسيئة فمثال ما يتحقق فيه الجنس دون القدر : البيض والبطيخ ونحوهما من كل ما يباع عدا ومثله الثياب ونحوهما من كل ما يباع بالذراع فإنه قد وجد فيها اتحاد الجنس وانتفى القدر أعني كونها مبيعة بالكيل أو الوزن ومثال ما وجد فيه القدر دون اتحاد الجنس : القمح والشعير فإنهما يباعان كيلا مع اختلاف جنسهما فيحرم في هذا ربا النساء وهو البيع مع زيادة الأجل ولا يحرم ربا الفضل وهو البيع مع زيادة بشرط القبض أما بيع الطعام بجنسه بدون زيادة فإنه لا يشترط فيه القبض .
الشافعية - قالوا : الأشياء المذكورة في الحديث تنقسم إلى قسمين : نقد وهو الذهب والفضة ومطعوم وهو ما قصد ليكون طعاما للآدميين غالبا أي ما خلقه الله بقصد أن يكون لهم طعاما بأن يلهمهم ذلك ولو شاركهم فيه غيرهم كالفول بالنسبة للبهائم والإنسان فكل ما وجد فيه النقدية " أي كونه ثمنا " والطعمية - بضم الطاء - " أي كونه مطعوما " فإنه يدخل فيه الربا ولا فرق في الثمن بين أن يكون مضروبا كالجنيه والريال أو غير مضروب كالحلي والتبر فلا يصح أن يشتري جنيهين بثلاثة لأجل أو مقابضة كما لا يصح أن يشتري قطعة مصنوعة من الذهب زنتها عشرة مثاقيل زنتها ثلاثة عشر كما سيأتي في الصرف .
أما عروض التجارة فإنه يصح بيعها ببعضها مع زيادة أحد المثلين على الآخر لأنها ليست أثمانا فلم تتحقق فيها العلة المذكورة .
وأما المطعوم فإنه يشمل أمورا ثلاثا ذكرت في الحديث . أحدها : أن يكون للقوت كالبر والشعير فإن المقصود منهما التقويت ويلحق بهما ما في معناهما : الأرز والذرة والحمص والترمس وقد اختلف في الماء العذب فقيل : إنه يلحق بالقوت لأنه ضروري للبدن وقد أطلق الله عليه أنه مطعوم قال تعالى : { ومن لم يطعمه فإنه مني } . وقيل : إنه مصلح للبدن فهو ملحق بالتداوي الآتي .
ثانيها : أن يكون للتفكه وقد نص الحديث على التمر فيلحق به ما في معناه كالزبيب والتين .
ثالثها : أن يكون لإصلاح الطعام والبدن وقد نص الحديث على الملح فيلحق به ما في معناه من الأدوية كالسنامكي ونحوها من العقاقير المتجانسة ومنه الحلبة اليابسة فإنها تستعمل دواء بخلاف الخضراء فإنها ليست بربوية . فخرج بقوله : ما قصد أن يكون طعاما ما كان مطعوما ولكن لم يخلق بقصد أن يكون كذلك . كالجلد والعظم فإنه وإن كان يؤكل ولكنه لم يخلق لذلك . وخرج أيضا ما اختص به البهائم كالحشيشي والتبن والنوى فإنه لا ربا فيه ومن هذا تعلم أن الشافعية قاسوا كل ما فيه طعم وما يصلح نقدا على الأشياء الستة المذكورة في الحديث فعلة القياس هي الطعمية والنقدية فأما ما ليس بطعم كالجبس مثلا فإنه يصح بيعه بجنسه متفاضلا كعوض التجارة .
المالكية - قالوا : علة تحريم الزيادة في الذهب والفضة النقدية أما في الطعام فإن العلة تختلف في ربا النسيئة وربا الفضل . فأما العلة في تحريم النسيئة فهي مجرد المطعومية على غير وجه التداوي فمتى كان طعاما للآدمي فإنه يحرم ربا النسيئة سواء كان صالحا للادخار والاقتيات الآتي بيانهما أو لا وذلك كأنواع الخضر من قثاء وبطيخ وليمون ونارنج رخص وكراث وجزر وقلقاس وكرنب ونحو ذلك . ومثل الخضر أنواع الفاكهة الرطبة كالتفاح والموز فكل هذه الأصناف يدخلها ربا النسيئة ولا يدخلها ربا الفضل فيصح بيع كل جنس منها بجنس آخر أو بجنسه مع زيادة بشرط التقابض في المجلس . أما بيعها كذلك لأجل فإنه ممنوع فيصح أن يبيع رطل من التفاح برطلين مقابضة . وكذلك يصح أن يبيع الجزر بالخس بزيادة أحد الجنسين على الآخر بشرط القبض .
وأما العلة في تحريم ربا الفضل فهي أمران : أن يكون الطعام مقتاتا ومعنى كونه مقتاتا : أن الإنسان يقتات به غالبا بحيث تقوم عليه بنيته بمعنى أنه لو اقتصر عليه يعيش بدون شيء آخر . ثانيهما : أن يكون صالحا للادخار ومعنى كونه صالحا للادخار : أنه لا يفسد بتأخيره مدة من الزمن لا حد لها على ظاهر المذهب خلافا لمن قال : إن الصالح للادخار هو الذي بقي بدون فساد ستة أشهر . والراجح أن المرجع في ذلك للعرف فما يعده العرف صالحا للادخار كان كذلك . فكل ما وجدت فيه هذه العلة فإنه يحرم فيه ربا الفضل كما يحرم فيه ربا النساء من باب أولى .
وتفسير العلة بالاقتيات والادخار هو القول المعلول علية في المذهب وهناك أقوال أخرى في تفسير العلة المذكورة أشهرها أن يزاد على الاقتيات والادخار قيد ثالث وهو كون الطعام متخذا لعيش الآدمي غالبا فيخرج بذلك البيض والزيت لأنهما لم يتخذا عيشا للآدمي غالبا فلا يمنع فيهما الربا . وقد عرفت أن المعول عليه في المذهب هو التفسير الأول فالراجح أن البيض والزيت يدخلهما الربا لأنهما يقتاتان ويصلحان للادخار ) . على أن الظاهرية اقتصروا على الأشياء المذكورة في الحديث