لا خلاف بين أئمة المسلمين في تحريم ربا النسيئة فهو كبيرة من الكبائر بلا نزاع وقد ثبت ذلك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله وإجماع المسلمين فقد قال تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } .
فهذا كتاب الله تعالى قد حرم الربا تحريما شديدا وزجر عليه زجرا تقشعر له أبدان الذين يؤمنون بربهم ويخافون عقابه وأي زجر أشد من أن يجعل الله المرابين خارجين عليه محاربين له ولرسوله ؟ فماذا يكون حال ذلك الإنسان الضعيف إذا كان محاربا للإله القادر القاهر الذي لا يعجزه في الأرض ولا في السماء ؟ لا ريب في أنه بذلك قد عرض نفسه للهلاك والخسران .
أما معنى الربا الذي يؤخذ من هذه الآية الكريمة فالظاهر أنه هو الربا المعروف عند العرب في الجاهلية وقد بينه المفسرون فقد ذكر غير واحد منهم : أن الواحد من العرب كان إذا داين شخصا لأجل وحل موعده فإنه يقول لمدينة : أعط الدين أو أرب ومعنى هذا أنه يقول له : إما أن تعطي الدين أو تؤخره بالزيادة المتعارفة بيننا وهذه الزيادة تكون في العد كأن يؤجل له دفع الناقة على أن يأخذها ناقتين وتارة تكون بالسن كأن يؤجل له دفع ناقة سن سنة على أن يأخذها منه سن سنتين أو ثلاث وهكذا ومثل ذلك أيضا ما كان متعارفا عندهم من أن يدفع أحدهم للآخر مالا لمدة ويأخذ كل شهر قدرا معينا فإذا حل موعد الدين ولم يستطع المدين أن يدفع رأس المال أجل له مدة أخرى بالفائدة الذي يأخذها منه وهذا هو الربا الغالب في المصارف وغيرها ببلادنا وقد حرمه الله تعالى على المسلمين وعلى غيرهم من الأمم الأخرى ونهى عنه اليهود والنصارى لما فيه من إرهاق المضطرين والقضاء على عوامل الرفق والرحمة بالإنسان ونزع التعاون والتناصر في هذه الحياة فإن الإنسان من حيث هو لا يصح أن يكون ماديا من جميع جهاته ليس فيه عاطفة خير لأخيه فيستغل فرصة احتياجه ويوقعه في شرك الربا فيقضى على ما بقي فيه من حياة مع أن الله تعالى قد أوصى الأغنياء بالفقراء وجعل لهم حقا معلوما في أموالهم وشرع القرض لإغاثة الملهوفين وإعانة المضطرين فضلا عما في الربا من حصر الأموال في فئة المرابين وفتح أبواب الشهوات لضعاف الإرادة والقضاء على ما عندهم من ثروة إلى غير ذلك من المضار الكثيرة التي يضيق المقام عن ذكرها وقد بيناها أتم بيان في الجزء الثاني من كتاب الأخلاق الدينية في حكمة تشريع البيع .
فالآيات الكريمة تدل دلالة قاطعة على تحريم ربا النسيئة منه ما هو معروف في زماننا من إعطاء ما يأجل بفائدة سنوية أو شهرية على حساب المائة وما يحتمل به بعضهم من التحكك بالدين في جواز هذا النوع فإنه بعيد كل البعد عن الدين ومناف لحكمه تشريعة في صورتها ومعناها فقد زعم بعضهم أن المحرم من ذلك هو أكل الربا أضعافا مضاعفة كما ورد في آية آل عمران : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة . واتقوا الله لعلكم تفلحون } . وهذا خطأ صريح لأن الغرض من الآية الكريمة إنما هو التنفير من أكل الربا ولفت نظر المرابين لما عساه أن يؤول إليه أمر الربا من التضعيف الذي قد يستغرق مال المدين فيصبح لمرور الزمن وتراكم فوائد الربا فقيرا بائسا عاطلا في هذه الحياة بسبب هذا النوع الفاسد من المعاملة وفي ذلك من الضرر على نظام العمران ما لا يخفى ولا يكاد يتصور عاقل أن الله تعالى ينهى عن ثلاثة أضعاف ولا ينهى عن الضعفين أو الضعف على أنه لا يمكن لعاقل أن يفهم هذا المعنى بعد قول الله تعالى : { فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم } .
وأغرب من هذا ما يزعم بعضهم من أن القرض بفائدة ليس من باب الربا لأن الربا عقد بيع لا بد له من صيغة أو ما يقوم مقامها وما يتعامل به الناس الآن من أخذ المال قرضا بفائدة ليس بيعا وقد صرح الشافعية بذلك ولكن قد فات هذا أن الفقهاء الذين قالوا : إن مثل ذلك ليس بعقد قالوا أيضا : إنه من باب أكل أموال الناس بالباطل وإن مضار الربا الذي حرم من أجلها متحققة فيه فحرمته كحرمة الربا وإثمه كإثمه فالمسألة شكلية لا غير وأما تحريم ربا النساء من السنة فقد وردت فيه أحاديث كثيرة صحيحة .
ومنها في الذهب والفضة قوله A : " الذهب بالذهب ربا إلا هاء ومعنى ها : خذ وهات يدا بيد فهي اسم فعل . فلا يصح تأجيل البدلة فيه على أنه حديث الذهب بالذهب والفضة الخ يدل على حرمة ربا النساء . والفضل في الذهب والفضة والطعام .
وسيأتي بيانه في مبحث ربا الفضل