معنى الخيار في البيع وغيره : طلب خير الأمرين منهما والأمران في البيع الفسخ والإمضاء فالعاقد مخير بين هذين الأمرين .
والأصل في عقد البيع أن يكون لازما متى استكمل شرائطه ولكن قد عدل عن تلك في مسائل الخيار لحكمه جليلة وهي مصلحة العاقدين . فقد أباح الشارع الخيار استيفاء للمودة بين الناس . ودفعا للضغائن والأحقاد من أنفسهمن إذ قد يشتري الواحد السلعة أو يبيعها لظرف خاص يحيط به بحيث لو ذهب ذلك الظرف لندم على بيعها أو شرائها ويعقب ذلك الندم غيظ فضغينة وحقد وتخاصم وتنازع إلى غير ذلك من الشرور والمفاسد التي يحذر منها الدين ويمقتها كل المقت .
فمن أجل ذلك جعل الشارع للعاقد فرصة يحتاط فيها لنفسه ويزن فيها سلعته في جو هادئ كي لا يكون له عذر في الندم بعد ذلك على أنه قيد ذلك بشروط تحفظ للعقد قيمته فلا يكون عرضة للنقض والإبطال بدون سبب صحيح فقال : إن الخيار في العقد لا يصح إلا بأمرين : ( الشافعية - قالوا : يثبت خيار المجلس بعد تمام العقد بدون شروط الخيار بل لو اشترط العاقد عدم الخيار بطل البيع لأنه شرط يقتضي العقد عدمه لأن الخيار في المجلس ثبت بالنص لا بالاجتهاد فأصبح من مقتضى العقد وكل شرط لا يقتضيه العقد فهو باطل والخيار إما أن يكون لدفع الضرورة وهو خيار النقض وإما أن يكون للتروية وله سببان : المجلس والشرط فأقسامه ثلاثة .
ويثبت خيار المجلس عندهم في كل عقد توفرت فيه خمسة قيود : .
الأول : أن يكون عقد معاوضة أي محتو على عوض من المتعاقدين فخرج بذلك الهبة بدون عوض لأنها ليست عقد معاوضة كما هو ظاهر . فلا خيار فيها بعد .
أما قبله فللواهب الرجوع وكذا بعده أو كان أصلا فيما وهببه لفرعه . وكذلك خرج صلح الحطيطة وهو الصلح من الشيء على بعضه كأن يصطلح معه على أن يحط له شيئا مما عليه فإنه لا معاوضة فيه فلا خيار فيه .
الثاني : أن يفسد العقد بفساد العوض . وذلك كأن يبيع له عنيا ليست مملوكة له فإن أحد العوضين وهو المبيع في هذه الحالة فاسد فالبيع فاسد بفساد العوض فيصح الخيار في كل عقد يفسد بفساد عوضه فإنه لا خيار فيه وذلك كالنكاح والخلع فلو تزوجها على مال مملوك للغير لم يفسد العقد وعليه مهر المثل وكذا لو خالعته على مال ليس مملوكا لها فإن الخلع لا يفسد وعليها القيمة .
الثالث : أن تكون المعاوضة واقعة على عين لازمة من الجانبين أو على منفعة مؤبدة بلفظ البيع والأول كالثمن والمثمن من البائع والمشتري . والثاني كأن يبيع لجاره حق وضع الخشب على حائطه فإنه بيع منفعة مؤبدة .
وخرج بقوله : عين لازمة من الجانبين الشركة والقراض . لأن كلا منهما جائز من الجانبين . وكذلك خرج الرهن لأن العين فيه وإن كانت لازمة ولكن من جانب واحد أما الجانب الآخر فله أن يسترد العين المرهونة بسداد ما عليه وكذا خرج به ما كانت لمعاوضة فيه واقعة على منفعة غير لازمة كالإجارة والمساقاة . فكل هذه لا خيار فيها .
الرابع : أن لا يكون في المعاوضة تملك قهري خرج به الشفعة لأن التملك فيها بالقهر والإجبار فلا معنى للخيار فيها وبعضهم يقول : إن الخيار ثابت في الشفعة للشفيع بمعنى أن له الخيار في رد العين التي ملكها بالشفعة أو إمساكها .
الخامس : أن تكون المعاوضة غير جارية مجرى الرخص كالحوالة والقسمة لعدم ظهور البيع فيهما .
وبهذا الضابط يتيسر عد العقود التي يقبت فيها خيار المجلس كالآتي : عقد البيع المطلق والسلم والهبة بشرط العوض وبيع الطعام يسمى بيعا ربويا .
والتولية : أو صلح المعاوضة على غير منفعة كأن يصطلحا على أن كلا منهما يدفع لصاحبه مالا بدون أن يشترط منفعة مقابلة .
أما إذا اشترط منفعة فإن العقد يكون إجارة لا بيعا وذلك كأن يقول له : صالحتك من الدراهم التي لي عليك على أن أسكن في دارك سنة مثلا فمثل هذا إجارة لا خيار فيه على الصحيح وهكذا كل عقد معاوضة توفرت فيه القيود التي ذكرت فإنه يثبت فيه خيار المجلس أما العقود التي لم تتوفر فيها الشروط فيمكن عدها كالآتي أيضا : النكاح والخلع والإجارة والهبة بلا عوض صلح الحطيطة الشفعة المساقاة الشركة القراض الرهن الإجارة . وهكذا كل عقد لم تتوفر فيه القيود التي ذكرت .
ويسقط خيار المجلس بأمرين : .
الأول : ذكر ما يدل صريحا على أنهما قد التزما عقد البيع كأن يقولا : اخترنا لزوم العقد أو أمضيناه أو أجزناه أو أبطلنا الخيار . أو أفسدنا الخيار اختيارا لا كرها . أما إذا لم تكن صيغة إبطال الخيار صريحة كما إذا قالا : تخايرنا ولم يذكرا عقد البيع فإن ذلك يحتمل الفسخ والإمضاء فيصدق من ادعى أنه أراد تخايرنا فسخه على أن يحلف اليمين . وكما أن الخيار يسقط بذكر الصيغة التي تدل على نفاذ العقد يسقط كذلك بالتصرف في البيع في المجلس فلو باع المشتري السلعة التي اشتراها للبائع بغير ثمنها كان ذلك إجارة تسقط الخيار . وإذا قال أحد المتعاقدين : اخترت لزم العقد ولم يقل الآخر بطل خيار القائل فقط وإذا اختار أحدهما لزوم العقد واختار الآخر فسخه قدم الفسخ .
الأمر الثاني : أن يتفرقا عن المجلس بأبدانهما فمتى ترك المجلس واحد منهما وانصرف بطل الخيار والمراد بالتفرق ما يعده الناس فرقة في عرفهم .
ويشترط في التفرق أن يكون بالاختيار فإذا فرق بينهما كرها بسبب من الأسباب يبقى الخيار .
ومدة خيار المجلس غير محددة فلو مكثا مكانهما أياما كثيرة لم ينقطع الخيار وإذا مات أحدهما أو جن انتقل الخيار لوراثة .
الحنابلة - قالوا : يثبت خيار المجلس للمتعاقدين ولو لم يشترطاه ولو بعد تمام العقد فلكل واحد منهما إمضاء العقد وفسخه ما داما في المجلس ولو أقام شهرا أو أكثر إلا إذا تفرقا كرها . كما إذا حملهما على التفرق سبع ونحوه أو ظالم طلع عليهما ونحو ذلك فإن التفرق في هذه الحالة لا يسقط الخيار ومتى تم العقد وتفرقا لزم البيع . فليس لواحد منهما الفسخ إلا بعيب أو خيار شرط .
ويثبت خيار المجلس في أمور : الأول الشركة في ملكه في نظير أن يدفع له قسطا من ثمنه المعلوم لأنها صورة من صور البيع أما الشركة في غير ذلك فلا خيار فيها . الثاني الصلح على مال سواء كان عينا أو نقدا لأنه بيع أيضا . الثالث الإجارة على عين كدار أو حيوان . أو الإجارة على نفع في الذمة بأن استأجره لبناء حائط أو خياطة ثوب لأن الإجارة نوع من البيع . الرابع الهبة بشرط العوض . الخامس كل عقد بيع قبضه شرط في صحته فيثبت في الصرف لأنه يشترط في صحته القبض والسلم وبيع المكيل والموزون بمثلهما . ولا خيار في قسمة الإجبار لأنهما إفراز حق لا بيع كما لا خيار في المجلس في بقية العقود كالمساقاة والمزارعة والحوالة والإقالة والشفعة والجعالة والشركة والوكالة والمضاربة والعارية والهبة بغير عوض والوصية قبل الموت والوديعة والنكاح والخلع والرهن والضمان والكفالة فلا يثبت خيار المجلس في شيء من ذلك وشرط عدم الخيار لا يبطل العقد وإنما يسقط الخيار فقط .
ويسقط الخيار المجلس بأربعة أمور : الأول أن يشترطا عدم الخيار قبل تمام العقد كأن يقولا : تبايعنا على أن لا خيار بيننا أو يقول أحدهما : بعتك على أن لا خيار بيننا فيقول الآخر : قبلت ولو لم يزد على ذلك فإنه في هذه الحالة يسقط الخيار .
والثاني : أن يسقطا الخيار بعد تمام العقد كأن يقول كل منهما : اخترت إمضاء العقد أو التزامه وإذا أسقطه أحدهما أو قال لصاحبه : اختر سقط خياره وبقي خيار صاحبه .
الثالث : أن يتفرقا عن المجلس بأبدانهما عرفا فإذا فارق احدهما صاحبه لزم سواء قصد بالمفارقة لزوم البيع أو قصد حاجة أخرى ولكن تحرم الفرقة بغير إذن صاحبه بقصد لزوم البيع وعدم فسخه لما في الحديث من أنه : " لا يحل لأحد المتبايعين أن يفارق صاحبه خشية أن يستقبله " رواه النسائي .
والرابع : موت أحد المتعاقدين فإنه يبطل خيارهما لأنه أعظم فرقة . وكذا يبطل خيارهما إذا هرب أحدهما من صاحبه أما إذا جن إحدهما أو أغمي عليه فلا يسقط خياره .
الحنفية - قالوا : خيار المجلس لا يثبت للعاقد إلا بالشروط فإذا تم العقد بينهما من غير شرط الخيار أصبح لازما سواء أقاما بالمجلس أو تفرقا وإنما الذي للعاقد في المجلس بدون شرط هو خيار القول فإذا قال للبائع : بعتك فله أن يرجع قبل أن يجيبه المشتري كما تقدم .
ويحملون الحديث على هذا فيقولون : إن معنى الحديث أن لهما خيار المجلس بالشرط .
المالكية - قالوا : لا خيار في المجلس أصلا بل الخيار ينقسم إلى قسمين : .
الأول : خيار الشرط ويسمى الخيار الشرطي وخيار التروي " النظر والتفكر في إمضاء العقد ورده " وهذا القسم هو الذي ينصرف إليه الخيار عند الإطلاق في عرف الفقهاء .
الثاني : خيار النقيصة ويسمى الخيار الحكمي وسببه ظهور عيب في المبيع أو استحقاق للغير فيه .
أما حديث : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " فهو وإن كانت روايته صحيحة إلا أن عمل أهل المدينة كان على خلافه وعمل أهل المدينة مقدم على الحديث وإن كان صحيحا لأنه في حكم المتواتر الموجب للقطع بخلاف الحديث فإنه وإن كان صحيحا لكنه خبر آحاد يفيد الظن فالأول مقدم عليه .
وإذا شرط العاقد خيار المجلس في البيع فسد العقد ومن هذا تعلم أن الحنفية والمالكية متفقون على أن لا خيار في المجلس : إلا أن الحنفية يقولون : إنه يثبت بالشرط والمالكية يقولون : إن شرطه يفسد البيع )