الأصول التي تعتبر في بر الأيمان أو حنثها في الإفتاء والقضاء أمور : منها النية ومنها العرف ومنها معنى اللفظ الغوي أو الشرعي ومنها السبب الباعث على حلف اليمين وفي كل ذلك تفصيل في المذاهب .
( الحنفية - قالوا : هذه الأمور تعتبر في اليمين على التفصيل الآتي : الأول العرف وهو الأصل العام الذي تبنى عليه الأيمان عندهم فيقدم على جميع الأصول المذكورة وتوضيح ذلك أن اللفظ المذكور في اليمين ينظر إلى معناه المتعارف عند الناس سواء كان عرفا خاصا أو عاما بقطع النظر عن معناه اللغوي أو الشرعي مثال ذلك أن يقول : والله لا آكل رأسا فيحنث إذا أكل رأسا من الرؤوس التي جرت العادة ببيعها في الأسواق كرؤوس الغنم والبقر وهكذا وهو المعنى الذي يقصده الناس من لفظ الرؤوس التي تؤكل فلا يحنث بأكل رأس الطير كالبط والأوز ولا بأكل رأس العصافير ولا بأكل رأس السمك إلا إذا اصطلح الناس على بيعها في الأسواق وحدها مع أن لفظ الرأس في اللغة يطلق عليها ويعمها ولكن هذا المعنى اللغوي لا يعتبر بل المعتبر هو المعنى العرفي كما عرفت . وكذلك إذا قال : والله لا أركب وتدا فإنه لا يحنث إذا ركب الجبل مع أن الجبل سماه القرآن وتدا ولكن الوتد في العرف غير الجبل على أنه لا بد من ذكر اللفظ الذي يدل على المعنى العرفي المقصود فإذا فهم المعنى العرفي من العبارة بدون لفظ يدل عليه فإنه لا يعتبر مثال ذلك أن يقول : والله لا أخرج من الباب فخرج من السطح فإنه لا يحنث وإن كان المفهوم عرفا من هذه العبارة أنه يريد أن لا يخرج مطلقا لا من الباب ولا من السطح ولكن لم يذكر في العبارة لفظ يدل على هذا الغرض فلا يعتبر لأن العرف لا يجعل غير الملفوظ ملفوظا وكذا إذا حلف لا يضربه سوطا فضربه بعصا فإنه لا يحنث وإن كان المعنى المقصود عرفا أنه لا يؤذيه بالضرب مطلقا لابالسوط ولا بالعصا ولكن لفظ العصا غير مذكور فلا يعتبر معناه .
وكذا إذا حلف لا يبيع هذه السلعة بعشرة فباعها بتسعة فإنه لا يحنث لأنه وإن كان غرضه المفهوم عرفا أنه يريد بيعها بأكثر من عشرة فلا يبيعها بتسعة فأقل ولكن هذا الغرض غير مسمى في اللفظ لأنه إنما سمى العشرة وهي لا تطلق على التسعة والعرف لا يجعل غير الملفوظ ملفوظا . وكذا إذا حلف أنه لا يبيعها بعشرة فباعها بأحد عشر فإنه لا يحنث لأن غرضه الزيادة على العشرة فلا يبيعها بالعشرة وحدها والعشرة تطلق على العشرة وحدها وتطلق على العشرة مقرونة بعدد آخر فالعرف يخصها بالعشرة وحدها لأنها غرضه فلا يحنث أما إذا حلف لا يشتري هذه السلعة بعشرة فاشتراها بأحد عشرفإنه يحنث لأن غرضه المفهوم عرفا أنه يريد أن يشتريها بأقل من عشرة لا بأكثر واللفظ يدل على هذا لأن العشرة تطلق على العشرة مفردة ومقرونة بعدد آخر كما ذكرنا . فيحنث بالأحد عشر لأن العشرة وجدت مقرونة بعدد آخر والزيادة على شرط الحنث لا تمنع الحنث . وإذا حلف لا يشتريها بعشرة فاشتراها بسبعة فإنه لا يحنث لأن العشرة لم توجد لا مفردة ولا مقرونة بعدد آخر ويتضح من هذا أن الأيمان مبنية على الألفاظ العرفية والأغراض التي تدل عليها هذه الألفاظ أما الأغراض العرفية الزائدة على الألفاظ فإنها غير معتبرة .
أما إذا حلف لا يبيع هذه السلعة بعشرة فباعها بأحد عشر فإنه لا يحنث لأنه غرضه في العرف أنه يريد بيعها بزيادة وقد حصلت واللفظ يدل على ذلك لأن العشرة تطلق على العشرة وحدها وتطلق على العشرة إذا قرنت بعدد آخر . وغرض البائع عرفا أنه لا يبيعها بالعشرة وحدها فلا يحنث إذا باعها بأحد عشر بخلاف ما إذا حلف لا يشتريها بعشرة فإن غرضه في العرف أنه لا يشتريها بالعشرة وحدها أو مقرونة بعدد آخر لأنه يريد نقص ثمنها فيحنث بالزيادة كما تقدم .
وإذا حلف لا يشتريها بعشرة فاشتراها بتسعة لا يحنث لأنه لم توجد العشرة لا مفردة ولا مقرونة . وكذا إذا حلف لا يبيعها بعشرة فباعها بتسعة .
ومثال تعيين أحد معاني المشترك أن يقول : امرأته طالق إن خرج اليوم وأراد بالخروج السفر فإنه يصدق ديانة وذلك لأن الخروج لفظ مشترك بين السفر والخروج من المنزل والخروج من المسجد وهكذا فيصح أن ينوي به أحد أفراده فيصدق ديانة لا قضاء وكذا إذا حلف لا يسكن مع فلان وأراد مساكنته في محل خاص فإنه يصدق ديانة لأن المساكنة مشتركة بين المساكنة في دار خاصة والمساكنة في الدار مطلقا فإذا أراد بها دارا خاصة يصدق لأنه نوى ما يحتمله اللفظ المشترك أما إذا نوى بالخروج السفر إلى الشام وبالمساكنة أن يسكن معه في ملكه لا بالإجاره فإنه لا يصدق . لأن اللفظ لا يدل عليه ولا يحتمله . وإنما يعتبر المعنى العرفي اللفظ إذا لم يستعمله العرف في معنى آخر مجازا كما إذا حلف لا يضع قدم في هذه الدار فإن معنى هذه اللفظ إذا لم يستعمله العرف في معنى آخر مجازا كما إذا حلف لا يضع قدمه في هذه الدار فإن معنى هذا اللفظ وهو وضع القدم في الدار لم يقصده العرف من هذه العبارة . بل استعمل اللفظ في الدخول مطلقا فلو وضع قدمه في الدار لم يقصده العرف من هذه العبارة . بل استعمل اللفظ في الدخول مطلقا فلو وضع قدمه بدون دخول فإنه لا يحنث . وكذا إذا قال : والله لآكل من هذه الشجرة ولا ثمر لها فينصرف يمينه إلى الأكل من ثمنها فإذا أكل منها نفسها فإنه لاحنث لأن الأكل من خشبها لا يريده العرف فلا ينظر للفظ في هذه الحالة .
الثانية : النية وهي تعمل في الملفوظ لتعين بعض ما يحتمله اللفظ ولو لم يكن متعارفا . كما إذا حلف لا يهدم بيتا ونوى بيت العنكبوت فإنه يحنث إذا هدمه وإن لم يكن بيتا في العرف ولكن الحالف نوى ما يحتمله اللفظ فيعمل بنيته . والنية تخصص العام والعبرة بنية الحالف في اليمين بالله إن كان مظلوما . فإذا حلفه شخص على فعل شيء ظلما فحلف له ونوى بيمينه غير ما يريده المحلف لا يحنث . أما إن كان ظالما فيعتبر نية المحلف . ومثله الحلف بالطلاق تعتبر نيته ديانة إن كان مظلوما . وإلا فلا ترفع عنه الحنث ديانة كما لا ترفع عنه قضاء على أي حال بخلاف العرف فإنه يخصصه ديانة وقضاء . وكذلك تخصص الجنس بإرادة أحد أنواعه وكذلك تعين أحد معاني المشترك المحتملة اللفظ . أما تعيم الخاص بالنية بأن يذكر لفظا خاصا ويريد منه العام كما إذا حلف لا يشرب لفلان ماء وأراد بذلك قطع علاقته معه في كل ما له فيه منه فإن نيته لا تنفع لأن اللفظ لا يحتمله . فمثال تخصيص العام بالنية : أن يحلف بأن لا يأكل طعاما أو يشرب شرابا وينوي بحلفه طعاما خاصا فإنه يصدق ديانة لا قضاء . أما إذاحلف أن لا يأكل بدون أن يقول طعاما ونوى أن لا يأكل طعاما خاصا فإنه لا يصدق لا ديانة ولا قضاء . لأنه لم يذكر العام في عبارته . ومثله ما إذا قال : والله لأضربنه خمسين ونوى ضربه بسوط معين فإنه لا يحنث إذا ضربه بأي شيء لأنه السوط لم يذكر حتى يصح تخصيصه والنية إنما تعمل في الملفوظ . فلا تعتبر نيته في هذه الحالة . وإنما تنفع نية تخصيص العام إذا نوى قصره على بعض أفراده . أما إذا نوى قصره على بعض متعلقاته فإن النية لا تنفع . فإذا نوى بقوله : والله لا آكل طعاما قصر الطعام على بعض أفراده كاللحم مثلا تنفعه . لأن الطعام تحته أفراد كثيرة كاللحم والفاكهة والخبز الخ . فإذا أراد باللفظ العام فردا من هذه الأفراد صح أما إذا نوى شيئا متعلقا بذلك العام خارجا عن أفراده فإنه لا ينفع . كما إذا نوى أنه لا يأكل طعاما في زمن معين أو مكان معين . لأن الزمان والمكان غير داخلين في أفراد الطعام فلا تنفع إرادتهما منه .
ومثال تخصيص الجنس بإرادة أحد أنواعه أن يحلف بأن لا يتزوج امرأة وينوي بذلك نوعان خاصا من النساء كعربية فإنه يصدق ديانة لأن الإنسان يتنوع إلى عربي وحبشي وزنجي ورومي وتركي وهكذا فيصح تخصيص الجنس بنوع من أنواعه " إن شئت قلت تخصيص النوع بصنف من أصنافه " أما إذا نوى تخصيصه بصفة من صفاته الضرورية كشخص المرأة بكونها مصرية أو عراقية أو شامية فإن نيته لا تنفع لا ديانة ولا قضاء لأن الصفة ليست من مدلول لفظ المرأة بل هو تخصيص بالمكان فلا تنفع فيه النية .
الثالث : المعنى اللغوي وهو لا يعتبر مع العرف إلا إذا وقع مشتركا بين اللغة والعرف فيعتبر المعنى اللغوي على أنه من العرف ومثله المعنى الشرعي كما تقدم بيانه .
الرابع : السبب الباعث على الحلف فإذا حلف بسبب صفة في المحلوف عليه ثم زالت هذه الصفة فإنه لا يحنث بفعله . أما إذا لم تزل هذه الصفة أو لم تكن موجودة وقت الحلف أصلا فإنه يحنث .
فمثال ما فيه صفة زالت بأن يحلف أن لا يأكل هذا العنب وهو رطب فإذا زالت رطوبته واكله زبيبا فإنه لا يحنث أما إذا لم تزل منه صفة الرطوبة فإنه يحنث بأكله وهو ظاهر .
ومثال الصفة التي لم تكن موجودة وقت الحلف أن يقول : والله لا أكلم هذا الصبي أو لا آكل من هذا الحمل " ولد الشاة الصغير " فإنه يحنث إذا كلمه وهو شيخ أو أكله وهو كبش وذلك لأن صفة الصغر الموجودة في الصبي وفي الحمل تلغو مع الإشارة ولا تعتبر إلا الذات المشار إليها وهي باقية في الصغر والكبر فلم تكن موجودة وقت الحلف بهذا الاعتبار فلا ينظر إليها في اليمين فإذا كان الباعث له على اليمين سببا آخر سوى الصغر فإن يمينه ينصر إليه . كما إذا حلف لا يكلم هذا الصبي خوفا على عرضه أو لكونه سفيها فكلمه وهو شيخ لزوال السبب فإنه لا يحنث لأن الوصف كان موجودا وقت الحلف وقد زال والإشارة غير موجودة فلا يحنث وهذا يشبه بساط اليمين عند المالكية .
الخامس : الحلف على ما يصح امتداده زمنا كالقيام والقعود واللبس والسكن والركوب : فهذه الأشياء ونحوها لا يصح امتدادها زمنا مخصوصا فيقال : قام ساعة وقعد يوما وسكن شهرا ولبسه يومين وهكذا . فإذا حلف على ما يمتد وهو متلبس بالفعل كأن قال : والله لا أقوم وهو قائم أو قال : والله لا أقعد وهو جالس أو قال : والله لا أسكن وهو ساكن ففيه خلاف فبعضهم يقول : إنه لا يحنث في يمينه على أي حال وبعضهم يقول : يجب عليه أن يفعل المحلوف عليه فورا ولا يغفر له غلا الزمن الذي يتمكن فيه من الفعل فإذا حلف وهو راكب وجب عليه أن ينزل فورا وإلا حنث في يمينه وكذا إذا حلف وهو قائم فإنه يلزمه القعود حالا وإلا حنث وهكذا وإذا حلف وهو غير متلبس بالفعل كما إذا حلف لا يركب وهو غير راكب ثم ركب فإنه يحنث بابتداء الركوب واستمراره فيلزمه بكل لحظة يتمكن فيها من النزول حنث وبعضهم يقول : لا يحنث إلا في الإبداء على أي حال ورجحه بعضهم . والتحقيق أن المعتبر في كل هذا هو العرف فإذا كان استمرار الركوب والقيام والقعود ونحوها يسمى ركوبا وقياما وقعودا في العرف حنث بالاستمرار وإلا فلا يحنث . أما الأشياء التي لا تقبل الامتداد كالدخول والخروج والتطهر والتزوج فإنه لا يحنث إذا حلف وهو متلبس بها باتفاق فإذا حلف لا يتزوج وهو متزوج أو لا يتطهر وهو متطهر أو لا يدخل هذه الدار وهو فيها أو لا يخرج منها وهو خارج فإنه لا يحنث بالاستمرار . وهناك قواعد أخرى تذكر لمناسباتها فيما يأتي .
المالكية - قالوا : الأصول المعتبر في الأيمان خمسة : الأول النية وتقدم في الاعتبار على جميع الأصول وهي تخصص لفظ العام وتقيد لفظ المطلق وتبين المجمل . فمثال العام " وهو اللفظ الذي يستغرق أفراده الصالحة له بدون حصر " أن يقول : والله لا آكل سمنا فلفظ السمن عام يتناول جميع أفراده كسمن الضأن وسمن البقر والجاموس وسمن الجمال ونحو ذلك فإن نوى بيمينه هذا تخصيص ذلك العام فلا يخلو : إما أن ينوي منع نفسه من أكل سمن الضأن فقط وإباحة أكل غيره من سمن البقر والجمال ونحوها أو ينوي منع نفسه من أكل سمن الضأن ولم يلاحظ إباحة غيره والنية تنفعه في الحالتين . فأما في الحالة الأولى فإن النية تنفع فيها بلا خلاف لأنها قد خالفت ما يقتضيه لفظ العام حقيقة لأن لفظ العام يقتضي أنه حظر على نفسه أكل السمن بجميع أفراده والنية تقتضي أنه أباح لنفسه أكل ما عدا سمن الضأن وبينهما منافاة حقيقية وقد اشترط بعضهم وجود هذه المنافاة وهذه الحالة تحقق فيها هذا الشرط فتنفع فيها النية بلا خلاف وأما في الحالة الثانية فإن النية تنفع فيها على المعتمد وذلك لأنها خصت لفظ العام بالمعنى الخاص فعبر بالعام وهو لفظ السمن عن معنى الخاص وهو سمن الضأن ولا منافاة بين العام وأفراده لأن سمن الضأت وهو الخاص فرد من أفراد السمن وهو العام ولا منافاة بين العام وأفراده ولكن بينهما مغايرة وهي كافية فلا تشترط المافاة الحقيقية على المعتمد .
( يتبع . . . )