يحرم شرب الخمر حرمة مغلظة فهومن أخبث الكبائر وأشد الجرائم في نظر الشريعة الإسلامية لما فيه من المضار الخلقية والبدنية والاجتماعية وقد ثبت تحريمه بكتاب الله تعالى وسنة نبيه A وإجماع المسلمين : قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ؟ } وفي هذه الآية الكريمة عشر دلائل على حرمة الخمر فهي من أبلغ الزواجر وأشدها وإليك بيانها أولا : قد نظمت في سلك الميسر والأنصاب والأزلام فتكون مثلها في الحرمة . ثانيا : سميت رجسا والرجس معناه المحرم . ثالثا : عدها من عمل الشيطان . رابعا : أمر باجتنابها . خامسا : علق الفلاح باجتنابها . سادسا : إرادة الشيطان إيقاع العداوة بها . سابعا : إرادته إيقاع البغضاء . ثامنا : إرادته إيقاع الصد عن ذكر الله . تاسعا : إرادته إيقاع الصد عن الصلاة . عاشرا : النهي البليغ بصورة الاستفهام في قوله : { فهل أنتم منتهون } وهومؤذن بالتهديد .
أما السنة فهي مملوءة بالأحاديث الدالة على تحريم شرب الخمر والتنفير من القرب منه وكفى فيه قوله A : " لا يزنى الزاني حين يزني وهومؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهومؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهومؤمن " وقد أجمع المسلمون وائمتهم على تحريم الخمر وأنها من أرذل الكبائر وأشد الجرائم .
والخمر : ما خامر العقل أي خالطه فأكشره وغيبه فكل ما غيب العقل فهوخمر سواء كان مأخوذا من العنب المغلي على النار أو من التمر أو من العسل أو الحنطة أو الشعير حتى ولو كان مأخوذا من اللبن أو الطعام أو أي شيء وصل إلى حد الإسكار . وقد بين النبي A أن كل ما أسكر كثيره فقليله حرام ولولم يسكر ولفظ الحديث " ما أسكر كثيره فقليله حرام " رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة والبيهقي .
والمسكر المأخوذ من العنب يطلق على أنواع النوع الأول : الخمر وهو المأخوذ من عصير العنب إذا إلا واشتد وصار مسكرا .
النوع الثاني : الباذق وهوأن يطبخ العنب حتى يذهب أقل من ثلثيه ويصير مسكرا .
الثالث : المنصف وهوأن يطبخ العنب حتى يذهب نصفه ويشتد ويصير مسكرا .
الرابع : المثلث وهوأن يطبخ العنب حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ويشتد ويسكر كثيره لا قليله .
وكذلك المأخوذ من التمر فإنه على أنواع : .
الأول : السكر - بفتحتين - وهوأن يوضع التمر الرطب في الماء حتى تذهب حلاوته ويشتد ويسكر بدون غلي على النار .
الثاني : الفضيخ - بالضاد والخاء المعجمتين بينهما ياء ساكنة - وهوأن يوضع التمر اليابس في الماء حتى تذهب حلاوته ويشتد ويسكر والفضخ : الكسر لأنهم كانوا يكسرون التمر ويضعونه في الماء .
الثالث : نبيذ التمر وهوما يطبخ يسيرا ويشتد ويسكر كثيره لا قليله .
وجميع هذه الأنواع محرمة كثيرها وقليلها ولوقطرة واحدة منها . وكذلك نقيع الزبيب إذا غلا واشتد وصار مسكرا وكذلك الخليطان من الزبيب والتمر " الخشاف " إذا اشتد وصار مسكرا ونبيذ العسل والتين والشعير فكلها حرام إذا وصلت إلى حد الإسكار وقليلها ( الحنفية - يظن بعض شاربي البيرة ونحوها أن قليلها في مذهب الحنفية والواقع أن قليلها وكثرها حرام في مذهب الحنفية كسائر المذاهب على الصحيح المفتى به بل هي حرام عند الحنفية بإجماع آرائهم وذلك لأن الخلاف وقع في ثلاثة أمور أولا : المثلث وهوما يطبخ من العنب حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ويسكر كثيره لا قليله ويسمى " طلا " . ثانيا : نبيذ التمر وهوما يطبخ طبخا يسيرا ويسكر كثيره لا قليله . ثالثا : ما يؤخذ من الشعير والحنطة ونحوهما مما ذكر إذا أسكر كثيره لا قليله . فأبوحنيفة وأبويوسف يقولون : إن الذي يحرم هوكثير هذا لا قليله . ومحمد يقول : إن كثير هذا وقليله حرام كغيره وهوقول الأئمة الثلاثة وقول محمد هو الصحيح المفتى به في المذهب فمذهب الحنفية هومذهب محمد حينئذ على أنهم أجمعوا على أن القليل الذي لا يسكر إذا كان يؤخذ للهو والتسلية كما يفعل هؤلاء الشاربون لا لتقوية البدن الضعيف فهو حرام كالكثير تماما ولوقطرة واحدة .
فالبيرة وجميع أنواع الخمور محرمة قليلها وكثيرها على الوجه المشروع عند جميع أئمة الدين وجميع المسلمين ) مثل كثيرها وإنما تحرم على المكلف العاقل غير المكره والمضطر .
وكما يحرم شرب الخمر يحرم بيعها لقول النبي A : " إن الذي حرم شربها حرم بيعها " وفي حديث آخر عن أنس بن مالك Bه قال : " لعن رسول الله A في الخمر عشرة : عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشترى له " رواه ابن ماجة والترمذي .
وكذلك يحرم التداوي بها على المعتمد لقول النبي A لمن قال له : إن الخمر دواء " ليست بدواء إنما هي داء " رواه مسلم . وقال A : " إن الله D أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء ولا تتداووا بحرام ( الشافعية - قالوا : يحرم التداوي بالخمر إذا كانت صرفا غير ممزوجة بشيء آخر تستهلك فيه كالترياق الكبير ونحوه وكذا إذا كانت صرفا قليلة غير مسكرة فيجوز بمرجوحية التداوي بها بشرط أن تتعين للدواء ولا يوجد ما يقوم مقامها من الطاهرات بشرط أن يكون ذلك بوصف الطبيب المسلم العدل وكذا يجوز في مواضع أخرى كإساغة اللقمة وقد تجب في هذه الحالة وكذا التداوي بغير الخمر من الأشياء النجسة فإنه يجوز إذا خلط بشيء غيره يستهلك فيه ولم يوجد شيء طاهر يقوم مقامه وإلا حرم التداوي به ) .
أما ما يحل شرابه ففيه تفصيل المذاهب .
( المالكية - قالوا : يباح شرب ماء العنب المعصور أول عصرة دون أن يشتد أو يسكر وكذا شرب الفقاع - بضم الفاء وتشديد القاف - وهوشراب يتخذ من قمح وتمر وقيل : ماء جعل فيه زبيب ونحوه حتى انحل فيه .
كما يباح شراب السوبيا وهي ما يتخذ من الأرز بطبخه شديدا حتى يذوب في الماء ويصفى ويوضع في السكر ليحلوبه وعقيده وهوماء العنب المغلي حتى يعقد ويهذب إسكاره الذي حصل في ابتداء غليانه ويسمى الرب الصامت " المربة " ولا يحد غليانه بذهاب ثلثيه مثلا وإنما المعتبر زوال إسكاره .
ولا تباح هذه الأشياء إلا إذا أمن سكرها فإذا لم يأمن حرم الأخذ منها .
الحنابلة - قالوا : يباح شرب عصير العنب ونحوه بشرط أن لا يشتد ويسكر وأن لا تمضي عليه ثلاثة أيام وإن لم يشتد ويغلي " يفور " فإذا قذف بزبده " وفار " قبل ثلاثة أيام حرم ولولم يسكر فإذا طبخ قبل التحريم حل إن ذهب ثلثاه بشرط أن لا يسكر فإن أسكر فكثيره وقليله حرام كما تقدم وقال بعضهم : ذهاب الثلثين ليس بشرط بل المعول على ذهاب الاسكار .
ويباح الخشاف ويسمى النبيذ وهوما يلقى من التمر أو الزبيب في الماء ليحلو . بشرط أن لا يمضي عليه ثلاثة أيام ولولم يشتد ويغلي أو يغلي ويشتد قبل ذلك وإلا حرم إن مضت عليه ثلاث وإن لم يسكر فإذا طبخ قبل أن يفور ويغلي أو تمضي عليه ثلاثة أيام حتى صار غير مسكر كشراب الخروب وغيره والمربة فلا بأس به وإن لم يذهب بالطبخ ثلثاه .
وإذا اشتد العنب قبل عصيره وغلا لم يسكر ولم يضر فيحل أكله .
الحنفية - قالوا : تباح هذه الأشياء المذكورة عند المالكية والحنابلة بشرط عدم الإسكار وقد علمت أن المعتمد قول محمد في تحريم قليل المسكر وكثيره .
الشافعية - قالوا : ويباح من الأشربة ما أخذ من التمر أو الرطب أو الشعير أو الذرة أو غيرها ذلك إذا أمن سكره ولم تكن فيه شدة مطربة فإن كان فيه شدة مطربة بأن أرغة وأزبد ولو " الكشك " المعروف فإنه يحرم ويحد به ويصير نجسا ) .
ومما يحل : الانتباذ في الدباء وهو القرع والمزفت وهو الإناء المطلي بالزفت والنقير وهو الخشبة المنقورة أو هو أصل النخلة أي ما بقي منها بعد قطعها ينقر ويوضع فيه التمر والعنب والزبيب أو نحو ذلك .
وقد نهى النبي A عن الانتباذ فيها أولا ثم نسخ ( المالكية - قالوا : لم ينسخ النهي عن الانتباذ في هذه الأشياء إلا أن المعتمد عندهم أنه نهي كراهة فيكره الانتباذ فيها سواء كان الانتباذ فيها بصنف واحد أو بصنفين كوضع الزبيب مع التمر أما في غيرها من الأواني فكيره انتباذ شيئين فيها ويسمى بالخليطين وذلك أن يكسر التمر والعنب مثلا وبعد هرسهما أو دقهما معا يصب عليهما الماء ومحل النهي عن ذلك إذا طال زمن الانتباذ لا إن قصر بحيث لا يتصور وقوع إسكار منهما وإلا جاز بلا كراهة ويدخل فيه ما ينبذ للمريض من الزبيب والقراصية والمشمش في إناء واحد فإنه لا كراهة فيه ما لم يطل حتى يتوقع منه إسكار ) هذا النهي