- هذه الرواية الأخيرة رواها ابن مهدي قال حدثنا سفيان عن عاصم عن زر قال : قلت لعبيدة : سل عليا عليه السلام عن الصلاة الوسطى فسأله فقال : كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم الأحزاب ( شغلونا عن صلاة الوسطى صلاة العصر ) قال ابن سيد الناس : وقد روي ذلك عنه من غير وجه .
والحديث يدل على أن الصلاة الوسطى هي العصر وقد اختلف الناس في ذلك على أقوال بعد اتفاقهم على أنها آكد الصلوات : .
( القول الأول ) أنها العصر وإليه ذهب علي بن أبي طالب عليه السلام وأبو أيوب وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وأبي بن كعب وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة وحفصة وأم سلمة وعبيدة السلماني والحسن البصري وإبراهيم النخعي والكلبي وقتادة والضحاك ومقاتل وأبو حنيفة وأحمد وداود وابن المنذر نقله عن هؤلاء النووي وابن سيد الناس في شرح الترمذي وغيرهما ونقله الترمذي عن أكثر العلماء من الصحابة وغيرهم . ورواه المهدي في البحر عن علي عليه السلام والمؤيد بالله وأبي ثور وأبي حنيفة .
( القول الثاني ) أنها الظهر نقله الواحدي عن زيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد وعائشة ونقله ابن المنذر عن عبد الله بن شداد ونقله المهدي في البحر عن علي عليه السلام والهادي والقاسم وأبي العباس وأبي طالب وهو أيضا مروي عن أبي حنيفة .
( القول الثالث ) أنها الصبح وهو مذهب الشافعي صرح به في كتبه ونقله النووي وابن سيد الناس عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن عباس وابن عمر وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد والربيع بن أنس ومالك بن أنس وجمهور أصحاب الشافعي وقال الماوردي [ ص 394 ] من أصحاب الشافعي : إن مذهبه أنها العصر لصحة الأحاديث فيه قال : وإنما نص على أنها الصبح لأنها لم تبلغه الأحاديث الصحيحة في العصر ومذهبه أتباع الحديث ورواه أيضا في البحر عن علي عليه السلام .
( القول الرابع ) أنها المغرب وإليه ذهب قبيصة بن ذؤيب .
( القول الخامس ) أنها العشاء نسبه ابن سيد الناس وغيره إلى البعض من العلماء وصرح المهدي في البحر بأنه مذهب الإمامية .
( القول السادس ) أنها الجمعة في يوم الجمعة وفي سائر الأيام الظهر حكاه ابن مقسم في تفسيره ونقله القاضي عياض عن البعض .
( القول السابع ) أنها إحدى الخمس مبهمة رواه ابن سيد الناس عن زيد بن ثابت والربيع بن خثيم وسعيد بن المسيب ونافع وشريح وبعض العلماء .
( القول الثامن ) أنها جميع الصلوات الخمس حكاه القاضي والنووي ورواه ابن سيد الناس عن البعض .
( القول التاسع ) أنها صلاتان العشاء والصبح ذكره ابن مقسم في تفسيره أيضا ونسبه إلى أبي الدرداء .
( القول العاشر ) أنها الصبح والعصر ذهب إلى ذلك أبو بكر الأبهري .
( القول الحادي عشر ) أنها الجماعة حكى ذلك عن الإمام أبي الحسن الماوردي .
( القول الثاني عشر ) أنها صلاة الخوف ذكره الدمياطي وقال حكاه لنا من يوثق به من أهل العلم .
( القول الثالث عشر ) أنها الوتر وإليه ذهب أبو الحسن علي بن محمد السخاوي المقري .
( القول الرابع عشر ) أنها صلاة عيد الأضحى ذكره ابن سيد الناس في شرح الترمذي والدمياطي .
( القول الخامس عشر ) أنها صلاة عيد الفطر حكاه الدمياطي .
( القول السادس عشر ) أنها الجمعة فقط ذكره النووي .
( القول السابع عشر ) أنها صلاة الضحى رواه الدمياطي عن بعض شيوخه ثم تردد في الرواية .
احتج أهل القول الأول بالأحاديث الصحيحة الصريحة المتفق عليها ومنها حديث الباب وما بعده من الأحاديث المذكورة الآتية وهو المذهب الحق الذي يتعين المصير إليه ولا يرتاب في صحته من أنصف من نفسه واطرح التقليد والعصبية وجود النظر إلى الأدلة ولم يعتذر عن أدلة هذا القول أهل الأقوال الآخرة بشيء يعتد به إلا حديث عائشة أنها أمرت أبا يونس يكتب لها مصحفا الحديث سيأتي ويأتي الجواب عن هذا الاعتذار .
وأما اعتذار من اعتذر عنه بأن الاعتبار بالوسطى من حيث العدد فهو عذر بارد ونصب لنظر فاسد في مقابلة النصوص لأن الوسطى لا تتعين أن تكون من حيث العدد لجواز أن تكون من حيث الفضل على أنه لو سلم أن المراد بها الوسطى من حيث [ ص 395 ] العدد لم يتعين بذلك غير العصر من سائر الصلوات إذ لا بد أن يتعين الابتداء ليعرف الوسط ولا دليل على ذلك ولو فرضنا وجود دليل يرشد إلى الابتداء لم ينتهض لمعارضة الأحاديث الصحيحة المتفق عليها المتضمنة لأخبار الصادق المصدوق أن الوسطى هي العصر فكيف يليق بالمتدين أن يعول على مسلك النظر المبني على شفا جرف هار ليتحصل له به معرفة الصلاة الوسطى وهذه أقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنادي ببيان ذلك .
واحتج أهل القول الثاني بأن الظهر متوسطة بين نهاريتين وبأنها في وسط النهار ونصب هذا الدليل في مقابلة الأحاديث الصحيحة من الغرائب التي لا تقع لمنصف ولا متيقظ واحتجوا أيضا بقوله تعالى { أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } فلم يذكرها ثم أمر بها حيث قال { لدلوك الشمس } وأفردها في الأمر بالمحافظة عليها بقوله { والصلاة الوسطى } وهذا الدليل أيضا من السقوط بمحل لا يجهل نعم أحسن ما يحتج به لهم حديث زيد بن ثابت وأسامة بن زيد وسيأتيان وسنذكر الجواب عليهما .
واحتج أهل القول الثالث بأن الصبح تأتي وقت مشقة بسبب برد الشتاء وطيب النوم في الصيف والنعاس وفتور الأعضاء وغفلة الناس وبورود الأخبار الصحيحة في تأكيد أمرها فخصت بالمحافظة لكونها معرضة للضياع بخلاف غيرها وهذه الحجة ليست بشيء ولكن الأولى الاحتجاج لهم بما رواه النسائي عن ابن عباس قال : ( أدلج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم عرس فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس أو بعضها فلم يصل حتى ارتفعت الشمس فصلى وهي صلاة الوسطى ) ويمكن الجواب عن ذلك من وجهين الأول أن ما روي من قوله في هذا الخبر وهي صلاة الوسطى يحتمل أن يكون من المدرج وليس من قول ابن عباس ويحتمل أن يكون من قوله وقد أخرج عنه أبو نعيم أنه قال : ( الصلاة الوسطى صلاة العصر ) وهذا صريح لا يتطرق إليه من الاحتمال ما يتطرق إلى الأول فلا يعارضه . الوجه الثاني ما تقرر من القاعدة أن الاعتبار عند مخالفة الراوي روايته بما روى لا بما رأى فقد روى عنه أحمد في مسنده قال : ( قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدوا فلم يفرغ منهم حتى أخر العصر عن وقتها فلما رأى ذلك قال اللهم من حبسنا عن الصلاة الوسطى املأ بيوتهم نارا أو قبورهم نارا ) وذكر أبو محمد بن الفرس في كتابه في أحكام القرآن أن ابن عباس قرأ { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } صلاة العصر على البدل على أن ابن عباس لم يرفع تلك المقالة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل قالها من قبل نفسه وقوله ليس بحجة .
واحتج أهل القول الرابع [ ص 396 ] بأن المغرب سبقت عليها الظهر والعصر وتأخرت عنها العشاء والصبح .
واحتج أهل القول الخامس بأنها العشاء بمثل ما احتج أهل القول الرابع .
واحتج أهل القول السادس بأن الجمعة قد ورد الترغيب في المحافظة عليها . قال النووي : وهذا ضعيف لأن المفهوم من الإيصاء بالمحافظة عليها إنما كان لأنها معرضة للضياع وهذا لا يليق بالجمعة فإن الناس يحافظون عليها في العادة أكثر من غيرها لأنها تأتي في الأسبوع مرة بخلاف غيرها .
واحتج أهل القول السابع على أنها مبهمة بما روي أن رجلا سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال : حافظ على الصلوات تصبها فهي مخبوءة في جميع الصلوات خبء ساعة الإجابة في ساعات يوم الجمعة وليلة القدر في ليالي شهر رمضان والاسم الأعظم في جميع الأسماء والكبائر في جملة الذنوب . وهذا قول صحابي ليس بحجة ولو فرض أن له حكم الرفع لم ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما .
واحتج أهل القول الثامن بأن ذلك أبعث على المحافظة عليها أيضا قال النووي : وهذا ضعيف أو غلط لأن العرب لا تذكر الشيء مفصلا ثم تجمله وإنما تذكره مجملا ثم تفصله أو تفصل بعضه تنبيها على فضيلته .
واحتج أهل القول التاسع بقوله A : ( لو يعلمون ما في العشاء والصبح لأتوهما ولو حبوا ) وقوله : ( من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة ومن صلاها مع الصبح في جماعة كان كقيام ليلة ) وهذا الاستدلال مع كونه لا يثبت المطلوب معارض بما ورد في العصر وغيرها من الترغيب والترهيب .
واحتج أهل القول العاشر بمثل ما احتج به للتاسع ورد بمثل ما ورد .
واحتج أهل القول الحادي عشر بما ورد من الترغيب في المحافظة على الجماعة ورد بأن ذلك لا يستلزم كونها الوسطى وعورض بما ورد في سائر الصلوات من الفرائض وغيرها .
واحتج أهل القول الثاني عشر بقول الله تعالى عقيب قوله { حافظوا على الصلوات } { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } وذكروا وجوها للاستدلال كلها مردودة .
واحتج أهل القول الثالث عشر بأن المعطوف غير المعطوف عليه فالصلاة الوسطى غير الصلوات الخمس وقد وردت الأحاديث بفضل الوتر فتعينت والنص الصريح الصحيح يرده .
واحتج أهل القول الرابع عشر بمثل ما احتج به للذي قبله ورد بمثل ما رد .
واحتج أهل القول الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر بمثل ذلك ورد بالنص والمعارضة .
إذا تقرر لك هذا فاعلم أنه ليس في شيء من حجج هذه الأقوال ما يعارض حجج القول الأول معارضة يعتد بها في الظاهر إلا ما سيأتي في الكتاب من الاحتجاج لأهل القول الثاني وستعرف عدم صلاحيته للتمسك به