- حديث أبي هريرة أخرجه أيضا ابن حبان وصححه وحسنه الترمذي قد عزاه الحافظ في بلوغ المرام إلى أحمد والأربعة وهو وهم فإنه ليس في سنن أبي داود غير حديث ابن عمرو المذكور ووهم أيضا بعض الشراح فقال إن أبا داود زاد في روايته لحديث ابن عمرو لفظ في الحكم وليست تلك الزيادة عند أبي داود بل لفظه لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الراشي والمرتشي .
قال ابن رسلان في شرح السنن وزاد الترمذي والطبراني بإسناد جيد بالحكم . وحديث ابن عمرو أخرجه أيضا ابن حبان والطبراني والدار قطني قال الترمذي وقواه الدارمي اه . وإسناده لا مطعن فيه فإن أبا داود قال حدثنا أحمد بن يونس يعني اليربوعي حدثنا ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبد الرحمن يعني الققرشي العامري خال ابن أبي ذئب ذكره ابن حبان في الثقات عن أبي سلمة يعني ابن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو بن العاص . وحديث ثوبان أخرجه أيضا الحاكم وفي إسناده ليث بن أبي سليم قال البزار أنه تفرد به .
وقال في مجمع الزوائد أنه أخرجه أحمد والبزار والطبراني في الكبير وفي إسناده أبو الخطاب وهو مجهول اه وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف عند الحاكم وعن عائشة وأم سلمة أشار إليهما الترمذي قال في التلخيص ينظر من خرجهما . وحديث عمرو بن مرة أخرجه أيضا الحاكم والبزار وفي الباب عن أبي مريم الأزدي مرفوعا أخرجه أبو داود والترمذي بلفظ " من تولى شيئا من أمر المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقيرهم احتجب الله دون حاجته " قال الحافظ في الفتح أن سنده جيد . وعن ابن عباس عند الطبراني في الكبير بلفظ " أيما أمير أجتجب عن الناس فأهمهم احتجب الله عنه يوم القيامة " قال ابن أبي حاتم هو حديث منكر .
قوله : " على الراشي " هو دافع الرشوة والمرتشي القابض لها والرائش هو ما ذكره في الرواية التي في الباب قال ابن رسلان ويدخل في إطلاق الرشوة والرشوة للحاكم والعامل على أخذ الصدقات وهي حرام بالإجماع اه .
قال الإمام المهدي في البحر في كتاب الإجارات منه مسألة وتحرم رشوة الحاكم إجماعا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم " لعن الله الراشي والمرتشي " قال الإمام يحيى ويفسق للوعيد . والراشي أن طلب باطلا عنه الخبر قال المنصور بالله وأبو جعفر وبعض أصحاب الشافعي وإن طلب بذلك حقا مجمعا عليه جاز .
قيل وظاهر المذهب المنع لعموم الخبر وإن كان مختلفا فيه فكالباطل إذ لا تأثير لحكمه اه قلت والتخصيص لطالب الحق بجواز تسليم الرشوة منه للحاكم لا أدري بأي مخصص فالحق التحريم مطلقا أخذا بعموم الحديث ومن زعم الجواز في صورة من لصور فإن جاء بدليل مقبول وإلا كان تخصيصه ردا عليه فإن الأصل في مال المسلم التحريم ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وقد انضم إلى هذا الأصل كون الدافع إنما دفعه لأحد أمرين إما لينال به حكم الله إن كان محقا وذلك لا يحل لأن المدفوع في مقابلة أمر واجب أوجب الله D على الحاكم الصدع به فكيف لا يفعل حتى يأخذ عليه شيئا من الحطام وإن كان الدفع للمال من صاحبه لينال به خلاف ما شرعه الله إن كان مبطلا فذلك أقبح لأنه مدفوع في مقابلة أمر محظور فهو أشد تحريما من المال المدفوع للبغي في مقابلة الزنا بها لأن الرشوة يتوصل بها إلى أكل مال الغير الموجب لإحراج صدره والإضرار به بخلاف المدفوع إلى البغي فالتوصل به إلى شيء محرم وهو الزنا لكنه مستلذ للفاعل والمفعول به وهو أيضا ذنب بين العبد وربه وهو أسمح الغرماء ليس بين العاصي وبين المغفرة إلا التوبة ما بينه وبين الله وبين الأمرين بون بعيد . ومن الأدلة الدالة على تحريم الرشوة ما حكاه ابن رسلان في شرح السنن عن الحسن وسعيد بن جبير أنهما فسرا قوله تعالى { أكالون للسحت } بالرشوة .
وحكي عن مسروق عن ابن مسعود أنه لما سئل عن السحت أهو الرشوة فقال لا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمته فيهدي لك فإن أهدى لك فلا تقبل .
وقال أبو وائل شقيق بن مسلمة أحد أئمة التابعين القاضي إذا أخذ الهدية بلغت به الكفر . ورواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح اه . ما حكاه ابن رسلان . ويدل على المنع من القبول هدية من استعان بها على دفع مظلمته ما أخرجه أبو داود عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " من شفع لأخيه شفاعة فأهدي له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا " وفي إسناده القاسم بن عبد لرحمن أبو عبد الرحمن الأموي مولاهم الشامي وفيه مقال . ويدل على تحريم قبول مطلق الهدية على الحاكم وغيره من الأمرء حديث هدايا الأمراء غلول أخرجه البيهقي وابن عدي من حديث أبي حميد .
قال الحافظ وإسناده ضعيف ولعل وجه الضعف أنه من رواية إسماعيل ابن عياش عن أهل الحجاز وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة قال الحافظ وإسناده أشد ضعفا .
وأخرجه سنيد بن داود في تفسيره عن عبيدة بن سلمان عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جابر وإسماعيل ضعيف وأخرجه الخطيب في تلخيص التشابه من حديث أنس بلفظ هدايا العمال سحت وقد تقدم في كتاب الزكاة في باب العاملين عليها حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول أخرجه أبو داود وقد بوب البخاري في أبواب القضاء باب هدايا العمال وذكر حديث ابن اللتبية المشهور والظاهر أن الهدايا التي تهدى للقضاة ونحوهم هي نوع من الرشوة لأن المهدي إذا لم يكن معتادا للإهداء إلى القاضي قبل ولايته لا يهدي إليه إلا لغرض وهو إما التقوى به على باطله أو التوصل لهديته له إلى حق والكل حرام كما تقدم وأقل الأحوال أن يكون طالبا لقربه من الحاكم وتعظيمه ونفوذ كلامه ولا غرض له بذلك إلا الاستطالة على خصومه أو الأمن من مطالبتهم له فيحتشمه من له حق عليه ويخافه ما لا يخافه قبل ذلك وهذه الأغراض كلها تؤل إلى ما آلت إليه الرشوة فليحذر الحاكم المتحفظ لدينه المستعد للوقوف بين يدي ربه من قبول هدايا من أهدى إليه بعد توليه للقضاء فإن للإحسان تأثير في طبع الإنسان والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها فربما مالت نفسه إلى المهدي إليه ميلا يؤثر الميل عن الحق عند عروض المخاصمة بين المهدي وبين غيره والقاضي لا يشعر بذلك ويظن أنه لم يخرج عن الصواب بسبب ما قد زرعه الإحسان في قلبه والرشوة لا تفعل زيادة على هذا ومن هذه ومن هذه الحيثية امتنعت عن قبول الهدايا بعد دخولي في القضاء ممن كان يهدي إلي قبل الدخول فيه بل من الأقارب فضلا عن سائر الناس فكان في ذلك من المنافع ما لا يتسع المقام لبسطه أسأل الله أن يجعله خالصا لوجهه .
وقد ذكر المغربي في شرح بلوغ المرام في شرح حديث الرشوة كلاما في غاية السقوط فقال ما معناه أنه يجوزأن يرشى من كان يتوصل بالرشوة إلى نيل حق أو دفع باطل وكذلك يجوز للمرتشي أن يرشي إذا كان ذلك في حق لا يلزمه فعله وهذا أعم مما قاله المنصور بالله ومن معه كما تقدمت الحكاية لذلك عنهم لأنهم خصوا الجواز بالراشي وهذا عممه في الراشي والمرتشي وهو تخصيص مخصص ومعارضة لعموم الحديث بمحض الرأي الذي ليس عليه أثارة من علم ولا يغتر بمثل هذا إلا من لا يعرف كيفية الاستدلال والقائل C كان قاضيا .
قوله : " والخلة " في النهاية الخلة بالفتح الحاجة والفقر فيكون العطف على ما قبله من عطف العام على الخاص ( وفي الحديث ) دليل على أنه لا يحل احتجاب أولى الأمر عن أهل الحاجات قال الشافعي وجماعة أنه ينبغي للحاكم أن لا يتخذ حاجبا قال في الفتح وذهب آخرون إلى جوازه وحمل الأول على زمن سكون [ ؟ ؟ ] الناس واجتماعهم على الخير وطواعيتهم للحاكم وقال آخرون بل يستحب الأحتجاب حينئذ لترتيب الخصوم ومنع المستطيل ودفع الشر . ونقل ابن التين عن الداودي قال الذي أحدثه القضاة من شدة الأحتجاب وادخال بطائق من الخصوم لم يكن من فعل السلف اه قلت صدق لم يكن من فعل السلف ولكن من لنا بمثل رجال السلف في آخر الزمان فإن الناس اشتغلوا بالخصومة لبعضهم بعضا فلو لم يحتجب الحاكم لدخل الخصوم وقت طعامه وشرابه وخلوه بأهله وصلاته الواجبة وجميع أوقات ليله ونهاره وهذا مما لم يتعبد الله به أحدا من خلقه ولا جعله في وسع عبد من عباده وقد كان المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم سحتجب في بعض أوقاته وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى أنه كان بوابا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جلس على قف البئر في القصة المشهورة وإذا جعل لنفسه بوابا في ذلك المكان وهو منفرد عن أهله خارج عن بيته فبالأولى اتخاذه في مثل البيت وبين الأهل .
وقد ثبت أيضا في الصحيح في قصة حلفه صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يدخل على نسائه شهرا أن عمر استأذن له الأسود لما قال له يا رباح استأذن لي فذلك دليل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتخذ لنفسه بوابا ولولا ذلك لاستأذن عمر لنفسه ولم يحتج إلى قوله استأذن لي وقد ورد ما يخالف هذا في الظاهر وهو ما ثبت في الصحيح في قصة المرأة التي وجدها تبكي قند قبر فجاءت إلى بابه فلم تجد عليه بوابا والجمع ممكن أما أولا فلأن النساء لا يحتجبن عن الدخول في الغالب لأن الأمر الأهم من اتخاذ الحاجب هو منع دخول من يخشى الإنسان من اطلاعه على مالا يحل الأطلاع عليه وأما ثانيا فلأن النفي للحاجب في بعض الأوقات لا يستلزم النفي مطلقا وغاية ذلك أنه لم يكن له صلى الله عليه وآله وسلم حاجب راتب .
قال ابن بطال الجمع بينهما أنه صلى الله عليه وآله وسلم إذا لم يكن في شغل من أهله ولا انفراد بشيء من أمره رفع حجابه بينه وبين الناس ويبرز لطالب الحاجة وبمثله قال الكرماني .
وقد ثبت في قصة عمر في منازعة أمير المؤمنين علي والعباس في فدك أنه كان له حاجب يقال له يرفا .
قال ابن التين متعقبا لما نقله عن الداودي في كلامه المتقدم أن كان مراده البطائق التي فيها للسبق ليبدأ بالنظر في خصومة من سبق فهو من العدل في الحكم اه قلت ومن العدل والتثبت في الحكم أن لا يدخل الحاكم جميع من كان ببابه من المتخاصمين إلى مجلس حكمه دفعة واحدة إذا كانوا جمعا كثيرا ولا سيما إذا كانوا مثل أهل هذه الديار اليمنية فإنهم إذا وصلوا إلى مجلس القاضي صرخوا جميعا فيتشوش فهمه ويتغير ذهنه فيقل تدبره وتثبته بل يجعل ببابه من يرقم الواصلين من الخصوم الأول فالأول ثم يدعوهم إلى مجلس حكمه كل خصمين على حدة فالتخصيص لعموم المنع بمثل ما ذكرناه معلوم من كليات الشريعة وجزئياتها مثل حديث نهي الحاكم عن القضاء حال الغضب والتأذي بأمر من الأمور كما سيأتي وكذلك أمره بالتثتب والاستماع لحجة كل واحد من الخصمين وكذلك أمره باجتهاد الرأي في الخصومة التي تعرض .
قال بعض أهل العلم وظيفة البواب أو الحاجب أن يطالع الحاكم بحال من حضر ولا سيما الأعيان لاحتمال أن يجيء مخاصما والحاكم يظن أنه جاء زائرا فيعطيه حقه من الأكرام الذي لا يجوز لمن يجيء مخاصما انتهى . ولا شك في أنه يكره دوام الأحتجاب إن لم يكن محرما لما في حديث الباب .
قال في الفتح واتفق العلماء على أنه يستحب تقديم الأسبق فالأسبق والمسافر على المقيم ولا سيما إن خشي فوات الرفقة وأن من اتخذ بوابا أو حاجبا أن يتخذه أمينا ثقة عفيفا عارفا حسن الأخلاق وعارفا بمقادير الناس انتهى