- لفظ حديث أبي هريرة " لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم أكن قدرته ولكن يلقيه النذر إلى القدر فيستخرج الله فيؤتني عليه ما لم يكن يؤتني عليه من قبل " أي يعطيني .
قوله : " فليعطه " الطاعة أعم من أن تكون واجبة أو غير واجبة ويتصور النذر في الواجب بأن يؤقته كمن ينذر أن يصلي الصلاة في أول وقتها فيجب عليه ذلك بقدر ما أقته وأما المستحبمن جميع العبادات المالية والبدنية فينقلب بالنذر واجبا ويتقيد بما قيد به الناذر والخبر صريح في الأمر بالوفاء بالنذر إذا كان في طاعة وفي النهي عن الوفاء به إذا كان في معصية وهل تجب في الثاني كفارة يمين أولا فيه خلاف يأتي إن شاء الله .
قوله : " أنه لا يرد شيئا " فيه إشارة إلى تعليل النهي عن النذر وقد اختلف العلماء في هذا النهي فمنهم من حمله على ظاهره ومنهم من تأوله قال ابن الأثير في النهاية تكرر النهي عن النذر في الحديث وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك غبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به إذا يصير بالنهي معصية فلا يلزم وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك الأمر لا يجر إليهم في العاجل نفعا ولا يصرف عنهم ضررا ولا يغير قضاء فقال لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئا لم يقدر الله لكم أو تصرفون به عنكم ما قدره عليكم فإذا نذرتم فأخرجوا بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم انتهى .
وقال أبو عبيد النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثما ولو كان كذلك ما أمر الله تعالى أن يوفى به ولأحمد فاعله ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يستهان بشأنه فيفرط في الوفاء به ويترك القيام به . ثم استدل على الحث على الوفاء به من الكتاب والسنة وغلى ذلك أشار المازري بقوله ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ في النذر قال وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلا لها لما صارت عليه ضربة لازب وكل ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار ويحتمل أن يكون سببه أن الناذر لما لم يبذل القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرب قال ويشير إلى هذا التأويل قوله " أنه لا يأتي بخير " وقوله " أنه لا يقرب من ابن آدمشيئا لم يكن الله قدره له " وهذا كالنص على هذا التعليل انتهى . والاحتمال الأول يعم أنواع النذر والثاني يخص نوع المجازاة وزاد القاضي عياض فقال أن الأخبار بذلك وقع على سبيل الأعلام من أنه لا يغالب القدر ولا يأتي الخير بسببه والنهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظن بعض الجهلة قال ومحصل مذهب الإمام مالك أنه مباح إلا إذا كان مؤيدا لتكرره عليه في أوقات فقد يثقل عليه فعله فيفعله بالتكلف من غير طيبة نفس وخالص نية .
قوله " أنه لا يرد شيئا " يعني مما يكرهه الناذر وأوقع النذر استدفاعا له وأعم من هذه الرواية ما في البخاري وغيره بلفظ " أنه لا يأتي بخير " فإنه قد ينظر استجلابا لنفع أو استدفاعا لضرور النذر لا يأتي بذلك المطلوب وهو الخير الكائن في النفع أو الخير الكائن في إندفاع الضرر قال الخطابي في الأعلام هذا باب من العلم غريب وهو أن ينهى عن فعل شيء حتى إذا فعل كان واجبا وقد ذهب أكثر الشافعية ونقل عن نص الشافعي أن النذر مكروه وكذا عن المالكية وجزم الحنابلة بالكراهة .
وقال النووي أنه مستحب صرح بذلك في شرح المهذب وروى ذلك عن القاضي حسين والمتولي والغزالي وجزم القرطبي في المفهم بحمل ما ورد في الأحاديث في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة فقال هذا النهي محله أن يقول مثلا إن شفى الله مريضي فعلي صدقة . ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكورة حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى بما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعاوضة ويوضحه أنه لو لم يشف مريضه لم يتصدق بما علقه على شفائه وهذه حالة البخيل فإنه لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرجه غالبا وهذا المعنى هو المشار إليه بقوله " وإنما يستخرج به من البخيل " قال وقد ينضم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر وإليهما الإشارة في الحديث بقوله " فإنه لا يريد شيئا " والحالة الأولى تقارب الكفر والثانية خطأ صريح .
قال الحافظ بل تقرب من الكفر ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة قال والذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد فيكون إقدامه على ذلك محرما والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك .
قال الحافظ وهو تفصيل حسن ويؤيده قصة ابن عمر راوي الحديث في النهي عن النذر فإنها في نذر المجازاة .
وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى { يوفون بالنذر } قال كانوا ينذرون طاعة الله تعالى من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم الله تعالى أبرارا وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة وقد يشعر التعبير بالبخيل أن المنهي عنه من النذر ما فيه مال فيكون أخص من المجازاة لكن قد يوصف بالبخل أن المنهي عنه من النذر ما فيه مال فيكون أخص من المجازاة لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطاعة كما في الحديث المشهور " البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي " أخرجه النسائي وصححه ابن حبان أشار إلى ذلك العراقي في شرح الترمذي وقد نقل القرطبي الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة لقوله " من نذر أن يطع الله فليطعه " ولم يفرق بين المعلق وغيره .
قال الحافظ والاتفاق الذي ذكره مسلم لكن في الاستدلال بالحديث المذكور لوجوب الوفاء بالنذر المعلق نظر قلت لا نظر إذا لم يصحبه اعتقاد فاسد لأن إخراج المال في القرب طاعة والبخيل يحرص على المال فلا يخرجه إلا في نحو نذر المجازاة ولا تتيسر طاعته المالية إلا بمثل ذلك أو ما لا بد له منه كالزكاة والفطرة فلو لم يلزمه الوفاء لاستمر على بخله ولم يتم الاستخراج المذكور