- قصة ماعز قد رواها جماعة من الصحابة منهم من ذكره المصنف ومنهم جماعة لم يذكرهم وقد أتفق عليها الشيخان من حديث أبي هريرة وابن عباس وجابر من دون تسمية صاحب القصة وقد أطال أبو داود في سننه واستوفى طرقها . وحديث أبي بكر أخرجه أبو يعلى والبزار والطبراني وفي اسانيدهم كلهم جابر الجعفي وهو ضعيف . وحديث بريدة الآخر أخرج نحوه النسائي وفي إسناده بشير بن مهاجر الكوفي الغنوي .
وقد أخرج له مسلم ووثفه يحيى بن معين .
وقال الإمام أحمد منكر الحديث يجيء بالعجائب مرجيء متهم وقال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه ولكنه يشهد لهذا الحديث حديثه الأول الذي ذكره المصنف . وحديث أبي بكر الذي قبله وكذلك الرواية الأخرى من حديث ابن عباس التي عزاها المصنف إلى أبي داود لأن قوله فيها شهدت على نفسك أربع مرات اذهبوا فارجموه يشعر بأن ذلك هو العلة في ثبوت الرجم وقد سكت أبو داود والمنذري عن هذه الرواية ورجالها رجال الصحيح .
قوله : " أبكى جنون " وقع في رواية من حديث بريدة فسأل أبه جنون فأخبر بأنه ليس بمجنون .
وفي لفظ " فأرسل إلى قومه فقالوا ما نعلم إلا أنه في العقل من صالحينا " وفي حديث أبي سعيد ما نعلم به بأسا ويجمع بين هذه الروايات بأنه سأله أولا ثم سأل عنه احتياطا وفيه دليل على أنه يجب على الإمام الاستفصال والبحث عن حقيقة الحال ولا يعارض هذا عدم استفصال فيها لا يدل على العدم لاحتمال أن يقتصر الراوي على نقل بعض الواقع .
قوله : " فهل أحصنت " بفتح الهمزة أن تزوجت وقد روى في هذه القصة زيادات في الاستفصال . منها في حديث ابن عباس عند البخاري والنسائي وأبي داود بلفظ " لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت " والمعنى أنك تجوزت بإطلاق لفظ الزنا على مقدماته .
وفي رواية لهم من حديث ابن عباس أيضا " أفنكتها قال نعم " وسيأتي ذلك في باب استفسار المقر وفي رواية لمسلم وأبي داود من حديث بريدة " أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال له اشربت خمرا قال لا " وفيه " فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريحا " .
قوله : " اذهبوا به فارجموه " فيه دليل على أنه لا يجب أن يكون الإمام أول من يرجم وسيأتي الكلام على ذلك في باب أن السنة بداءة الشاهد بالرجم وبداءة الإمام به .
وفيه أيضا دليل على أنه لا يحب الحفر للمرجوم لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهم بذلك وسيأتي بيان ذلك في باب ما جاء في الحفر للمرجوم .
قوله : " فلما أذلقته الحجارة " بالذال المعجمة والقاف أي بلغت منه الجهد .
قوله : " أعضل " بالعين المهملة والضاد المعجمة أي ضخم عضلة الساق .
قوله : " أنه قد زنى الأخر " هو مقصور بوزن الكبد أي الأبعد .
قوله : " فاقر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع مرات " قد تطابقت الروايات التي ذكرها المصنف في هذا الباب على أن ماعزا أقر أربع مرات . ووقع في حديث أبي سعيد عند مسلم بلفظ " فاعترف ثلاث مرات " ووقع عند مسلم من طريق شعبة عن سماك قال فرده مرتين وفي أخرى مرتين أو ثلاثا قال شعبة فذكرته لسعيد بن جبير فقال أنه رده أربع مرات وقد جمع بين الروايات بجعل رواية المرتين على أنه اعترف مرتين في يوم ومرتين في يوم آخر ويدل على ذلك ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس قال جاء ماعز إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاعترف بالزنا مرتين فطرده ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين كما في الرواية المذكورة في الباب فلعله اقتصر الراوي على ما وقع منه في أحد اليومين وأما رواية الثلاث فلعله أقتصر الراوي فيها على المرات التي رده فيها فإنه لم يرده في الرابعة بل استثبت وسأله عن عقله ثم أمر برجمه .
قوله : " لو رجعا بعد اعترافهما " أي رجعا على رحالهما ويحتمل انه أراد الرجوع عن الإقرار ولكن الظاهر الأول لقوله أو قال لو لم يرجعا فإن المراد به لم يرجعا إليه صلى الله عليه وآله وسلم فيكون معنى الحديث لو رجعا إلى رحالهما ولم يرجعا إليه صلى الله عليه وآله وسلم بعد كمال الإقرار لم يرجمهما وقد استدل بأحاديث الباب القائلون بأنه يشرط في الإقرار بالزنا أن يكون أربع مرات فإن نقص عنها لم يثبت الحد وهم العترة وأبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى وأحمد وابن حنبل واسحاق و الحسن بن صالح هكذا في البحر وفيه أيضا عن أبي بكر وعمر والحسن البصري ومالك وحماد وأبي ثور والبتى والشافعي أنه يكفي وقوع الإقرار مرة واحدة وروى ذلك عن داود وأجابوا عن أحاديث الباب بما سلف من الاضطراب ويرد عليهم بما تقدم واستدلوا بحديث العسيف المتقدم فأن فيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لانيس " واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " .
وبما أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وآله وسلم رجم امراة من جهينة ولم تقر إلا مرة واحدة وسيأتي الحديث في باب تأخير الرجم عن الحبلى . وكذلك حديث بريدة الذي سيأتي هنالك فإن فيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم رجمها قبل أن تقر أربعا ولما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث خالد بن اللجلاج عن أبيه أنه كان قاعدا يعمل في السوق فمرت امرأة تحمل صبيا فثار الناس معها وثرت فيمن ثار فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول من أبو هذا معك فسكتت فقال شاب خذوها أنا أبوه يا رسول الله فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بعض من حوله يسألهم عنه فقالوا ما علمنا إلا خيرا فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحصنت قال نعم فأمر به فرجم " وعن جابر بن عبد الله عند أبي داود " إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقر عنده رجل أنه زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجلد الحد ثم أخبر أنه محصن فأمر به فرجم " وقد تقدم . ومن ذلك حديث الذي أقر بأنه زنى بامرأة وأنكرت وسيأتي في باب من أقر انه زنى بامرأة فجحدت . ومن ذلك حديث الرجل الذي أدعت المرأة أنه وقع عليها فأمر برجمه ثم قام آخر فاعترف أنه الفاعل ففي رواية أنه رجمه وفي رواية أنه عفا عنه وهو في سنن النسائي والترمذي . ومن ذلك حديث اليهوديين فإنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كرر عليهما الإقرار قالوا ولو كان تربيع الإقرار شرطا لما تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مثل هذه الواقعات التي يترتب عليها سفك الدماء وهتك الحرم . وأجاب الأولون عن هذه الأدلة بأنها مطلقة قيدتها الأحاديث التي فيها أنه وقع الإقرار أربع مرات ورد بأن الإطلاق والتقييد من عوارض الألفاظ وجميع الأحاديث التي ذكر فيها تربيع الإقرار أفعال ولا ظاهر لها وغاية ما فيها جواز تأخير إقامة الحد بعد وقوع الإقرار مرة إلى أن ينتهي إلى أربع ثم لا يجوز التأخير بعد ذلك وظاهر السياقات مشعر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما فعل ذلك في قصة ماعز لقصد التثبت كما يشعر بذلك قوله له " أبك جنون " ثم سؤاله بعد ذلك لقومه فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبسا في ثبوت العقل واختلاله والصحو والسكر ونحو ذلك وأحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة واحدة على من كان معروفا بصحة العقل وسلامة إقراره عن المبطلات .
وأما ما رواه بريدة من أن الصحابة كانوا يتحدثون أنه لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات لم يرجمه فليس ذلك مما تقوم به الحجة لأن الصحابي لا يكون فهمه حجة إذا عارض الدليل الصحيح . ومما يؤيد ما ذكرناه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قالت له الغامدية أتريد أن تردني كما رددت ماعزا لم ينكر ذلك عليها كما سيأتي في باب تأخير الرجم عن الحبلى ولو كان تربيع الإقرار شرطا لقال لها إنما رددته لكونه لم يقرأ ربعا وهذه الواقعة من أعظم الأدلة على أن تربيع الإقرار ليس بشرط للتصريح فيها بأنها متأخرة عن قضية ماعز وقد اكتفى فيها بدون أربع مرات كما سيأتي وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث ابن عباس المذكور في الباب شهدت على نفسك أربع شهادات فليس في هذا ما يدل على الشطية أصلا وغاية ما فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبره بانه قد استحق الرجم لذلك وليس فيه ما ينفي الاستحقاق فيما دونه ولا سيما وقد وقع منه الرجم بدون حصول التربيع كما سلف وأما الاستدلال بالقياس على شهادة الزنا فإنه لما أعتبر فيه أربعة شهود أعتبر في إقراره أن يكون أربع مرات ففي غاية الفساد لأنه يلزم من ذلك أن يعتبر في الإقرار بالأموال والحقوق أن يكون مرتين لأن الشهادة في ذلك لابد أن تكون من رجلين ولا يكفي فيها الرجل الواحد واللازم باطل بإجماع المسلمين فالملزوم مثله وإذا تقرر لك عدم اشتراط الأربع عرفت عدم اشتراط ما ذهبت إليه الحنفية والقاسمية من أن الأربع لا تكفي أن تكون في مجلس واحد بل لا بد أن تكون في أربعة مجالس لأن تعدد الأمكنة فرع تعدد الإقرار الواقع فيها وإذا لم يشترط الأصل تبعه الفرع في ذلك وأيضا لو فرضنا اشتراط كون الإقرار أربعا لم يستلزم كون مواضعه متعددة أما عقلا فظاهر لأن الإقرار أربع مرات وأكثر منها في موضع واحد من غير انتقال مما لا يخالف في امكانه عاقل وأما شرعا فليس في الشرع ما يدل على أن الإقرار الواقع بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم وقع من رجل في أربعة مواضع فضلا عن وجود ما يدل على أن ذلك شرط وأكثر الألفاظ في حديث ماعز بلفظ أنه أقر أربع مرات أو شهد على نفسه أربع شهادات وأما الرد الواقع بعد كل مرة كما في حديث أبي بكر المذكور فليس في ذلك أنه رد المقر من ذلك الموضع إلى موضع آخر ولو سلم فليس الغرض في ذلك الرد هو بعدد المجالس بل الاستثبات كما يدل على ذلك ما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من الألفاظ الدالة على أن ذلك الرد لأجله ومما يؤيد ذلك حديث ابن عباس المذكور في الباب فإن فيه أنه جاء اليوم الأول فأقر مرتين فطرده ثم جاء اليوم الثاني فأقر مرتين فأمر برجمه وهكذا يجاب عن الاستدلال بما روى نعيم ابن هزال أنه صلى الله عليه وآله وسلم أعرض عن ماعز في المرة الأولى والثانية والثالثة كما أخرجه أبو داود وأخرجه أيضا أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة والاعراض لا يستلزم أن تكون المواضع التي أقر فيها المقر أربعة بلا شك ولا ريب ولو سلم أنه يستلزم ذلك بقرينة ما روي أنه جاءه من جهة وجهه أولا ثم من عن يمينه ثم من عن شماله ثم من ورائه وسيأتي قريبا أنه كان يقر كل مرة في جهة غير الجهة الأولى فهذا ليس فيه أيضا أن الاعراض لقصد تعدد الإقرار أو تعدد مجالسه بل لقصد الاستثبات كما سلف لما سلف