- حديث واثلة أخرجه أيضا النسائي وابن حبان والحاكم . قوله " وحوله عصابة " بفتح اللام على الظرفية . والعصابة بكسر العين الجماعة من العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها وقد جمعت على عصائب وعصب .
قوله : " بايعوني " المبايعة هنا عبارة عن المعاهدة سميت بذلك تشبيها بالمعارضة المالية كما في قوله تعالى { أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } قوله " ولا تقتلوا أولادكم " قال محمد بن إسماعيل التيمي وغيره خص القتل بالأولاد لأنه قتل وقطيعة رحم فالعناية بالنهي عنه آكد ولأنه كان شائعا فيهم وهو وأد البنات أو قتل البنين خشية الأملاق أو خصهم بالذكر لأنهم بصدد أن لا يدفعوا عن أنفسهم .
قوله : " ولا تأتوا ببهتان " البهتان الكذب الذي يبهت سامعه وخص الأيدي والأرجل بالافتراء لأن معظم الأفعال يقع بهما إذا كانت هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي ولذا يسمون الصنائع الأيادي وقد يعاقب الرجل بجناية قولية فيقال هذا بما كسبت يداك ويحتمل أن يكون المراد لا تبهتوا الناس كفاحا وبعضكم شاهد بعضا كما يقول قلت كذا بين يدي فلان قال الخطابي وقد تعقب بذكر الأرجل وأجاب الكرماني بأن المراد الأيدي وذكر الأرجل للتأكيد ( ومحصله ) إن ذكر الأرجل إن لم يكن مقتضيا فليس بمانع ويحتمل أن يكون المراد بما بين الأرجل والأيدي القلب لأنه هو الذي يترجم اللسان عنه فلذلك نسب إليه الافتراء وقال أبو محمد بن أبي جمرة يحتمل أن يكون قوله بين أيديكم أي في الحال . وقوله وأرجلكم أي في المستقبل لأن السعي من أفعال الأرجل وقال غيره أصل هذا كان في بيعة النساء وكني به كما قال الهروي عن نسبة المرأة الولد الذي تزني به أو تلقطه إلى زوجها ثم لما استعمل هذا اللفظ في بيعة الرجال أحتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أولا .
قوله : " ولا نعصوا في معروف " هو ما عرف من الشارع حسنه نهيا وأمرا قال النووي يحتمل أن يكون المراد ولا تعصوني ولا أحدا ولى الأمر عليكم في المعروف فيكون التقييد بالمعروف متعلقا بشيء بعده وقال غيره نبه بذلك على أن طاعة المخلوق إنما تجب فيما كان غير معصية لله فهي جديرة بالتوقي في معصية الله .
قوله : " فمن وفى منكم " أي ثبت على العهد ولفظ وفي بالتخفيف وفي رواية بالتشديد وهما بمعنى .
قوله : " فأجره على الله " هذا على سبيل التفخيم لأنه لما ذكر المبالغة المقتضية لوجود العوض أثبت ذكر الأجر وقد وقع التصريح في رواية في الصحيحين بالعوض فقال في الجنة .
قوله : " ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو " أي العقاب كفارة له قال النووي عموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به } فالمرتد إذا قتل على ارتداده لا يكون القتل له كفارة .
قال الحافظ وهذا بناء على أن قوله من ذلك شيئا يتناول جميع ما ذكر وهو ظاهر .
وقد قيل يحتمل أن يكون المراد ما ذكر بعد الشرك بقرينة أن المخاطب بذلك المسلمون فلا يدخل حتى يحتاج إلى إخراجه ويؤيده رواية مسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة في هذا الحديث ومن أتى منكم حدا إذ القتل على الشرك لا يسمى حدا ويجاب بأن خطاب المسلمين لا يمنع التحذير لهم من الإشراك .
وأما كون القتل على الشرك لا يسمى حدا فإن أراد لغة أو شرعا فممنوع وإن أراد عرفا فذلك غير نافع فالصواب ما قاله النووي وقال الطيبي الحق أن المراد بالشرك الأصغر وهو الرياء ويدل عليه تنكير شيئا أي شركا أياما كان وتعقب بأن عرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد به ما يقابل التوحيد وقد تكرر هذا اللفظ في الكتاب والأحاديث حيث لا يراد به إلا ذلك .
وقال القاضي عياض ذهب أكثر العلماء إلى أن الحدود كفارات واستدلوا بالحديث .
ومن العلماء من وقف لأجل حديث أبي هريرة الذي أخرجه الحاكم في المستدرك والبزار من رواية معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة " إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لا أدري الحدود كفارة لاهلها أم لا " قال الحافظ وهو صحيح على شرط الشيخين وقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر وذكر الدارقطني أن عبد الرزاق تفرد بوصله وأن هشام بن يوسف رواه عن معمر فأرسله .
وقد وصله الحاكم من طريق آدم بن أبي اياس عن ابن أبي ذئب فقويت رواية معمر قال القاضي عياض لكن حديث عبادة أصح إسنادا ويمكن الجمع بينهما أن يكون حديث أبي هريرة ورد أولا قبل أن يعلمه الله ثم أعلمه بعد ذلك وهذا جمع حسن لولا أن القاضي ومن تبعه جازمون بأن حديث عبادة المذكور كان بمكة ليلة العقبة لما بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البيعة الأولى بمنى وأبو هريرة إنما أسلم بعد ذلك بسبع سنين عام خيبر فكيف يكون حديثه متقدما ويمكن أن يجاب بأن أبا هريرة لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما سمعه من صحابي آخر كان سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قديما ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك أن الحدود كفارة كما سمع عبادة ولا يخفى ما في هذا من التعسف على انه يبطله أن أبا هريرة صرح بسماعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن الحدود لم تكن نزلت إذ ذاك ورجح الحافظ أن حديث عبادة المذكور لم يقع ليلة العقبة وإنما وقع في ليلة العقبة ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمن حضر من الأنصار أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فبايعوه على ذلك وعلى أن يرحل إليهم هو وأصحابه " وقد ثبت في الصحيح من حديث عبادة أنه قال : " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره " الحديث ساقه البخاري في كتاب الفتن من صحيحه وأخرج أحمد والطبراني من وجه آخر عن عبادة أنها جرت له قصة مع أبي هريرة عند معاوية بالشام فقال يا أبا هريرة إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة والنشاط والكسل وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أن نقول بالحق ولا نخاف في الله لومة لائم وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع به أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة الحديث .
قال الحافظ والذي يقوي أن هذه البيعة المذكورة في حديث عبادة وقعت بعد فتح مكة بعد أن نزلت الآية التي في الممتحنة وهو قوله تعالى { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } ونزول هذه الآية متأخر بعد قصة الحديبية بلاخلاف والدليل على ذلك ما عند البخاري في كتاب الحدود في حديث عبادة هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بايعهم قرأ الآية كلها وعنده في تفسير الممتحنة من هذا الوجه قال قرأ النساء . ولمسلم من طريق معمر عن الزهري قال فتلا علينا آية النساء قال " أن لا يشركن بالله شيئا " وللطبراني من هذا الحديث " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما بايع عليه النساء يوم الفتح " ولمسلم " أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أخذ على النساء " فهذه أدلة ظاهرة في هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الآية بل بعد صدور البيعة بل بعد فتح مكة وذلك بعد اسلام أبي هريرة بمدة وقد أطال الحافظ في الفتح الكلام في كتاب الإيمان على هذا فمن رام الاستكمال فليراجعه ( وأعلم ) إن عبادة بن الصامت لم يتفرد برواية هذا المعنى بل روى ذلك على ابن أبي طالب وهو في الترمذي وصححه الحاكم وفيه " من أصاب ذنبا فعوقب به في الدنيا فالله فالله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده في الآخرة " وهو عند الطبراني بإسناد حسن ولفظه من أصاب ذنبا أقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارة له . وللطبراني عن ابن عمر مرفوعا " ما عوقب رجل على ذنب إلا جعله الله كفارة لما أصيب من ذلك الذنب " قال ابن التين يريد بقوله فعوقب به أي بالقطع في السرقة والجلد أو الرجم في الزنا وأما قتل الولد فليس له عقوبة معلومة إلا أن يريد قتل النفس فكني عنه .
وفي رواية الصنابحي عن عبادة في هذا الحديث ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولكن قوله في حديث الباب فعوقب بع هو أعم من أن تكون العقوبة حدا أو تعزيرا قال ابن التين وحكى عن القاضي إسماعيل وغيره أن قتل القاتل إنما هو إرداع لغيره وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم لأنه لم يصل إليه حق .
قال الحافظ بل وصل إليه حق وأي حق فإن المقتول ظلما تكفر عنه ذنوبه بالقتل كما ورد في الخبر الذي صححه ابن حبان أن السيف محاء للخطايا .
وروى الطبراني عن ابن مسعود قال إذا جاء القتل محا كل شيء وللطبراني أيضا عن عن الحسن بن علي نحوه . وللبزار عن عائشة مرفوعا لا يمر القتل بذنب إلا محاهفلولا القتل ما كفرت ولو كان حد القتل إنما شرع للإرداع فقط لم يشرع العفو عن القاتل ويستفاد من الحديث أن إقامة الحد كفارة للذنب ولو لم يتب المحدود .
قال في الفتح وهو قول الجمهور وقيل لا بد من التوبة وبذلك جزم بعض التابعين وهو قول المعتزلة ووافقهم ابن حزم ومن المفسرين البغوي وطائفة يسيرة .
قوله : " فهو إلى الله " قال المازرى فيه رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب ورد على المعتزله الذين يوجبون تعذيب الفلسق إذا مات بلا توبة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرنا بأنه تحت المشيئة ولم يقل لابد أن يعذبه وقال الطيبي فيه إشارة إلى الكف عن الشهادة بالنار على أحد أو بالجنة لأحد إلا من ورد النص فيه بعينه .
قوله " إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه " يشمل من تاب من ذلك ومن لم يتب وغلى ذلك ذهبت طائفة وذهب الجمهور إلى أن من تاب لا يبقى عليه مؤاخذة ومع ذلك لا يأمن من مكر الله لأنه لا إطلاع له هل قبلت توبته أم لا وقيل يفرق بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب .
قوله : " انطلق إلى أرض كذا وكذا " الخقال العلماء في هذا استحباب مفارقة التائب للمواضع التي أصاب بها الذنوب والأخدان المساعدين له على ذلك ومقاطعتهم ما داموا على حالهم وأن يستبدل بهم صحبة الخير والصلاح والمتعبدين الورعين .
قوله : " نصف الطريق " هو بتخفيف الصاد أي بلغ نصفها كذا قال النووي .
قوله : " فقال قيسوا ما بين الأرضين " هذا محمول على أن الله أمرهم عند اشتباه الأمر عليهم واختلافهم فيه أن يحكموا رجلا يمر بهم فمر الملك في صورة رجل فحكم بذلك .
وقد استدل بهذا الحديث على قبول توبة القاتل عمدا .
قال النووي هذا مذهب أهل العلم وإجماعهم ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس وأما ما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا فمراد قائله الزجر والتورية لا إنه يعتقد بطلان توبته وهذا الحديث وإن كان شرع من قبلنا وفي الاحتجاج به خلاف فليس هذا موضع الخلاف وإنما موضعه إذا لم يرد شرعنا بموافقته وتقديره فإن ورد كان شرعنا لنا بلا شك وهذا قد ورد شرعنا به وذلك قوله تعالى { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس } إلى قوله { إلا من تاب } الآية وأما قوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها " فقال النووي في شرح مسلم إن الصواب في معناها أن جزاءه جهنم فقد يجازى بذلك وقد يجازى بغيره وقد لا يجازى بل يعفى عنه فإن قتل عمدا مستحلا بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد يخلد في جهنم بالإجماع وإن كان غير مستحل بل معتقدا تحريمه فهو فاسق عاص مرتكب كبيرة جزاؤها جهنم خالدا فيها وكن تفضل الله تعالى وأحبر أنه لا يخلد من مات موحدا فيها فلا يخلد هذا وكن قد يعفى عنه ولا يدخل النار أصلا وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر عصاة الموحدين ثم يخرج معهم إلى الجنة ولا يخلد في النار قال فهذا هو الصواب في معنى الآية ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة أن يتحتم ذلك الجزاء وليس في الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم وإنما فيها أنها جزاؤه أي يستحق أن يجازى بذلك وقد وردت الآية في رجل بعينه وقيل المراد بالخلود طول المدة لا الدوام وقيل معناها هذا جزاؤه أن جازاه وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة لمخالفتها حقيقة لفظ الآية ثم قال فالصواب حقيقة ما قدمناه اه كلام النووي . وينبغي أن نتكلم أولا في معنى الخلود ثم نبين ثانيا الجمع بين هذه الآية وما خالفها فنقول معنى الخلود الثبات الدائم قال في الكشاف عند الكلام على قوله تعالى { ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون } ما لفظه . والخلد الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع قال الله تعالى { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون } وقال أمرؤ القيس ألا أنعم صباحا أيها الطل البالي وهل ينعمن من كان في العصر الخالي وهل ينعمن إلا سعيد مخلد قليل الهموم لا يبيت على حال .
اه .
وقال في القاموس وخلد خلودا دام اه وأما بيام الجمع بين هذه الآية وما خالفها فنقول لا نزاع أن قوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا } من صيغ العموم الشاملة للتائب وغير التائب بل للمسلم والكافر والاستثناء المذكور في آية الفرقان أعني قوله تعالى { إلا من تاب } بعد قوله تعالى { ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق } مختص بالتائبين فيكون مخصصا لعموم قوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا } إلا على ما هو المذهب الحق من أنه ينبني العام على الخاص مطلقا تقدم أو تأخر أو قارن فظاهر وأما على مذهب من قال أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم فإذا سلمنا تأخر قوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا } على آية الفرقان فلا نسلم تأخرها عن العمومات القاضية بأن القتل مع التوبة من جملة ما يغفر الله كقوله تعالى { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله أن الله يغفر الذنوب جميعا } وقوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه } وما أخرجه الترمذي وصححه من حديث صفوان بن عسال قال " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باب من قبل المغرب يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة خلقه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض مفتوح للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها .
وأخرج الترمذي أيضا عن ابن عمر " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أن الله D يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " وأخرج مسلم من حديث أبي موسى { أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أن الله D يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها } ونحو هذه الأحاديث مما يطول تعداده ( لا يقال ) إن هذه المعلومات مخصصة بقوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } الآية . لأنا نقول الآية أعم من وجه وهو شمولها للتائب وغيره وأخص من وجه وهو كونها في القاتل وهذه العمومات أعم من وجه وهو شمولها لمن كان ذنبه القتل ولمن كان ذنبه غير القتل وأخص من وجه وهو كونها في التائب وإذا تعارض عمومان لم يبق إلا الرجوع إلى الترجيح ولا شك أن الأدلة القاضية بقبول التوبة مطلقا أرجح لكثرتها وهكذا أيضا يقال أن الأحاديث القاضية بخروج الموحدين من النار وهي متواترة المعني كما يعرف ذلك من له المام بكتب الحديث تدل على خروج كل موحد سواء كان ذنبه القتل أو غيره والآية القاضية بخروج من قتل نفسا هي أعم من أن يكون القاتل موحدا أو غير موحد فيتعارض عمومان وكلاهما ظني الدلالة .
ولكن عموم آية القتل قد عورض بما سمعته بخلاف أحاديث خروج الموحدين فإنها إنما عورضت بما هو أعم منها مطلقا كآيات الوعيد للعصاة الدالة على الخلود الشاملة للكافر والمسلم ولا حكم لهذه المعارضة أو بما هو أخص منها مطلقا كالأحاديث القاضية بتخليد بعض أهل المعاصي نحو من قتل نفسه وهو يبني العام على الخاص وبما قررناه يلوح لك انتهاض القول بقبول توبة القاتل إذا تاب وعدم خلوده في النار إذا لم يتب ويتبين لك أيضا أنه لا حجة فيما احتج به ابن عباس من أن آية الفرقان مكية منسوخة بقوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } الآية كما أخرج ذلك عنه البخاري ومسلم وغيرهما وكذلك لا حجة له فيهما أخرجه النسائي والترمذي عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " يجيء المقتول متعلقا بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دما يقول يا رب قتلني هذا حتى يدنيه من العرش " وفي رواية للنسلئي " فيقول أي رب سل هذا فيما قتلني " لأن غاية ذلك وقوع المنازعة بين يدي الله D وذلك لا يستلزم أخذ التائب بذلك الذنب ولا تخليده في النار على فرض عدم التوبة والتوبة النافعة ههنا هي الاعتراف بالقتل عند الوارث إن كان له وارث أو السلطان إن لم يكن له وارث والندم عن ذلك الفعل والعزم على ترك العود إلى مثله لا مجرد الندم والعزم بدون اعتراف وتسليم للنفس أو الدية إن اختارها مستحقها لأن حق الآدمي لا بد فيه من أمر زائد على حقوق الله وهو تسليمه أو تسليم عوضه بعد الاعتراف به ( فإن قلت ) فعلام تحمل حديث أبي هريرة وحديث معاوية المذكورين في أول الباب فإن الأول يقضي بأن القاتل أو المعين على القتل ياقى الله مكتوبا بين عينيه الإياس من الرحمة والثاني يقضي بأن ذنب القتل لا يغفره الله . قلت هما محمولان على عدم صدور التوبة من القاتل والدليل على هذا التأويل ما في الباب من الأدلة القاضية بالقبول عموما وخصوصا واو لم يكن من ذلك إلا حديث الرجل القاتل للمائة التي تنازعت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب . وحديث عبادة بن الصامت المذكور قبله فإنهما يلجئان إلى المصير إلى ذلك اليأويل ولا سيما مع ما قدمنا من تأخر تاريخ حدبث عبادة ومع كون الحديثين في الصحيحين بخلاف حديث أبي هريرة و معاوية وأيضا في حديث معاوية نفسه ما يرشد إلى هذا التأويل فإنه جعل الرجل القاتل عمدا مقترنا بالرجل الذي يموت كافرا ولا شك أن الذي يموت كافرا مصرا على ذنبه غير تائب من المخلدين في النار فيستفاد من هذا التقييد أن التوبة تمحو ذنب الكفر فيكون ذلك القرين الذي هو القتل أولى بقبولها .
وقد قال العلامة الزمخشري في الكشلف أن هذه الآية يعني قوله { ومن يقتل مؤمنا } فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم وخطب غليظ قال ومن ثم روى عن ابن عباس ما روى من أن توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة . وعن سفيان كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا لا توبة له وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة وناهيك بمحو الشرك دليلا ثم ذكر حديث " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم " وهو عند النسائي من حديث بريدة . وعند ابن ماجه من حديث البراء . وعند النسائي أيضا من حديث ابن عمر .
وأخرجه أيضا الترمذي .
وأما حديث وائلة بن الأسقع الذي ذكره المصنف في الرجل الذي أوجب على نفسه النار بالقتل فأمرهم صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعتقوا عنه فهو من أدلة قبول توبة القاتل عمدا ولا بد من حمله على التوبة فإذا تاب القاتل عمدا فإنه يشرع له التفكير لهذا الحديث وهو دليل على ثبوت الكفارة في قتل العمد كما ذهب إليه الشافعي وأصحابه . ومن أهل البيت القاسم والهادي والمؤيد بالله والإمام يحيى وقد حكى في البحر عن الهادي عدم الوجوب في العمد ولكنه نص في الأحكام والمنتخب على الوجوب فيه وهذا إذا عفى عن القاتل أو رضي الوارث بالدية وأما إذا اقتص منه فلا كفارة عليه بل القتل كفارته لحديث عبادة المذكور في الباب . ولما أخرجه أبو نعيم في المعرفة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال القتل كفارة " وهو من حديث خزيمة بن ثابت وفي إسناده ابن لهيعة قال الحافظ لكنه من حديث ابن وهب عنه فيكون حسنا . ورواه الطبراني في الكبير عن الحسن بن علي موقوفا عليه .
وأما الكفارة في قتل الخطأفهي واجبة بالإجماع وهو نص القرآن الكريم