- الحديث روى ابن ماجه نحوه من حديث محارب بن دثار عن ابن عمر . وكذلك روى أبو داود والترمذي وهو يدل على أن الأكل من لحوم الإبل من جملة نواقض الوضوء وقد اختلف في ذلك فذهب الأكثرون إلى أنه لا ينقض الوضوء قال النووي : ممن ذهب إلى ذلك الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وأبو الدرداء وأبو طلحة وعامر بن ربيعة وأبو أمامة وجماهير من التابعين ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم . وذهب إلى انتقاض الوضوء به أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن يحيى وأبو بكر ابن المنذر وابن خزيمة واختاره الحافظ أبو بكر البيهقي وحكي عن أصحاب الحديث مطلقا وحكي عن جماعة من الصحابة كذا قال النووي ونسبه في البحر إلى أحد قولي الشافعي وإلى محمد بن الحسن .
قال البيهقي : حكى عن بعض أصحابنا عن الشافعي أنه قال : إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت به . قال البيهقي : قد صح فيه حديثان حديث جابر بن سمرة وحديث البراء قاله أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه .
احتج القائلون بالنقض بأحاديث الباب واحتج القائلون بعدمه بما عند الأربعة وابن حبان من حديث جابر أنه كان آخر الأمرين منه صلى الله عليه وآله وسلم عدم الوضوء مما مست النار . قال النووي في شرح مسلم : ولكن هذا الحديث عام وحديث الوضوء من لحوم الإبل خاص والخاص مقدم على العام . وهو مبني على أنه يبنى العام على الخاص مطلقا كما ذهب إليه الشافعي وجماعة من أئمة الأصول وهو الحق وأما من قال أن العام المتأخر ناسخ فيجعل حديث ترك الوضوء مما مست النار ناسخا لأحاديث الوضوء من لحوم الإبل ولا يخفى عليك أن أحاديث الأمر بالوضوء من لحوم الإبل لم تشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا بالتنصيص ولا بالظهور بل في حديث سمرة : ( قال له الرجل : أنتوضأ من لحوم الإبل قال : نعم ) وفي حديث البراء ( توضئوا منها ) وفي حديث ذي الغرة الآتي ( أفنتوضأ من لحومها قال : [ ص 253 ] نعم ) فلا يصلح تركه صلى الله عليه وآله وسلم للوضوء مما مست النار ناسخا لها لأن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض القول الخاص بنا ولا ينسخه بل يكون فعله لخلاف ما أمر به أمرا خاصا بالأمة دليل الاختصاص به .
وهذه مسألة مدونة في الأصول مشهورة وقل من ينتبه لها من المصنفين في مواطن الترجيح واعتبارها أمر لا بد منه وبه يزول الإشكال في كثير من الأحكام التي تعد من المضايق وقد استرحنا بملاحظتها عن التعب في جمل من المسائل التي عدها الناس من المعضلات وسيمر بك في هذا الشرح من مواطن اعتبارها ما تنتفع به إن شاء الله تعالى . وقد أسلفنا التنبيه على ذلك ( فإن قلت : ) هذه القاعدة توقعك في القول بوجوب الوضوء مما مست النار مطلقا لأن الأمر بالوضوء مما مست النار خاص بالأمة كما ثبت من حديث أبي هريرة مرفوعا عند مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي بلفظ : ( توضؤا مما مست النار ) وهو عند مسلم من حديث عائشة مرفوعا وفي الباب عن أبي أيوب وأبي طلحة وأم حبيبة وزيد بن ثابت وغيرهم فلا يكون تركه للوضوء مما مست النار ناسخا للأمر بالوضوء منه ولا معارضا لمثل ما ذكرت في لحوم الإبل .
( قلت : ) إن لم يصح منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا مجرد الفعل بعد الأمر لنا بالوضوء مما مست النار فالحق عدم النسخ وتحتم الوضوء علينا منه واختصاص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بترك الوضوء منه وأي ضير في التمذهب بهذا المذهب وقد قال به ابن عمر وأبو طلحة وأنس بن مالك وأبو موسى وعائشة وزيد بن ثابت وأبو هريرة وأبو غرة الهذلي وعمر ابن عبد العزيز وأبو مجلز لاحق بن حميد وأبو قلابة ويحيى بن يعمر والحسن البصري والزهري صرح بذلك الحازمي في الناسخ والمنسوخ وقد نسبه المهدي في البحر إلى أكثر هؤلاء وزاد الحسن البصري وأبا مجلز . وكذلك النووي في شرح مسلم قال الحازمي : وذهب بعضهم إلى أن المنسوخ هو ترك الوضوء مما مست النار والناسخ الأمر بالوضوء منه قال : وإلى هذا ذهب الزهري وجماعة وذكر لهم متمسكا .
ويؤيد وجوب الوضوء مما مست النار أن حديث ترك الوضوء منه له علتان ذكرهما الحافظ في التلخيص وحديث عائشة : ( ما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوضوء مما مست النار حتى قبض ) وإن قال الجوزجاني : إنه باطل فهو متأيد بما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم من الوضوء لكل صلاة حتى كان ذلك ديدنا له وهجيرا وإن خالفه مرة أو مرتين .
إذا تقرر لك هذا فاعلم أن الوضوء المأمور به هو الوضوء الشرعي والحقائق [ ص 254 ] الشرعية ثابتة مقدمة على غيرها ولا متمسك لمن قال أن المراد به غسل اليدين .
وأما لحوم الغنم فهذه الأحاديث المذكورة في الباب مخصصة له من عموم ما مست النار ( 1 ) ففي حديث البراء الآتي ( لا توضؤا منها ) وفي حديث ذي الغرة ( أفنتوضأ من لحومها يعني الغنم قال : لا ) وفي حديث الباب ( إن شئت توضأ وإن شئت فلا تتوضأ ) وسيأتي تمام الكلام على هذا في باب استحباب الوضوء مما مسته النار .
_________ .
( 1 ) لا وجه لهذا التخصيص مع أن الظاهر أن علة الوضوء مما مست النار هو مسيسها فإن قلنا به لزم إيجابه من لحوم الغنم أيضا وإلا نقول وهو الأوجه أن حديث لحوم الغنم ناسخ لعموم حديث ما مست النار ويبقى معنا لحوم الإبل فقط فهي التي يظهر أنها موجبة للوضوء لتخصيصها بالحديث المذكور وغيره لأن العلة فيها غير مسيس النار كما يظهر وكما يشير إلى ذلك حديث النهي عن الصلاة في معاطنها .
قال الحازمي بعد أن ساق حجج الطائفتين : وقال عثمان بن سعيد الدارمي لما رأينا هذه الأحاديث قد اختلف فيها عن النبي A واختلف من ذكرناهم في الأول والآخر ولم نقف على الناسخ منها فنظرنا إلى ما اجتمع عليه الخلفاء الراشدون والأعلام من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخذنا بإجماعهم في الرخصة فيه .
ثم نقل عن بعض من رام الجمع بين هذه الأحاديث أن أحاديث الوضوء مما مست النار منسوخة وإجماع الخلفاء الراشدين وإجماع أئمة الأمصار بعدهم يدل على صحة النسخ والله أعلم اه