- قوله " وجعلنا مكة بظهر " أي جعلناها وراء أظهرنا وذلك عند إرادتهم الذهاب إلى منى : قوله " لا يخالطه شيء " يعني من العمرة ولا القران ولا غيرهما قوله " من ذي الحجة " بكسر الحاء على الأفصح . قوله : " أرأيت متعتنا هذه " أي أخبرني عن فسخنا الحج إلي عمرتنا هذه التي تمتعنا فيها بالجماع والطيب واللبس . قوله : " لعامنا هذا " أي مخصوصة به لا تجوز في غيره أم للأبد أي جميع الإعصار . ( وقد ستدل ) بهذه الأحاديث وبما يأتي بعدها مما ذكره المصنف من قال أنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة لكل واحد وبه قال أحمد وطائفة من أهل الظاهر وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي قال النووي وجمهور العلماء من السلف والخلف إن فسخ الحج إلى العمرة هو مختص بالصحابة في تلك السنة لا يجوز بعدها قالوا وإنما أمروا به في تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج واستدلوا بحديث أبي ذر وحديث الحرث بن بلال عن أبيه وسيأتيان ويأتي الجواب عنهما قالوا ومعنى قوله للأبد جواز الاعتمار في أشهر الحج والقران فهما جائزان إلى يوم القيامة وأما فسخ الحج إلى العمرة فمختص بتلك السنة وقد عارض المجوزون للفسخ ما احتج به المانعون بأحاديث كثيرة عن أربعة عشر من الصحابة قد ذكر المصنف في هذا الباب منها أحاديث عشرة منهم وهم جابر وسراقة بن مالك وأبو سعيد وأسماء وعائشة وابن عباس وأنس وابن عمر والربيع بن سبرة والبراء وأربعة لم يذكر احاديثهم وهم حفصة وعلي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو موسى . قال في الهدي وروى ذلك عن هؤلاء الصحابة طوائف من كبار التابعين حتى صار منقولا عنهم نقلا يرفع الشك ويوجب اليقين ولا يمكن أحد أن ينكره أو يقول لم يقع وهو مذهب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومذهب حبر الأمة وبحرها ابن عباس وأصحابه ومذهب أبو موسى الأشعري ومذهب أمام أهل السنة والحديث أحمد بن حنبل وأهل الحديث معه ومذهب عبد الله ابن الحسن العنبري قاضي البصرة ومذهب أهل الظاهر انتهى . واعلم إن هذه الأحاديث قاضية بجواز الفسخ . وقول أبي ذر لا يصلح للاحتجاج به عليها إنها مختصة بتلك السنة وبذلك الركب وغاية ما فيه أنه قول صحابي فيما هو مسرح للاجتهاد فلا يكون حجة على أحد على فرض أنه لم يعارضه غيره فكيف إذا عارضه رأي غيره من الصحابة كان عباس فإنه أخرج عنه مسلم أنه كان يقول " لا يطوف بالبيت حاج الاحل " وأخرج عبد الرزاق أنه قال من جاء مهلا بالحج فإن الطواف بالبيت يصيره إلى عمرة شاء أم أبى فقيل له إن الناس ينكرون ذلك عليك فقال هي سنة نبيهم وإن رغموا وكابى موسى فإنه كان يفتي بجواز الفسخ في خلافة عمر كما في صحيح البخاري على ان قول أبي ذر معارض بصريح السنة كما تقدم في جوابه صلى الله عليه وآله وسلم لسراقة بقوله للأبد لما سأله عن متعتهم تلك بخصوصها مشيرا إليها بقوله متعتنا هذه فليس في المقام متمسك بيد المانعين يعتد به ويصلح لنصبه في مقابلة هذه السنة المتواترة وأما حديث الحرث بن بلال عن أبيه فسيأتي أنه غير صالح للتمسك به على فرض أنفراده فكيف إذا وقع معارضا لأحاديث أربعة عشر صحابيا كلها صحيحة وقد أبعد من قال أنها منسوخة لأن دعوى النسخ تحتاج إلى نصوص صحيحة متأخرة عن هذه النصوص وأما مجرد الدعوى فأمر لا يعجز عنه أحد .
وأما ما رواه البزار عن عمر أنه قال " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحل لنا المتعة ثم حرمها علينا " فقال ابن القيم إن هذا الحديث لا سند له ولا متن أما سنده فمما لا تقوم به حجة عند أهل الحديث وأما متنه فإن المراد بالمتعة فيه متعة النساء . ثم استدل على أن المراد ذلك بإجماع الأمة على أن متعة الحج غير محرمة ويقول عمر لو حججت لتمتعت كما ذكره الأثرم في سننه . ويقول عمر لما سئل . هل نهى عن متعة الحج فقال لا أبعد كتاب الله أخرجه عنه عبد الرزاق وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم " بل للأبد " فإن قطع لتوهم ورود النسخ عليها ( واستدل ) على النسخ بما أخرجه أبو داود " أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى عمر بن الخطاب فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي قبض فيه ينهي عن العمرة قبل الحج " وهو من رواية سعيد بن المسيب عن الرجل المذكور وهو لم يسمع من عمر وقال أبو سليمان الخطابي في إسناد هذا الحديث مقال وقد أعتمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل موته وجوز ذلك إجماع اهل العلم ولم يذكر فيه خلافا انتهى . إذا تقرر لك هذا علمت أن هذه السنة عامة لجميع الأمة وسيأتي في أخر هذا الباب بقية متمسكات الطائفتين وقد اختلف هل الفسخ على جهة الوجوب أو الجواز فما بعض إلى انه واجب قال ابن القيم في الهدى بعد أن ذكر الحديث البراء الأتي وغضبه صلى الله عليه وآله وسلم لما لم يفعلوا ما أمرهم به من الفسخ ونحن نشهد الله علينا أنا لو أحرمنا بحج لرأينا فرضا علينا فسخه إلى عمرة تفاديا من غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتباعا لأمره فوالله ما نسخ هذا في حياته ولا بعده ولا صح حرف واحد يعارضه ولا خص به أصحابه دون من بعدهم بل أجرى الله على لسانة سراقة أن سأله هل ذلك مختص بهم فأجابه بأن ذلك كائن لا بد فما ندري ما يقدم على هذه الأحاديث وهذا الأمر المؤكد الذي غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على من خالفه انتهى . والظاهر أن الوجوب رأي ابن عباس لقوله فيما تقدم أن الطواف بالبيت يصيره إلى عمرة شاء أم أبى