- قوله : ( قد سبق أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل ) الخ هذا الحديث ذكره المصنف C تعالى في باب ما جاء في قيام الليل من أبواب صلاة التطوع وهو للجماعة إلا البخاري عن أبي هريرة .
( وفيه دليل ) على أن أفضل صيام التطوع صوم شهر المحرم ولا يعارضه حديث أنس عند الترمذي قال : ( سئل رسول الله صلى [ ص 327 ] الله عليه وآله وسلم أي الصوم أفضل بعد رمضان قال شعبان لتعظيم رمضان ) لأن في إسناده صدقة بن موسى وليس بالقوي . ومما يدل على فضيلة الصيام في المحرم ما أخرجه الترمذي عن علي عليه السلام وحسنه : ( أنه سمع رجلا يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو قاعد فقال يا رسول الله أي شهر تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان فقال إن كنت صائما بعد شهر رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله فيه يوم تاب فيه على قوم ويتوب فيه على قوم ) .
وقد استشكل قوم إكثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صوم شعبان دون المحرم مع كون الصيام فيه أفضل من غيره وأجيب عن ذلك بجوابين الأول أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما علم فضل المحرم في آخر حياته والثاني لعله كان يعرض له فيه سفر أو مرض أو غيرهما .
قوله : ( عن صوم عاشوراء ) قال في الفتح : هو بالمد على المشهور وحكى فيه القصر وزعم ابن دريد أنه اسم إسلامي وأنه لا يعرف في الجاهلية ورد ذلك ابن دحية بأن ابن الأعرابي حكى أنه سمع في كلامهم خابوراء كذا في الفتح .
وبحديث عائشة المذكور في الباب : ( أن الجاهلية كانوا يصومونه ) ولكن صومهم له لا يستلزم أن يكون مسمى عندهم بذلك الاسم .
قال في الفتح أيضا : واختلف أهل الشرع في تعيينه فقال الأكثر هو اليوم العاشر قال القرطبي : عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم وهو في الأصل صفة الليلة العاشرة لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد واليوم مضاف إليها فإذا قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية فامتنعوا عن الموصوف فحذفوا الليلة فصار هذا اللفظ علما على اليوم العاشر وذكر أبو منصور الجواليقي أنه لم يسمع فاعولاء إلا هذا وضاروراء وساروراء وذالولاء من الضار والسار والذال . قال الزين ابن المنير : الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية . وقيل هو اليوم التاسع فعلى الأول اليوم مضاف الليلة الماضية وعلى الثاني هو ضاف لليلة الآتية وقيل إنما سمي يوم التاسع عاشوراء أخذا من أوراد الإبل كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية أيام ثم أوردوها في التاسع قالوا وردنا عشرا بكسر العين . وروى مسلم من حديث الحكم بن الأعرج انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه فقلت أخبرني عن يوم عاشوراء قال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما فقلت أهكذا [ ص 328 ] كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوم قال : نعم . وهذا ظاهره أن يوم عاشوراء هو التاسع انتهى كلام الفتح .
وقد تأول قول ابن عباس هذا الزين ابن المنير بأن معناه أنه ينوي الصيام في الليلة المتعقبة للتاسع وقواه الحافظ بحديث ابن عباس الآتي : ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا كان المقبل إن شاء الله صمنا التاسع ) فلم يأت العام المقبل حتى توفي قال : فإنه ظاهر في أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يصوم العاشر وهم بصوم التاسع فمات قبل ذلك . وأقول : الأولى أن يقال أن ابن عباس أرشد السائل له إلى اليوم الذي يصام فيه وهو التاسع ولم يجب عليه بتعيين يوم عاشوراء أنه اليوم العاشر لأن ذلك مما لا يسئل عنه ولا يتعلق بالسؤال عنه فائدة فابن عباس لما فهم من السائل أن مقصوده تعيين اليوم الذي يصام فيه أجاب عليه بأنه التاسع . وقوله نعم بعد قول السائل أهكذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصوم بمعنى نعم هكذا كان يصوم لو بقي لأنه قد أخبرنا بذلك ولا بد من هذا لأنه صلى الله عليه وآله وسلم مات قبل صوم التاسع وتأويل ابن المنير في غاية البعد لأن قوله وأصبح يوم التاسع صائما لا يحتمله وسيأتي لكلام ابن عباس تأويل آخر .
قوله : ( ما علمت ) الخ هذا يقتضي أن يوم عاشوراء أفضل الأيام للصيام بعد رمضان ولكن ابن عباس أسند ذلك إلى علمه فليس فيه ما يرد علم غيره وقد تقدم أن أفضل الصوم بعد رمضان على الإطلاق صوم المحرم وتقدم في الباب الذي قبل هذا أن صوم يوم عرفة يكفر سنتين وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء .
قوله : ( فلما قدم المدينة صامه ) فيه تعيين الوقت الذي وقع فيه الأمر بصيام عاشوراء وهو أول قدومه المدينة ولا شك أن قدومه كان في ربيع الأول فحينئذ كان الأمر بذلك في أول السنة الثانية وفي السنة الثانية فرض شهر رمضان فعلى هذا لم يقع الأمر بصوم عاشوراء إلا في سنة واحدة . ثم فوض الأمر في صومه إلى المتطوع .
قوله : ( من شاء صامه ومن شاء تركه ) هذا يرد على من قال ببقاء فرضية صوم عاشوراء كما نقله القاضي عياض عن بعض السلف ونقل ابن عبد البر الإجماع على أنه ليس الآن بفرض والإجماع على أنه مستحب وكان ابن عمر يكره قصده بالصوم ثم انعقد الإجماع بعده على الاستحباب .
قوله : ( وعن سلمة بن الأكوع ) قد تقدم شرح هذا الحديث في باب الصبي يصوم إذا أطاق .
قوله : ( إن أهل الجاهلية [ ص 329 ] كانوا يصومون ) الخ في حديث عائشة أنها كانت تصومه قريش . قال في الفتح : وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السالف كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة وغير ذلك .
قال الحافظ : ثم رأيت في المجلس الثالث من مجالس الباغندي الكبير عن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال : أذنبت قريش ذنبا في الجاهلية فعظم في صدورهم فقيل لهم صوموا عاشوراء يكفر ذلك انتهى .
قوله : ( فرأى اليهود تصوم عاشوراء ) في رواية لمسلم : ( فوجد اليهود صياما ) وقد استشكل ظاهر هذا الخبر لاقتضائه أنه صلى الله عليه وآله وسلم حين قدومه المدينة وجد اليهود صياما يوم عاشوراء وإنما قدم المدينة في ربيع الأول . وأجيب بأن المراد أن أول علمه بذلك وسؤاله عنه كان بعد أن قدم المدينة أو يكون في الكلام حذف وتقديره قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة فأقام إلى يوم عاشوراء فوجد اليهود فيه صياما ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون يوم عاشوراء بحساب السنين الشمسية فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة .
قوله : ( فصامه وأمر بصيامه ) قد استشكل رجوعه صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليهود في ذلك . وأجاب المازري باحتمال أن يكون أوحى إليه بصدقهم أو تواتر عنده الخبر بذلك أو أخبره من أسلم منهم كابن سلام ثم قال ليس في الخبر أنه ابتدأ الأمر بصيامه بل في حديث عائشة التصريح بأنه كان يصومه قبل ذلك فغاية ما في القصة أنه لم يحدث له بقول اليهود تجديد حكم ولا مخالفة بينه وبين حديث عائشة أن أهل الجاهلية كانوا يصومون كما تقدم إذ لا مانع من توارد الفريقين على صيامه مع اختلاف السبب في ذلك . قال القرطبي : وعلى كل حال فلم يصمه إقتداء بهم فإنه كان يصومه قبل ذلك وكان ذلك في الوقت الذي يجب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه .
قوله : ( ولم يكتب عليكم صيامه ) الخ هذا كله من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما بينه النسائي . واستدل به على أنه لم يكن فرضا قط كما قال المصنف . قال الحافظ : ولا دلالة فيه لاحتمال أن يريد ولم يكتب عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان وغايته أنه عام خص بالأدلة الدالة على تقدم وجوبه ويؤيد ذلك أن معاوية إنما صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سنة الفتح والذين شهدوا أمره بصيام عاشوراء والنداء بذلك شهدوه في السنة الأولى أول العام الثاني ويؤخذ من مجموع [ ص 330 ] الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه ثم تأكيد الأمر بذلك ثم زيادة التأكيد بالنداء العام ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال .
ومقول ابن مسعود الثابت في مسلم لما فرض رمضان ترك عاشوراء مع العلم بأنه ما ترك استحبابه بل هو باق فدل على أن المتروك وجوبه .
وأما قول بعضهم المتروك تأكيد استحبابه والباقي مطلق الاستحباب فلا يخفى ضعفه بل تأكد استحبابه باق ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال : ( لئن بقيت لأصومن التاسع ) كما سيأتي ولترغيبه فيه وإخباره بأنه يكفر سنة فأي تأكيد أبلغ من هذا