- قوله : ( ليس منا ) أي من أهل سنتنا وطريقتنا وليس المراد به إخراجه من الدين وفائدة إيراد هذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك كما يقول الرجل لولده عند معاتبته لست منك ولست مني أي ما أنت على طريقتي . وحكى عن سفيان أنه كان يكره الخوض في تأويل هذه اللفظة ويقول ينبغي أن نمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر وقيل المعنى ليس على ديننا الكامل أي أنه خرج من فرع من فروع الدين وإن كان معه أصله حكاه ابن العربي قال الحافظ : ويظهر لي إن هذا النفي يفسره التبرء الذي في حديث أبي موسى وأصل البراءة الانفصال من الشيء وكأنه توعده بأن لا يدخله في شفاعته مثلا .
قوله : ( من ضرب الخدود ) خص الخد بذلك لكونه الغالب وإلا فضرب بقية الوجه مثله .
قوله : ( وشق الجيوب ) جمع جيب بالجيم وهو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس والمراد بشقه إكمال [ ص 156 ] فتحه إلى آخره وهو من علامات السخط .
قوله : ( ودعا بدعوة الجاهلية ) أي من النياحة ونحوها وكذا الندبة كقولهم واجبلاه وكذا الدعاء بالويل والثبور كما سيأتي .
قوله : ( وجع ) بكسر الجيم .
قوله : ( في جحر امرأة من أهله ) الخ في رواية لمسلم : ( أغمي على أبي موسى فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة ) ولأبي نعيم في المستخرج على مسلم : ( أغمي على أبي موسى فصاحت امرأته بنت أبي دومة ) وذلك يدل على أن الصائحة أم عبد الله بنت أبي دومة واسمها صفية قاله عمر بن شبة في تاريخ البصرة .
قوله : ( أنا بريء ) قال المهلب : أي ممن فعل ذلك الفعل ولم يرد نفيه عن الإسلام والبراءة الانفصال كما تقدم .
قوله : ( الصالقة ) بالصاد المهملة والقاف أي التي ترفع صوتها بالبكاء ويقال فيه بالسين بدل الصاد ومنه قوله تعالى { سلقوكم بألسنة حداد } وعن ابن الأعرابي الصلق ضرب الوجه والأول أشهر .
قوله : ( والحالقة ) هي التي تحلق شعرها عند المصيبة .
قوله : ( والشاقة ) هي التي تشق ثوبها . ولفظ مسلم : ( أنا بريء ممن حلق وصلق وخرق ) أي حلق شعره وصلق صوته أي رفعه وخرق ثوبه .
( والحديثان ) يدلان على تحريم هذه الأفعال لأنها مشعرة بعدم الرضا بالقضاء .
قوله : ( من نيح عليه يعذب بما نيح عليه ) ظاهره وظاهر حديث عمر وابنه المذكورين بعده إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه وقد ذهب إلى الأخذ بظاهر هذه الأحاديث جماعة من السلف منهم عمر وابنه . وروي عن أبي هريرة أنه رد هذه الأحاديث وعارضها بقوله { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وروى عنه أبو يعلى أنه قال : تالله لئن انطلق رجل مجاهد في سبيل الله فاستشهد فعمدت امرأته سفها وجهلا فبكت عليه ليعذبن هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة . وإلى هذا جنح جماعة من الشافعية منهم الشيخ أبو حامد وغيره .
وذهب جمهور العلماء إلى تأويل هذه الأحاديث لمخالفتها للعمومات القرآنية وإثباتها لتعذيب من لا ذنب له واختلفوا في التأويل فذهب جمهورهم كما قال النووي إلى تأويلها بمن أوصى بأن يبكى عليه لأنه بسببه ومنسوب إليه قالوا وقد كان ذلك من عادة العرب كما قال طرفة بن العبد : .
إذا مت فابكيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا أم معبد .
قال في الفتح : واعترض بأن التعذيب بسبب الوصية يستحق بمجرد صدور الوصية والحديث دال على أنه إنما يقع عند الامتثال والجواب أنه ليس في السياق [ ص 157 ] حصر فلا يلزم من وقوعه عند الامتثال أن لا يقع إذا لم يمتثلوا مثلا انتهى . ومن التأويلات ما حكاه الخطابي أن المراد أن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه وذلك أن شدة بكائهم غالبا إنما تقع عند دفنه وفي تلك الحال يسئل ويبتدأ به عذاب القبر فيكون معنى الحديث على هذا أن الميت يعذب حال بكاء أهله عليه ولا يلزم من ذلك أن يكون بكاؤهم سببا لتعذيبه . قال الحافظ : ولا يخفى ما فيه من التكلف ولعل قائله أخذه من قول عائشة : ( إنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنه ليعذب بمعصيته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن ) أخرجه مسلم . ومنها ما جزم به القاضي أبو بكر بن الباقلاني وغيره أن الراوي سمع بعض الحديث ولم يسمع بعضه وإن اللام في الميت لمعهود معين واحتجوا بما أخرجه مسلم من حديث عائشة أنها قالت : ( يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما إنه لم يكذب ولكن نسي أو أخطأ إنما مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على يهودية ) فذكرت الحديث . وأخرج البخاري نحوه عنها . ومنها أن ذلك يختص بالكافر دون المؤمن واستدل لذلك بحديث عائشة المذكور في الباب قال في الفتح : وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة وفيها إشعار بأنها لم ترد الحديث بحديث آخر بل بما استشعرت من معارضة القرآن . وقال القرطبي : إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة والنسيان وعلى أنه سمع بعضا أو لم يسمع بعضا بعيد لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون وهم جازمون فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح . ومنها أن ذلك يقع لمن أهمل نهي أهله عن ذلك وهو قول داود وطائفة . قال ابن المرابط : إذا علم المرء ما جاء في النهي عن النوح وعرف أن أهله من شأنهم أن يفعلوا ذلك ولم يعلمهم بتحريمه ولا زجرهم عن تعاطيه فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه لا بفعل غيره بمجرده . ومنها أنه يعذب بسبب الأمور التي يبكيه أهله بها ويندبونه لها فهم يمدحونه بها وهو يعذب بصنيعه وذلك كالشجاعة فيما لا يحل والرياسة المحرمة وهذا اختيار ابن حزم وطائفة واستدل بحديث ابن عمر المتقدم بلفظ : ( ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه ) وقد رجح هذا الإسماعيلي وقال : قد كثر كلام العلماء في هذه المسألة وقال كل فيها باجتهاده على حسب ما قدر له ومن أحسن ما حضرني وجه لم أرهم ذكروه وهو أنهم كانوا في الجاهلية يغزون ويسبون ويقتلون وكان أحدهم إذا مات بكته باكيته بتلك الأفعال المحرمة فمعنى الخبر أن الميت يعذب بذلك الذي يبكي عليه أهله به [ ص 158 ] لأن الميت يندب بأحسن أفعاله وكانت محاسن أفعالهم ما ذكر وهي زيادة ذنب في ذنوبه يستحق عليها العقاب . ومنها أن معنى التعذيب توبيخ الملائكة بما يندبه أهله ويدل على ذلك حديث أبي موسى وحديث النعمان بن بشير الآتيان . ومنها أن معنى التعذيب تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها وهذا اختيار أبي جعفر الطبري ورجحه ابن المرابط وعياض ومن تبعه ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين واستدلوا لذلك بما أخرجه ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم من حديث قيلة بفتح القاف وسكون الباء التحتية وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صويحبه فيا عباد الله لا تعذبوا موتاكم ) قال الحافظ : وهو حسن الإسناد . وأخرج أبو داود والترمذي أطرافا منه . قال الطبري : ويؤيد ما قال أبو هريرة أن أعمال العباد تعرض على أقربائهم من موتاهم ثم ساقه بإسناد صحيح وقد وهم المغربي في شرح بلوغ المرام فجعل قول أبي هريرة هذا حديثا وصحف الطبري بالطبراني . ومن أدلة هذا التأويل حديث النعمان بن بشير الآتي وكذلك حديث أبي موسى لما فيهما من أن ذلك يبلغ الميت .
قال ابن المرابط : حديث قيلة نص في المسألة فلا يعدل عنه . واعترضه ابن رشيد فقال : ليس نصا وإنما هو محتمل فإن قوله يستعبر إليه صويحبه ليس نصا في أن المراد به الميت بل يحتمل أن يراد به صاحبه الحي وأن الميت حينئذ يعذب ببكاء الجماعة عليه . قال في الفتح : ويحتمل أن يجمع بين هذه التأويلات فينزل على اختلاف الأشخاص بأن يقال مثلا من كان طريقته النوح فمشى أهله على طريقته أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنيعه ومن كان ظالما فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به ومن كان يعرف من أهله النياحة وأهمل نهيهم عنها فإن كان راضيا بذلك التحق بالأول وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ كيف أهمل النهي ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية ثم خالفوه وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره وإقدامهم على معصية ربهم D . قال : وحكى الكرماني تفصيلا آخر وحسنه وهو التفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة فيحمل قوله { ولا تزر وازرة وزر أخرى } على يوم القيامة وهذا الحديث وما أشبهه على البرزخ انتهى . وأنت خبير بأن الآية عامة لأن الوزر المذكور فيها واقع في سياق النفي والأحاديث المذكورة في الباب مشتملة على وزر خاص وتخصيص العمومات القرآنية بالأحاديث الأحادية هو [ ص 159 ] المذهب المشهور الذي عليه الجمهور فلا وجه لما وقع من رد الأحاديث بهذا العموم ولا ملجئ إلى تجشم المضايق لطلب التأويلات المستبعدة باعتبار الآية . وأما ما روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ذلك في الكافر أو في يهودية معينة فهو غير مناف لرواية غيرها من الصحابة لأن روايتهم مشتملة على زيادة والتنصيص على بعض أفراد العام لا يوجب نفي الحكم عن بقية الأفراد لما تقرر في الأصول من عدم صحة التخصيص بموافق العام والأحاديث التي ذكر فيها تعذيب مختص بالبرزخ أو بالتألم أو بالاستعبار كما في حديث قيلة لا تدل على اختصاص التعذيب المطلق في الأحاديث بنوع منها لأن التنصيص على ثبوت الحكم لشيء بدون مشعر بالاختصاص به لا ينافي ثبوته لغيره فلا إشكال من هذه الحيثية وإنما الإشكال في التعذيب بلا ذنب وهو مخالف لعدل الله وحكمته على فرض عدم حصول سبب من الأسباب التي يحسن عندها في مقتضى الحكمة كالوصية من الميت بالنوح وإهمال نهيهم عنه والرضا به وهذا يؤل إلى مسألة التحسين والتقبيح والخلاف فيها بين طوائف المتكلمين معروف ونقول ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه فسمعنا وأطعنا ولا نزيد على هذا .
( واعلم ) أن النووي حكى إجماع العلماء على اختلاف مذاهبهم أن المراد بالبكاء الذي يعذب الميت عليه هو البكاء بصوت ونياحة لا بمجرد دمع العين