- الكلام على ألفاظ هذه الأحاديث قد تقدم في باب سنن الفطرة . وقد اختلف الناس في حد ما يقص من الشارب وقد ذهب كثير من السلف إلى استئصاله وحلقه لظاهر قوله ( احفوا وانهكوا ) وهو قول الكوفيين وذهب كثير منهم إلى منع الحلق والاستئصال وإليه ذهب مالك وكان يرى تأديب من حلقه . وروى عنه ابن القاسم أنه قال : إحفاء الشارب مثله . قال النووي : المختار أنه يقص حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفيه من أصله قال : وأما رواية ( احفوا الشوارب ) فمعناها ما طال عن الشفتين وكذلك قال مالك في الموطأ يؤخذ من الشارب حتى يبدو أطراف الشفة .
قال ابن القيم : وأما أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد فكان مذهبهم في شعر الرأس والشوارب أن الإحفاء أفضل من التقصير وذكر بعض المالكية عن الشافعي أن مذهبه كمذهب أبي حنيفة في حلق الشارب قال الطحاوي : ولم أجد عن الشافعي شيئا منصوصا في هذا وأصحابه الذين رأيناهم المزني والربيع كانا يحفيان شواربهما ويدل ذلك أنهما أخذاه عن الشافعي وروى الأثرم عن الإمام أحمد أنه كان يحفي شاربه إحفاء شديدا وسمعته يسأل عن السنة في إحفاء الشارب فقال : يحفى .
وقال حنبل : قيل لأبي عبد الله ترى للرجل يأخذ شاربه ويحفيه أم كيف يأخذه قال : إن أحفاه فلا بأس وإن أخذه قصا فلا بأس .
وقال أبو محمد في المغني : هو مخير بين أن يحفيه وبين أن يقصه . وقد روى النووي في شرح مسلم [ ص 142 ] عن بعض العلماء أنه ذهب إلى التخيير بين الأمرين الإحفاء وعدمه .
وروى الطحاوي الإحفاء عن جماعة من الصحابة أبي سعيد وأبي أسيد ورافع بن خديج وسهل بن سعد وعبد الله بن عمر وجابر وأبي هريرة .
قال ابن القيم : واحتج من لم ير إحفاء الشارب بحديث عائشة وأبي هريرة المرفوعين ( عشر من الفطرة ) فذكر منها قص الشارب . وفي حديث أبي هريرة ( أن الفطرة خمس ) وذكر منها قص الشارب .
واحتج المحفون بأحاديث الأمر بالإحفاء وهي صحيحة وبحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( كان يحفي شاربه ) انتهى .
والإحفاء ليس كما ذكره النووي من أن معناه احفوا ما طال عن الشفتين بل الإحفاء الاستئصال كما في الصحاح والقاموس والكشاف وسائر كتب اللغة .
ورواية القص لا تنافيه لأن القص قد يكون على جهة الإحفاء وقد لا يكون ورواية الإحفاء معينة للمراد وكذلك حديث الباب الذي فيه من لم يأخذ من شاربه فليس منا لا يعارض رواية الإحفاء لأن فيها زيادة يتعين المصير إليها ولو فرض التعارض من كل وجه لكانت رواية الإحفاء أرجح لأنها في الصحيحين .
وروى الطحاوي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ من شارب المغيرة على سواكه قال : وهذا لا يكون معه إحفاء ويجاب عنه بأنه محتمل ودعوى أنه لا يكون معه إحفاء ممنوعة وهو إن صح كما ذكر لا يعارض تلك الأقوال منه صلى الله عليه وآله وسلم .
قوله ( وأرخوا اللحى ) قال النووي : هو بقطع الهمزة والخاء المعجمة ومعناه اتركوا ولا تتعرضوا لها بتغيير قال القاضي عياض : وقع في رواية الأكثرين بالخاء المعجمة ووقع عند ابن ماهان أرجوا بالجيم قيل هو بمعنى الأول وأصله أرجئوا بالهمزة فحذفت تخفيفا ومعناه أخروها واتركوها .
قوله ( وفروا اللحى ) هي إحدى الروايات وقد حصل من مجموع الأحاديث خمس روايات اعفوا وأوفوا وأرخوا وأرجوا ووفروا ومعناها كلها تركها على حالها . قال ابن السكيت وغيره : يقال في جمع اللحية لحى ولحى بكسر اللام وضمها لغتان والكسر أفصح .
قوله ( خالفوا المجوس ) قد سبق أنه كان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك .
قوله ( فما فضل ) بفتح الفاء والضاد المعجمة ويجوز كسر الضاد كعلم والأشهر الفتح . وقد استدل بذلك أهل العلم والروايات المرفوعة ترده ولكنه قد أخرج الترمذي من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده ( أن النبي صلى الله عليه وله وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها ) وقال : غريب قال : سمعت محمد بن إسماعيل [ ص 143 ] يعني البخاري يقول : عمرو بن هارون يعني المذكور في إسناده مقارب الحديث لا أعرف له حديثا ليس له أصل أو قال ينفرد به إلا هذا الحديث لا نعرفه إلا من حديثه انتهى .
وقال في التقريب : إنه متروك وكان حافظا من كبار التاسعة انتهى . فعلى هذا إنها لا تقوم بالحديث حجة .
( فائدة ) قال النووي ( 1 ) : وقد ذكر العلماء في اللحية عشر خصال مكروهة بعضها أشد من بعض : الخضاب بالسواد لا لغرض الجهاد . والخضاب بالصفرة تشبها بالصالحين لا لإتباع السنة . وتبييضها بالكبريت أو غيره استعجالا للشيخوخة لأجل الرياسة والتعظيم وإيهام لقي المشايخ . ونتفها أول طلوعها إيثارا للمرودة وحسن الصورة . ونتف الشيب . وتصفيفها طاقة فوق طاقة تصنعا لتستحسنه النساء وغيرهن . والزيادة فيها والنقص منها بالزيادة في شعر العذارين من الصدغين أو أخذ بعض العذار في حلق الرأس ونتف جانبي العنفقة وغير ذلك . وتسريحها تصنعا لأجل الناس . وتركها شعثة منتفشة إظهارا للزهادة وقلة المبالاة بنفسه . هذه عشر والحادية عشرة عقدها وضفرها . والثانية عشرة حلقها إلا إذا نبت للمرأة لحية فيستحب لها حلقها .
_________ .
( 1 ) ذكر النووي في شرح مسلم عن العلماء أن في اللحية اثنتي عشرة خصلة مكروهة وأوردها معدودة وقد أورد الشارح هنا كلام النووي كما ترى فظاهره أنه ذكر النووي في اللحية عشر خصال واستظهر عليه بخصلتين وليس كذلك بل ذكر اثنتي عشرة خصلة . وقول الشارح هذه عشر ليس كما قال بل هي في كلامه تسع كما عدها النووي وترك الشارح العاشرة وهي النظر إلى سوادها وبياضها إعجابا وخيلاء وغرة بالشباب وفخرا بالمشيب وتطاولا على الشباب . تنبه لذلك والله أعلم .
( فائدة ) سئل الإمام أحمد بن حنبل عن حف الوجه فقال : ليس به بأس للنساء وأكرهه للرجال