- الحديثان يدلان على تحريم لبس الحرير لما في الأول من النهي الذي يقتضي بحقيقته التحريم وتعليل ذلك بأن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة والظاهر أنه كناية عن عدم دخول الجنة وقد قال الله تعالى في أهل الجنة { ولباسهم فيها حرير } فمن لبسه في الدنيا لم يدخل الجنة روى ذلك النسائي عن ابن الزبير وأخرج النسائي عن ابن عمر أنه قال : والله لا يدخل الجنة وذكر الآية وأخرج النسائي والحاكم عن أبي سعيد أنه قال : وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه . ويدل على ذلك أيضا حديث ابن عمر عند الشيخين بلفظ : ( قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة ) .
والخلاق كما في كتب اللغة وشروح الحديث النصيب أي من لا نصيب له في الآخرة وهكذا إذا فسر بمن لا حرمة له أو من لا دين له كما قيل . وهكذا حديث ابن عمر عند الستة إلا الترمذي بلفظ : ( أنه رأى عمر حلة من إستبرق تباع [ ص 73 ] فأتى بها النبي A فقال : يا رسول الله ابتع هذه فتجمل بها للعيد والوفود فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنما هذه لباس من لا خلاق له ثم لبث عمر ما شاء الله أن يلبث فأرسل إليه A بجبة ديباج فأتى عمر النبي A فقال : يا رسول الله قلت إنما هذه لباس من لا خلاق له ثم أرسلت إلي بهذه فقال صلى الله عليه وآله وسلم : إني لم أرسلها إليك لتلبسها ولكن لتبيعها وتصيب بها حاجتك ) .
ومن أدلة التحريم حديث عقبة بن عامر السابق في الباب الذي قبل هذا الكتاب فإن قوله لا ينبغي هذا للمتقين إرشاد إلى أن لابس الحرير ليس من زمرة المتقين . وقد علم وجوب الكون منهم ومن ذلك ما عند البخاري بلفظ : ( الذهب والفضة والحرير والديباج لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ) ومن ذلك حديث أبي موسى وعلي وحذيفة وعمر وأبي عامر وستأتي وإذا لم تفد هذه الأدلة التحريم فما في الدنيا محرم .
وأما معارضتها بما سيأتي فستعرف ما عليه . وقد أجمع المسلمون على التحريم ذكر ذلك المهدي في البحر وقد نسب فيه الخلاف في التحريم إلى ابن علية وقال : إنه انعقد الإجماع بعده على التحريم . وقال القاضي عياض : حكي عن قوم إباحته وقال أبو داود : إنه لبس الحرير عشرون نفسا من الصحابة أو أكثر منهم أنس والبراء بن عازب ووقع الإجماع على أن التحريم مختص بالرجال دون النساء وخالف في ذلك ابن الزبير مستدلا بعموم الأحاديث ولعله لم يبلغه المخصص الذي سيأتي .
وقد استدل من جوز لبس الحرير بأدلة منها حديث عقبة بن عامر المتقدم في الباب الذي قبل الكتاب وقد عرفت الجواب عن ذلك فيما سلف . ومنها حديث أسماء بنت أبي بكر في الجبة التي كان يلبسها رسول الله A في باب إباحة اليسير من الحرير وسنذكر الجواب عنه هنالك ومنها حديث المسور بن مخرمة عند الشيخين أنها قدمت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أقبية فذهب هو وأبوه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشيء منها فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليه قباء من ديباج مزرور فقال : يا مخرمة خبأنا لك هذا وجعل يريه محاسنه وقال : أرضي مخرمة ) والجواب أن هذا فعل لا ظاهر له والأقوال صريحة في التحريم على أنه لا نزاع أن النبي A كان يلبس الحرير ثم كان التحريم آخر الأمرين كما يشعر بذلك حديث جابر المتقدم .
ومنها حديث عبد الله بن سعد عن أبيه وسيأتي في باب ما جاء في لبس الحرير وسنذكر الجواب عنه هنالك . ومنها ما تقدم من لبس جماعة [ ص 74 ] من الصحابة له وسيأتي الجواب عليه في باب ما جاء في لبس الخز . ومنها أنه A لبس مستقة من سندس أهداها له ملك الروم ثم بعث بها إلى جعفر فلبسها ثم جاءه فقال : إني لم أعطكها لتلبسها قال : فما أصنع قال : أرسل بها إلى أخيك النجاشي أخرجه أبو داود والجواب عن الاحتجاج بلبسه A مثل ما تقدم في الجواب عن حديث مخرمة .
وأما عن الاحتجاج بأمره A لجعفر أن يبعث بها للنجاشي فالجواب عنه كالجواب الذي سيأتي في شرح حديث لبسه A للخز على أن الحديث غير صالح للاحتجاج لأن في إسناده علي بن زيد بن جدعان ولا يحتج بحديثه ويمكن أن يقال أن لبسه صلى الله عليه وآله وسلم لقباء الديباج وتقسيمه للأقبية بين أصحابه ليس فيه ما يدل على أنه متقدم على أحاديث النهي كما أنه ليس فيها ما يدل على أنها متأخرة عنه فيكون قرينة صارفة للنهي إلى الكراهة ويكون ذلك جمعا بين الأدلة . ومن مقويات هذا ما تقدم أنه لبسه عشرون صحابيا ويبعد كل البعد أن يقدموا على ما هو محرم في الشريعة ويبعد أيضا أن يسكت عنهم سائر الصحابة وهم يعلمون تحريمه فقد كانوا ينكرون على بعضهم بعضا ما هو أخف من هذا ( 1 ) وقد اختلفوا في الصغار أيضا هل يحرم إلباسهم الحرير أم لا فذهب الأكثر إلى التحريم قالوا لأن قوله ( على ذكور أمتي ) كما في الحديث الآتي يعمهم . ولحديث ثوبان عند أبي داود : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم من غزاة وكان لا يقدم إلا بدأ حين يقدم ببيت فاطمة فوجدها قد علقت سترا على بابها وحلت الحسنين بقلبين من فضة فتقدم فلم يدخل عليها فظنت أنه إنما منعه أن يدخل ما رأى فهتكت الستر وفكت القلبين عن الصبيين فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبكيان فأخذه منهما وقال : يا ثوبان اذهب بهذا إلى آل فلان ) الحديث . وهذا وإن كان واردا في الحلية ولكنه مشعر بأن حكمهم حكم المكلفين فيها فيكون حكمهم [ ص 75 ] في لبس الحرير كذلك .
ويمكن أن يجاب عن هذا بأن في آخر الحديث ما يشعر بعدم التحريم فإنه قال نحن أهل بيت لا نستغرق طيباتنا في حياتنا الدنيا أو كما قال .
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( عليكم بالفضة فالعبوا بها كيف شئتم ) والصغار غير مكلفين وإنما التكليف على الكبار . وقد روي أن إسماعيل بن عبد الرحمن دخل على عمر وعليه قميص من حرير وسواران من ذهب فشق القميص وفك السوارين وقال : اذهب إلى أمك . وقال محمد بن الحسن : إنه يجوز إلباسهم الحرير . وقال أصحاب الشافعي : يجوز في يوم العيد لأنه لا تكليف عليهم وفي جواز إلباسهم ذلك في باقي السنة ثلاثة أوجه أصحها جوازه والثاني تحريمه والثالث يحرم بعد سن التمييز واختلفوا في المقدار الذي يستثنى من الحرير للرجال وسيأتي الكلام عليه .
_________ .
( 1 ) يخالف هذا ما تقدم من قوله سابقا بالتحريم . وأيضا سيأتي في باب لبس الخز قول الشارح إن فعل بعض الصحابة ليس بحجة ولو كانوا كثيرا وإنما الحجة في إجماعهم . وحجية فعل الصحابة وعدمها مسألة خلافية . والقول الفصل في ذلك ما حققه العلامة ابن القيم في أعلام الموقعين أن الصحابي إذا قال قولا فإما أن يخالفه صحابي آخر أو لا يخالفه فإن خالفه مثله لم يكن قول أحدهما حجة على الآخر . وإن خالفه من هو أعلم منه كما إذا خالف الراشدين أو بعضهم غيرهم من الصحابة فالصحيح أن الحجة في قول الجانب الذي فيه الخلفاء أو بعضهم والجانب الذي فيه أبو بكر وعمر فالصواب مع أبي بكر Bه . والله أعلم