- وليس فيه للنسائي والترمذي وابن ماجه إلا الإقامة .
قوله ( أمر بلال ) هو في معظم الروايات على البناء للمفعول . وقد اختلف أهل الأصول والحديث في اقتضاء هذه الصيغة للرفع والمختار عند محققي الطائفتين أنها تقتضيه لأن الظاهر أن المراد بالآمر من له الأمر الشرعي الذي يلزم إتباعه وهو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا سيما في أمور العبادة فإنها إنما تؤخذ عن توقيف ويؤيد هذا ما وقع في رواية روح عن عطاء ( فأمر بلالا ) بالنصب وفاعل أمر هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصرح من ذلك رواية النسائي وغيره عن قتيبة عن عبد الوهاب بلفظ : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بلالا ) قال الحاكم : صرح برفعه إمام الحديث بلا مدافعة قتيبة قال الحافظ : ولم يتفرد به فقد أخرجه أبو عوانة من طريق عبدان المروزي ويحيى بن معين كلاهما عن عبد الوهاب وطريق يحيى عند الدارقطني أيضا ولم يتفرد عبد الوهاب . وقد رواه البلاذري من طريق أبي شهاب الحناط عن أبي قلابة وقضية وقوع ذلك عقب المشاورة في أمر النداء والآمر بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير شك . وقد روى البيهقي فيه بالسند الصحيح عن أنس : ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ) لا ما حكي عن بعضهم من أن الآمر لبلال بذلك [ ص 21 ] كان من بعد رسول الله A إذ من المنقول أن بلالا لم يؤذن لأحد بعد رسول الله A إلا لأبي بكر وقيل لم يؤذن لأحد بعد موت رسول الله A إلا مرة واحدة بالشام .
قوله ( أن يشفع الأذان ) بفتح أوله وفتح الفاء أي يأتي بألفاظه شفعا وهو مفسر بقوله مثنى مثنى . قال الحافظ : لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة فيحمل قوله مثنى على ما سواها انتهى . فتكون أحاديث تشفيع الأذان وتثنيته مخصصة بالأحاديث التي ذكرت فيها كلمة التوحيد مرة واحدة كحديث عبد الله بن زيد ونحوه .
قوله ( إلا الإقامة ) ادعى ابن منده والأصيلي أن قوله إلا الإقامة من كلام أيوب وليس من الحديث وفيما قالاه نظر لأن عبد الرزاق رواه عن معمر عن أيوب بسنده متصلا بالخبر مفسرا وكذا أبو عوانة في صحيحه والسراج في مسنده والأصل أن كل ما كان من الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه ولا دليل . وفي رواية أيوب زيادة من حافظ فلا يقدح في صحتها عدم ذكر خالد الحذاء لها وقد ثبت تكرير لفظ قد قامت الصلاة في حديث ابن عمر مرفوعا وسيأتي .
وقد استشكل عدم استثناء التكبير في الإقامة فإنه يثنى كما تقدم في حديث عبد الله بن زيد وأجيب بأنه وتر بالنسبة إلى تكبير الأذان فإن التكبير في أول الأذان أربع وهذا إنما يتم في تكبير أول الأذان لا في آخره كما قال الحافظ . وأنت خبير بأن ترك استثنائه في هذا الحديث لا يقدح في ثبوته لأن روايات التكرير زيادة مقبولة .
الحديث يدل على وجوب الأذان والإقامة وعلى أن الأذان مثنى وقد تقدم الكلام على ذلك .
ويدل على إفراد الإقامة إلا الإقامة وقد اختلف الناس في ذلك فذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء إلى أن ألفاظ الإقامة إحدى عشرة كلمة كلها مفردة إلا التكبير في أولها وآخرها ولفظ قد قامت الصلاة فإنها مثنى مثنى واستدلوا بهذا الحديث . وحديث ابن عمر الآتي : وحديث عبد الله بن زيد السابق .
قال الخطابي : مذهب جمهور العلماء والذي جرى به العمل في الحرمين والحجاز والشام واليمن ومصر والمغرب إلى أقصى بلاد الإسلام أن الإقامة فرادى قال أيضا : مذهب كافة العلماء أنه يكرر قوله قد قامت الصلاة إلا مالكا فإن المشهور عنه أنه لا يكررها . وذهب الشافعي في قديم قوليه إلى ذلك . قال النووي : ولنا قول شاذ إنه يقول في التكبير الأول الله أكبر مرة وفي الأخير مرة ويقول قد قامت الصلاة مرة . قال ابن سيد الناس : وقد ذهب إلى القول بأن الإقامة [ ص 22 ] إحدى عشرة كلمة عمر بن الخطاب وابنه وأنس والحسن البصري والزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ويحيى بن يحيى وداود وابن المنذر . قال البيهقي : وممن قال بإفراد الإقامة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز . قال البغوي : هو قول أكثر العلماء . وذهبت الحنفية والهادوية والثوري وابن المبارك وأهل الكوفة إلى أن ألفاظ الإقامة مثل الأذان عندهم مع زيادة قد قامت الصلاة مرتين واستدلوا بهما في رواية من حديث عبد الله بن زيد عند الترمذي وأبي داود بلفظ : ( كان أذان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شفعا شفعا في الأذان والإقامة ) وأجيب عن ذلك بأنه منقطع كما قال الترمذي وقال الحاكم والبيهقي : الروايات عن عبد الله بن زيد في هذا الباب كلها منقطعة وقد تقدم ما في سماع ابن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد . ويجاب عن هذا الانقطاع بأن الترمذي قال بعد إخراج هذا الحديث عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد ما لفظه : وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن عبد الله بن زيد رأى الأذان في المنام . قال الترمذي : وهذا أصح انتهى .
وقد روى ابن أبي ليلى عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعلي وعثمان وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب والمقداد وبلال وكعب بن عجرة وزيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان وصهيب وخلق يطول ذكرهم وقال : أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهم من الأنصار فلا علة للحديث لأنه على الرواية عن عبد الله بدون توسيط الصحابة مرسل عن الصحابة وهو في حكم المسند وعلى روايته عن الصحابة عنه مسند ومحمد بن عبد الرحمن وإن كان بعض أهل الحديث يضعفه فمتابعة الأعمش إياه عن عمرو بن مرة ومتابعة شعبة كما ذكر ذلك الترمذي مما يصحح خبره وإن خالفاه في الإسناد وأرسلا فهي مخالفة غير قادحة . واستدلوا أيضا بما رواه الحاكم والبيهقي في الخلافيات والطحاوي من رواية سويد بن غفلة أن بلالا كان يثني الأذان والإقامة وادعى الحاكم فيه الانقطاع . قال الحافظ : ولكن في رواية الطحاوي سمعت بلالا ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن جبر بن علي عن شيخ يقال له الحفص عن أبيه عن جده وهو سعد القرظ قال : أذن بلال حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أذن لأبي بكر في حياته ولم يؤذن في زمان عمر وسويد بن غفلة هاجر في زمن أبي بكر . وأما ما رواه أبو داود من أن بلالا ذهب إلى الشام في حياة أبي بكر فكان بها حتى مات فهو مرسل [ ص 23 ] وفي إسناده عطاء الخراساني وهو مدلس . وروى الطبراني في مسند الشاميين من طريق جنادة بن أبي أمية عن بلال أنه كان يجعل الأذان والإقامة مثنى مثنى وفي إسناده ضعف . قال الحافظ : وحديث أبي محذورة في تثنية الإقامة مشهور عند النسائي وغيره انتهى . وحديث أبي محذورة حديث صحيح قاسه الحازمي في الناسخ والمنسوخ وذكر فيه الإقامة مرتين مرتين وقال : هذا حديث حسن على شرط أبي داود والترمذي والنسائي ( 1 ) وسيأتي ما أخرجه عنه الخمسة : ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علمه الأذان تسع عشرة [ ص 24 ] كلمة والإقامة سبع عشرة ) وهو حديث صححه الترمذي وغيره وهو متأخر عن حديث بلال الذي فيه الأمر بإيتار الإقامة لأنه بعد فتح مكة لأن أبا محذورة من مسلمة الفتح وبلال أمر بإفراد الإقامة أول ما شرع الأذان فيكون ناسخا . وقد روى أبو الشيخ ( أن بلالا أذن بمنى ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم مرتين مرتين وأقام مثل ذلك ) إذا عرفت هذا تبين لك أن أحاديث تثنية الإقامة صالحة للاحتجاج بها لما أسلفناه وأحاديث إفراد الإقامة وإن كانت أصح منها لكثرة طرقها وكونها في الصحيحين لكن أحاديث التثنية مشتملة على الزيادة فالمصير إليها لازم لا سيما مع تأخر تاريخ بعضها كما عرفناك . وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز إفراد الإقامة وتثنيتها قال أبو عمر ابن عبد البر : ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وحملوه على الإباحة والتخيير قالوا كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع ذلك وعمل به أصحابه فمن شاء قال الله أكبر أربعا في أول الأذان ومن شاء ثنى ومن شاء ثنى الإقامة ومن شاء أفردها إلا قوله قد قامت الصلاة فإن ذلك مرتان على كل حال انتهى .
وقد أجاب القائلون بإفراد الإقامة عن حديث أبي محذورة بأجوبة منها : .
إن من شرط الناسخ أن يكون أصح سندا وأقوم قاعدة وهذا ممنوع فإن المعتبر في الناسخ مجرد الصحة لا الأصحية ومنها أن جماعة من الأئمة ذهبوا إلى أن هذه اللفظة في تثنية الإقامة غير محفوظة ورووا من طريق أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة كما ذكر ذلك الحازمي في الناسخ والمنسوخ . وأخرجه البخاري في تاريخه والدارقطني وابن خزيمة وهذا الوجه غير نافع لأن القائلين بأنها غير محفوظة غاية ما اعتذروا به عدم الحفظ وقد حفظ غيرهم من الأئمة كما تقدم ومن علم حجة على من لا يعلم . وأما رواية إيتار الإقامة عن أبي محذورة فليست كروايته التشفيع على أن الاعتماد على الرواية المشتملة على الزيادة .
ومن الأجوبة أن تثنية الإقامة لو فرض أنها محفوظة وأن الحديث بها ثابت لكانت منسوخة فإن أذان بلال هو آخر الأمرين لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عاد من حنين ورجع [ ص 25 ] إلى المدينة أقر بلالا على أذانه وإقامته . قالوا : وقد قيل لأحمد بن حنبل : أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد لأن حديث أبي محذورة بعد فتح مكة قال : أليس قد رجع رسول الله A إلى المدينة فأقر بلالا على أذان عبد الله بن زيد وهذا أنهض ما أجابوا به ولكنه متوقف على نقل صحيح أن بلالا أذن بعد رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وأفرد الإقامة ومجرد قول أحمد بن حنبل لا يكفي فإن ثبت ذلك كان دليلا لمذهب من قال بجواز الكل ويتعين المصير إليها لأن فعل كل واحد من الأمرين عقب الآخر مشعر بجواز الجميع لا بالنسخ .
_________ .
( 1 ) أقول : وقد ذكر الخلاف الحازمي في الناسخ والمنسوخ ودليل كل وأرجحية الحكم في ذلك قال ما حاصله : فذهبت طائفة إلى أن الإقامة مثل الأذان مثنى وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة وأهل الكوفة واحتجوا في الباب بهذا الحديث ( أي حديث أبي محذورة " قال : وعلمني الإقامة مرتين مرتين الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله " الخ ) وقد حسنه كما نقله الشوكاني عنه هنا ورأوه محكما وناسخا لحديث بلال وذكره بسنده عن أنس ( أنهم ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن ينوروا نارا أو يضربوا ناقوسا فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ) هذا الحديث صحيح متفق عليه أخرجه مسلم في الصحيح من حديث وهب وأخرجاه من حديث عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء . قالوا : وهذا ظاهر في النسخ لأن بلالا أمر بإفراد الإقامة أول ما شرع الأذان على ما دل عليه حديث أنس وأما حديث أبي محذورة كان عام حنين وبين الوقتين مدة مديدة . وخالفهم في ذلك أكثر أهل العلم فرأوا أن الإقامة فرادى وإلى هذا المذهب ذهب سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري ومالك بن أنس وأهل الحجاز والشافعي وأصحابه . وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز ومكحول والأوزاعي وأهل الشام . وإليه ذهب الحسن البصري ومحمد بن سيرين وأحمد بن حنبل ومن تبعهم من العراقيين . وإليه ذهب يحيى بن يحيى وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي ومن تبعهما من الخراسانيين وذهبوا في ذلك إلى حديث أنس وقالوا : أما حديث أبي محذورة فالجواب عنه من وجوه نذكر بعضها : منها أن شرط الناسخ أن يكون أصح سندا وأقوم قاعدة في جميع جهات الترجيحات على ما قررناه في مقدمة الكتاب . ونازعه في ذلك الشوكاني وغير خفي على من الحديث صناعته أن حديث أبي محذورة لا يوازي حديث أنس في جهة واحدة في الترجيحات فضلا عن الجهات كلها . ومنها أن جماعة من الحفاظ ذهبوا إلى أن هذه اللفظة في تثنية الإقامة غير محفوظة بدليل ما أخبرنا به وساق سنده إلى أبي محذورة ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ) ونحوه من الأحاديث .
ثم لو قدرنا أن هذه الزيادة محفوظة وأن الحديث ثابت ولكنه منسوخ وأذان بلال هو آخر الأذانين لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عاد من حنين ورجع إلى المدينة أقر بلالا على أذانه وإقامته . وعن الأثرم قال : قيل لأبي عبد الله : أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد لأن حديث أبي محذورة بعد فتح مكة فقال : أليس قد رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فأقر بلالا على أذان عبد الله بن زيد . وعن الخلال قال : أخبرني عبد الله بن عبد الحميد قال : ناظرت أبا عبد الله في أذان أبي محذورة فقال : نعم قد كان أبو محذورة يؤذن ويثبت تثنية أذان أبي محذورة ولكن إذ أن بلال هو آخر الأذان . وبهذا تعلم أن ما ذكره الشارح بعد إنما هو مأخوذ من الحازمي بدون عزو والله أعلم