فصل .
ثم يأتي عرفة صبح يوم عرفة ملبيا مكبرا ويجمع العصرين الظهر والعصر فيها ويخطب لما ثبت عنه A أنه خطب الناس وهو على راحلته خطبة بديعة قرر فيها قواعد الإسلام وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية وقرر فيها المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها وهي الدماء والأموال والأعراض وغير ذلك من الأحكام وكانت خطبة واحدة لم تكن خطبتين يجلس بينهما وقال في الحجة : إنما خطب يومئذ بالأحكام التي يحتاج الناس إليها لا يسعهم جهلها لأن اليوم يوم إجتماع وإنما تنتهز مثل هذه الفرصة لمثل هذه الأحكام التي يراد تبليغها إلى جميع الناس انتهى .
ثم يفيض من عرفة ويأتي المزدلفة ويجمع فيها بين العشاءين المغرب والعشاء بأذان وإقامتين ولا يسبح ههنا كما ثبت عنه A .
ثم يبيت بها قال النحاس : أن كثيرا من الحجاج لا يقف بالمزدلفة وأن وقف فلا يبيت وهذه بدعة يجب على الأمير ومن قدر أن يمنع منها لأن من ترك المبيت بالمزدلفة وجب عليه إراقة دم في الأظهر وذهب ابن خزيمة وجماعة من العلماء إلى أن المبيت بها ركن فعلى هذا إذا تركه فسد حجه ولا يجبر بدم ولا بغيره وشرط المبيت أن يكون في ساعة من النصف الثاني من الليل فلو رحل قبله لم يسقط عنه الدم ولو عاد إليها قبل الفجر سقط انتهى .
ثم يصلي الفجر حتى يتبين له الصبح بأذان وإقامة .
ويأتي المشعر الحرام تركهم السنة في الوقوف بالمشعر الحرام بدعة أيضا ويستقبل القبلة .
فيذكر الله عنده ويدعوه ويكبره ويهلله ويوحده أقول : وما أحق الذكر عند المشعر الحرام بأن يكون واجبا أو نسكا لأنه مع كونه مفعولا له A ومندرجا تحت قوله : [ خذوا عني مناسككم ] فيه أيضا النص القرآني بصيغة الأمر { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } .
ويقف به والوقوف هو النسك الرابع من مناسك الحج .
إلى قبل طلوع الشمس ثم يدفع حتى يأتي بطن محسر وهو محل هلاك أصحاب الفيل ويرزخ بين المزدلفة ومنى ليس من هذه ولا هذه فمن شأن من خاف الله وسطوته أن يستشعر الخوف في ذلك الموطن ويهرب من الغضب ثم يسلك الطريق الوسطى بين الطريقين إلى الجمرة التي عند الشجرة وهي جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة مثل حصى الخذف .
ولا يرميها إلا بعد طلوع الشمس وإنما كان رمي الجمار يوم الأول غدوة وفي سائر الأيام عشية لأن من وظيفة الأول النحر والحلق والإفاضة وهي كلها بعد الرمي ففي كونه غدوة توسعة وأما سائر الأيام فأيام تجارة وقيام أسواق فالأسهل أن يجعل ذلك بعد مايفرغ من حوائجه وأكثر ما كان الفراغ في آخر النهار .
إلا النساء والصبيان فيجوز لهم قبل ذلك ويحلق رأسه فقد دعا النبي A للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة .
أو يقصره وهو النسك الخامس .
فيحل له كل شئ إلا النساء ومن حلق أو ذبح أو أفاض إلى البيت قبل أن يرمي فلا حرج ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ليالي التشريق وهو النسك السادس .
والحاصل : أن المبيت بمنى ليس بمقصود في ذاته إنما هو لأجل الرمي المشروع لأنه فعل والزمان والمكان من ضرورياته فالحق ما قاله الحنفية وبعض الشافعية من عدم وجوبه في نفسه ويرمي في كل يوم من أيام التشريق الجمرات الثلاث بسبع حصيات مبتدئا بالجمرة الدنيا ثم الوسطى ظم جمرة العقبة لما أخرج أحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني من حديث عبد الرحمن بن يعمر [ أن النبي A أمر مناديا فنادى الحج عرفة ] وأخرج أحمد وأبو داود عن ابن عمر قال : [ غدا رسول الله A من منى حين صلى الصبح في صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة فنزل بنمرة وهي منزل الإمام الذين ينزل به بعرفة حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله A فجمع بين الظهر والعصر ثم خطب الناس ثم راح فوقف على الموقف من عرفة ] وفي صحيح مسلم من حديث جابر قال : [ لما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله A فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله A ولا تشك قريش أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز رسول الله A حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال : إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ] وفي صحيح مسلم من حديث أسامة بن زيد أن رسول الله A قال في عشية عرفة : وغداة جمع للناس حين دفعوا عليكم السكينة وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا [ وفي حديث جابر عند مسلم وغيره ] أن النبي A أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتان ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بآذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر [ وفي الصحيحين وغيرهما من حديث جابر قال ] رمى النبي صلى الله عليه تعالى وآله وسلم الجمرة يوم النحر ضحى وأما بعد فإذا زالت الشمس [ وفيهما أيضا من حديث ابن مسعود ] أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ورمى بسبع وقال : هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة [ وفي رواية ] حتى انتهى من جمرة العقبة [ وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال : ] إنا ممن قدم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله [ وفيهما أيضا من حديث عائشة قالت : ] كانت سودة إمرأة ضخمة ثبطة فاستأذنت رسول الله A أن تفيض من جمع بليل [ وفي الباب أحاديث وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أنس ] أن النبي A أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس [ وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : ] قال رسول الله A : اللهم اغفر للمحلقين قالوا يارسول الله : وللمقصرين قال : اللهم اغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله : وللمقصرين قال : اللهم اغفر للمحلقين قال يا رسول الله : وللمقصرين قال : وللمقصرين [ وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عباس قال : ] قال رسول الله A : إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شئ إلا النساء [ وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال : ] سمعت رسول الله A وأتاه رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة فقال : يا رسول الله حلقت قبل أن أرمي قال : إرم ولا حرج وأتاه آخر فقال : ذبحت قبل أن أرمي فقال : إرم ولا حرج وأتاه آخر فقال : اني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي فقال : ارم ولا حرج [ وفي رواية فيهما ] فما سئل عن شئ يومئذ إلا قال : إفعل ولا حرج [ وأخرج أحمد من حديث علي قال : ] جاء رجل فقال يا رسول الله : حلقت قبل أن أنحر قال : انحر ولا حرج ثم أتاه آخر فقال : إني أفضت قبل أن أحلق قال : احلق أو قصر ولا حرج [ وفي لفظ للترمذي وصححه قال : ] إني أفضت قبل أن أحلق [ وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس ] أن النبي A قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال : لا حرج [ وأخرج أحمد وأبو داود وابن حبان والحكم من حديث عائشة قالت : ] أفاض رسول الله A من آخر يوم حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى وعند الثانية فيطيل القيام ويتضرع ويرمى الثالثة لا يقف عندها [ وعن ابن عباس قال : ] رمى رسول الله A الجمار حين زالت الشمس [ رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه وفي البخاري عن ابن عمر قال : ] كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا [ وأخرج الترمذي وصححه من حديث ابن عمر ] أن النبي A كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا وراجعا [ وفي لفظ عنه ] أنه كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبا وسائر ذلك ماشيا ويخبرهم أن النبي A كان يفعل ذلك [ أخرجه أحمد وأبو داود وفي الصحيحين من حديث ابن عباس وابن عمر ] أن العباس إستأذن النبي A أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له [ وفي البخاري وأحمد من حديث ابن عمر ] أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم يتقدم فيسهل فيقوم مستقبل القبلة طويلا ويدعو ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل فيقوم مستقبل القبلة ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف ويقول : هكذا رأيت رسول الله A يفعله [ وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي من حديث عاصم بن عدي ] أن رسول الله A رخص لرعاء الإبل في البيتوته عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغداة ومن بعد الغداة ليومين ثم يرمون يوم النفر [ وأخرج أحمد والنسائي عن سعد بن مالك قال : ] رجعنا في الحجة مع النبي A وبعضها يقول : رميت بسبع حصيات وبعضنا يقول رميت بست حصيات ولم يعب بعضهم على بعض ورجاله رجال الصحيح .
ويستحب لمن يحج بالناس أن يخطبهم بعد الزوال خطبتين خفينفتين قائما والأخيرة أخف ويجلس بينهما كالجمعة يعلم فيهما المناسك إلى اليوم الثاني وإذا زالت المشس اغتسل إن أحب .
يوم النحر لحديث الهرماس بن زياد قال : [ رأيت النبي A يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الأضحى ] أخرجه أحمد وأبو داود وأخرج نحو أبو داود أيضا من حديث أبي أمامة وأخرج نحوه هو والنسائي من حديث عبد الرحمن بن معاذ التيمي وأخرجه البخاري وأحمد من حديث أبي بكرة وفيه أنه قال : [ فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم ألا هل بلغت قالوا : نعم قال : اللهم اشهد فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ] .
و يستحب الخطبة في وسط أيام التشريق لحديث سراء بنت نبهان قالت : [ خطبنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يوم الرؤف فقال : أي يوم هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : أليس أوسط أيام التشريق ] أخرجه أبو داود ورجاله رجال الصحيح وأخرج نحوه أحمد من حديث أبي بصرة ورجاله رجال الصحيح وأخرج نحوه أبو داود عن رجلين من بني بكر فتضمنت حجته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ثلاث خطب يوم عرفة ويوم النحر وثاني أيام التشريق قال الماتن رح في حاشية الشفاء : الخطب المشروعة في الحج أربعة كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة وقد بيناها في شرح المنتقى فليرجع إليه انتهى .
ويطوف الحاج طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة يوم النحر لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى ] وفي صحيح مسلم من حديث جابر نحوه والمراد بقوله [ أفاض ] أي طاف طواف الإفاضة قال النووي : وقد أجمع العلماء أن هذا الطواف وهو طواف الإفاضة ركن من أركان الحج لا يصح إلا به واتفقوا على أنه يستحب فعله يوم النحر بعد الرمي والنحر والحلق فإن أخره عنه وفعله في أيام التشريق أجزأه ولا دم عليه بالإجماع قال صاحب سبل السلام : طواف الزيارة ويقال له طواف الصدر ويسمى طواف الإفاضة طاف رسول الله A ولم يطف غيره ولم يسع وتضمنت حجته رفع يديه للدعاء ست مرات : الأولى على الصفا الثانية على المروة الثالثة بعرفة الرابعة بمزدلفة الخامسة عند الجمرة الأولى السادسة عند الجمرة الثانية انتهى .
أقول : الأدلة تدل على عدم وجوب طواف الزيارة على النعيين فضلا عن كونه ركنا من أركان الحج التي لا يصح بدونها فعلى المجتهد أن يبحث عن المسائل التي قلد فيها الآخر الأول : وجعل عليها سورا لا يستطيع صعوده من كان هيابا للقيل والقال ومخبوطا بأسواط آراء الرجال وهو دعوى الإجماع فإن ما كان كذلك قل أن يكشف عن أصله ومستنده إلا من كان من الأبطال المؤهلين للنظر في الدلائل الفارقين بين العالي منها والسافل وقليل ما هم بل هم أقل من القليل والله المستعان وقد ثبت عنه A عند الشيخين وغيرهما من حديث عائشة أنه قال لها : [ طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك ] وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث ابن عمر أنه A قال : [ من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد ] واللفظ للترمذي وهذا يدل على أن الواجب ليس إلا طواف واحد لا ثلاثة طواف القدوم والزيارة والوداع ويدل عليه ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر أنه حج فطاف بالبيت ولم يطف طوافا غير ذلك .
وإذا فرغ من أعمال الحج طاف للوداع لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره قال : [ كان الناس ينصروفون في كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ] وفي لفظ للبخاري ومسلم [ أن النبي A أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض ] وفي الباب أحاديث وإلى وجوب طواف الوداع ذهب الجمهور وقال مالك وداود وابن المنذر : هو سنة لا شئ في تركه قال في الحجة : والسر فيه تعظيم البيت أن يكون هو الأول وهو الآخر تصويرا لكونه هو المقصود من السفر وموافقة لعادتهم في توديع الوفود ملوكها عند النفر وقال في سبل السلام : ثم إنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم طاف طواف الوداع ليلا سحرا ولم يرمل في هذا الطواف وصلى الفجر بالحرم وقرأ بالطور ثم نادى بالرحيل فارتحل راجعا إلى المدينة فما أتى ذا الحليفة بات بها فلما رأى المدينة كبر ثلاثا وقال لا إله إلى الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دخلها نهارا انتهى *