باب القسامة .
صورة القسامة أن يوجد قتيل وادعى وليه على رجل أو على جماعة وعليهم لوث ظاهر واللوث ما يغلب على القلب صدق المدعي بأن وجد فيما بين قوم أعداء لا يخالطهم غيرهم كقتيل خيبر وجد بينهم والعداوة بين الأنصار وبين أهل خيبر ظاهرة أو اجتمع جماعة في بيت أو صحراء وتفرقوا عن قتيل أو وجد في ناحية قتيل وثم رجل مختضب بدمه أو يشهد عدل واحد على أن فلانا قتله أو قاله جماعة من العبيد والنسوان جاؤا متفرقين بحيث يؤمن تواطؤهم ونحو ذلك من أنواع الموت فيبدأ بيمين المدعي فيحلف خمسين يمينا ويستحق دعواه فإن نكل المدعي عن اليمين ردت إلى المدعي عليه فيحلف خمسين يمينا على نفي القتل ويجب بها الدية المغلظة فإن لم يكن لوث فالقول قول المدعي عليه مع يمينه كما في سائر الدعاوي ثم يحلف يمينا واحدا أو خمسين يمينا قولان : أصحهما الأول فإن كان المدعون جماعة توزع الأيمان عليهم على قدر مواريثهم على أصح القولين ويجبر الكسر والقول الثاني كل واحد منهم خمسين يمينا وإن كان المدعى عليهم جماعة ووزع على عدد رؤسهم على أصح القولين إن كان الدعوى في الأطراف سواء كان اللوث أو لم يكن فالقول قول المدعي عليه مع يمينه هذا كله بيان مذهب الشافعي وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يبدأ بيمين المدعي بل يحلف المدعي عليه وقال إذا وجد قتيل في محلة يختار الإمام خمسين رجلا من صلحاء أهلها ويحلفهم على أنهم ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلا ثم يأخذ الدية من أرباب الخطة فإن لم يعرفوا فمن سكانها .
أقول : إعلم أن هذا الباب قد وقع فيه لكثير من أهل العلم مسائل عاطلة عن الدلائل ولم يثبت في حديث صحيح ولا حسن قط ما يقتضي الجمع بين الأيمان والدية بل بعض الأحاديث مصرح بوجوب الإيمان فقط وبعضها مصرح بوجوب الدية فقط .
والحاصل : أنه قد كثر الخبط والخلط في هذا الباب إلى غاية ولم يتعبدنا الله بإثبات الأحكام العاطلة عن الدلائل ولا سيما إذا خالفت ما هو شرع ثابت وكانت تستلزم أخذ المال الذي هو معصوم إلا بحقه ولهذا ذهب جماعة من السلف منهم أبو قلابة وسالم بن عبد الله والحكم بن عتيبة وقتادة وسليمان بن يسار وإبراهيم بن علية ومسلم بن خالد وعمر بن عبد العزيز إلى أن القسامة غير ثابتة لمخالفتها لأصول الشريعة من وجوه قد ذكرها الماتن C في شرح المنتقى وذكر ما أجيب به عنها من طريق الجمهور فليراجع .
إذا كان القاتل من جماعة محصورين ثبتت وهي خمسون يمينا لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم [ فتبرئكم اليهود بخمسين يمينا ] وهو في الصحيحين من حديث سهل بن أبي حثمة .
يختارهم ولي القتيل والدية إن نكلوا عليهم وإن حلفوا سقطت لما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية ] وقد ثبت أنهم في الجاهلية كانوا يخيرون المدعى عليهم بين أن يحلفوا خمسين يمينا أو يسلموا الدية كما في القسامة التي كانت في بني هاشم كما أخرجه البخاري والنسائي من حديث ابن عباس وهي قصة طويلة وفيها [ أن القاتل كان معينا وأن أبا طالب قال له اختر منا إحدى ثلاث : إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله فإن أبيت قتلناك به فأتى قومه فأخبرهم فقالوا : نحلف فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم كانت قد ولدت منه فقالت يا أبا طالب : أحب أن تجيز ابني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان ففعل فأتاه رجل منهم فقال يا أبا طالب : أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان الإبل فيصيب كل رجل منهم بعيران هذان البعيران فاقبلهما مني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان فقبلهما وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا قال ابن عباس : فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف ] .
وإن التبس الأمر كانت من بيت المال لحديث سهل بن أبي حثمة قال : [ انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبدالرحمن بن سهل وحيصة وحويصة أبناء مسعود إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال كبر كبر وهو أحدث القوم فسكت فتكلما فقال : أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم فقالوا : كيف نحلف ولم نشهد ولم نر قال : فتبرئكم اليهود بخمسين يمينا فقالوا : كيف نأخذ أيمان قوم كفار فعقله النبي صلى الله وسلم عليه من عنده ] وهو في الصحيحين وغيرهما وفي لفظ [ فكره رسول الله صلى الله وسلم عليه أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة ] وقد اختلف أهل العلم في كيفية القسامة اختلافا كثيرا وما ذكره الماتن هو أقرب إلى الحق وأوفق لقواعد الشريعة المطهرة وقد وقع في رواية من حديث سهل المذكور [ أن النبي صلى الله وسلم عليه قال : تقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته فقالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ] وقد أخرج أحمد والبيهقي عن أبي سعيد قال : [ وجد رسول الله A قتيلا بين قريتين فأمر رسول الله صلى الله وسلم عليه فذرع ما بينهما فوجد أقرب إلى أحد الجانبين بشبر فألقى ديته عليهم ] قال البيهقي تفرد به أبو إسرائيل عن عطية ولا يحتج بهما وقال العقيلي هذا الحديث ليس له أصل وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عن الشعبي [ أن قتيلا وجد بين وداعة وشاكر فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما فوجدوه إلى وادعة أقرب فأحلفهم خمسين يمينا كل رجل ما قتلته ولا علمت قاتلا ثم أغرمهم الدية فقالوا : يا أمير المؤمنين لا إيماننا دفعت دفعت عن أموالنا ولا أموالنا دفعت عن أيماننا فقال عمر : كذلك الحق ] وأخرج نحوه الدارقطني والبيهقي عند سعيد بن المسيب وفيه [ أن عمر قال : إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم A ] قال البيهقي : رفعه إلى النبي صلى الله وسلم عليه منكر وفيه عمر بن صبيح أجمعوا على تركه وقال الشافعي : ليس بثابت إنما رواه الشعبي عن الحرث الأعور وهذا لا تقوم به حجة لضعف إسناده على فرض رفعه وأما مع عدم الرفع فليس في ذلك حجة سواء ورد بإسناد صحيح أو غير صحيح والرجوع إلى قسامة الجاهلية التي قررها النبي صلى الله وسلم عليه هو الصواب وقد تقدم ذكرها وقد أخرج أبو داود من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من الأنصار [ أن النبي صلى الله وسلم عليه قال لليهود وبدأ بهم يحلف منكم خمسون رجلا فأبوا فقال للأنصار : استحقوا فقالوا : نحلف على الغيب يا رسول الله فجعلها رسول الله صلى الله وسلم عليه دية على اليهود لأنه وجد بين أظهرهم ] وهذا إذا صح لا يخالف ما ذكرناه من وجوب الدية على المتهمين إذا لم يحلفوا ولكنه مخالف لما ثبت في الصحيحين إن كانت هذه القصة هي تلك القصة وقد قال بعض أهل العلم أن هذا الحديث ضعيف لا يلتفت إليه *