معنى نهيه عن إضاعة المال و كثرة السؤال .
و أما إضاعة المال فحقيقته المتفق عليها بذله في غير مصلحة دينية أو دنيوية و ذلك ممنوع لأن الله تعالى جعل الأموال قياما لمصالح العباد و في تبذيرها تفويت لتلك المصالح إما في حق مضيعها أو في حق غيره و أما بذله و كثرة إنفاقه في تحصيل مصالح الأخرى فلا يمتنع من حيث هو و قد قالوا : لا سرف في الخير و أما إنفاقه في مصالح الدنيا و ملاذ النفس على وجه لا يليق بحال المنفق و قدر ماله ففي كونه سفها خلاف و المشهور أنه سفه و قال بعض الشافعية ليس بسفه لأنه يقوم به مصالح البدن و ملاذه وهو غرض صحيح و ظاهر القرآن يمنع من ذلك و الأشهر في مثل هذا أنه مباح أعني إذا كان الإنفاق في غير معصية و قد نوزع فيه .
و أما كثرة السؤال ففيه وجهان : أحدهما : أن يكون ذلك راجعا إلى الأمور العلمية و قد كانوا يكرهون تكلف المسائل التي لا تدعو الحاجة إليها و قال النبي صلى الله عليه و سلم [ أعظم الناس جرما عند الله من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته ] و في حديث اللعان لما سئل عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فكره رسول الله صلى الله عليه و سلم المسائل و عابها و في حديث معاوية [ نهى عن الأغلوطات ] و هي شداد المسائل و صعابها و إنما كان ذلك مكروها لما يتضمن كثير منه من التكلف في الدين و التنطع و الرجم بالظن من غير ضرورة تدعو إليه مع عدم الأمن من العثار و خطأ الظن و الأصل المنع من الحكم بالظن إلا حيث تدعو الضرورة إليه .
الوجه الثاني : أن يكون ذلك راجعا إلى سؤال المال و قد وردت أحاديث في تعظيم مسألة الناس و لا شك أن سؤال الناس بعض أموالهم ممنوع وذلك حيث يكون الإعطاء بناء على ظاهر الحال و يكون الباطن خلافه أو يكون السائل مخبرا عن أمر هو كاذب فيه قد جاء في السنة ما يدل على اعتبار ظاهر الحال في هذا وهو ما روي [ أنه مات رجل من أهل الصفة و ترك دينارين فقال النبي صلى الله عليه و سلم : كيتان ] و إنما كان ذلك و الله أعلم لأنهم كانوا فقراء مجردين يأخذون و يتصدق عليهم بناء على الفقر و العدم و ظهر أن معه هذين الدينارين على خلاف ظاهر حاله و المنقول عن مذهب الشافعي جواز السؤال فإذا قيل بذلك فينبغي النظر في تخصيص المنع بالكثرة فإنه إن كانت الصورة تقتضي المنع فالسؤال مممنوع كثيره و قليله و عن لم نقتض المنع فينبغي حمل هذا النهي على الكراهة للكثير من السؤال مع أنه لا يخلو السؤال من غير حاجة عن كراهة فتكون الكراهة في الكثرة أشد و تكون هي المخصوصة بالنهي .
و تبين من هذا أن من يكره السؤال مطلقا - حيث لا يحرم - ينبغي أن لا يحمل قوله كثرة السؤال على الوجه الأول المتعلق بالمسائل الدينية أو يجعل النهي دالا على المرتبة الأشدية من الكراهة .
و تخصيص العقوق بالأمهات مع امتناعه في الآباء أيضا لأجل شدة حقوقهن و رجحان الأمر ببرهن بالنسبة إلى الآباء و هذا من باب تخصيص الشيء بالذكر لإظهار عظمه في المنع إن كان ممنوعا و شرفه إن كان مأمورا به وقد يراعى في موضع آخر التنبيه بذكر الأدنى على الأعلى فيخص الأدنى بالذكر و ذلك بحسب اختلاف المقصود