باب الاستثناء .
الاستثناء يمنع أن يدخل في الإقرار ما لولاه لدخل ولا يرفع ما ثبت لأنه لو ثبت بالإقرار شيء لم يقدر المقر على رفعه فيصح استثناء ما دون النصف لأنه لغة العرب قال الله تعالى : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } .
ولا يصح استثناء أكثر من النصف ليس من لسانهم قال أبو إسحاق الزجاج : لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير ولو قال : له علي مائة إلا تسعة وتسعين لم يكن متكلما بالعربية وفي استثناء النصف وجهان : .
أحدهما : يصح لأنه ليس بالأكثر .
والثاني : لا يصح لأنه لم يأت في لسانهم إلا في القليل من الكثير فإذا قال : له علي عشرة إلا درهمين لزمته ثمانية وإن قال : إلا ثمانية لزمته العشرة وإن قال : إلا خمسة ففيه وجهان : .
أحدهما : يلزمه خمسة .
والآخر : يلزمه عشرة .
فصل .
ولا يصح الاستثناء من غير الجنس ولا من غير النوع فلو قال : له علي عشرة دراهم إلا ثوبا لزمته العشرة وإن قال : له علي قفيز تمر معقلي إلا مكوكا برنيا لزمه القفيز كله ولم يصح الامتثناء لأن الاستثناء صرف اللفظ بحرف الاستثناء عما كان يقتضيه لولاه ولأنه مشتق من : ثنيت فلانا عن رأيه إذا صرفته عما كان عازما عليه وثنيت عنان دابتي إذا رددتها عن وجهها الذي كانت ذاهبة إليه ولا يوجد هذا في غير الجنس والنوع ولأن الاستثناء من غير الجنس لا يكون إلا في الجحد بمعنى لكن والإقرار إثبات فإن استثنى أحد النقدين من الآخر لم يصح في إحدى الروايتين اختارها أبو بكر لما ذكرنا والأخرى : يصح اختارها الخرقي لأنهما كالجنس الواحد لاجتماعهما في أنهما قيم المتلفات وأروش الجنايات ويعبر بأحدهما عن الآخر وتعلم قيمته منه فأشبها النوع الواحد بخلاف غيرهما .
فصل .
وإن أقر بدار إلا بيتا منها عينه لم يدخل البيت في إقراره لأنه استثناه وإن قال : هذا البيت لي وهذه الدار له أو هذه الدار له وهذا البيت لي صح لأنه في معنى الاستثناء لكونه أخرج بعض ما دخل في اللفظ بكلام متصل وإن قال : إلا ثلثها أو إلا ربعها صح وكان مقرا بالباقي فإن قال : له هذه الدار إلا نصفها صح وكان مقرا بالنصف لأن هذا بدل البعض وهو سائغ قال الله تعالى : { قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا } ويصح ذلك فما دون النصف كقوله : له هذه الدار إلا ربعها أو أقل كقولهم رأيت زيدا وجهه وإن قال : له هذه الدار سكناها أو قال : هي له سكنى أو عارية صح وهذا بدل الاشتمال كقوله سبحانه : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } فهو في معنى الاستثناء في كونه إخراجا للبعض ويفارقه في جواز إخراج أكثر من النصف .
فصل .
وإن قال : له هؤلاء العبيد إلا هذا كان مقرا بمن دون المستثنى وإن قال : إلا واحدا رجع في تعيين المستثنى إليه لأنه لا يعرف إلا من جهته وكذلك إن قال : غصبتك هؤلاء العبيد إلا واحدا رجع في تفسير الواحد إليه فإن هلكوا إلا واحدا ففسر به المستثنى قبل في الغصب وجها واحدا لأنه يلزمه غرامة ما تلف وفي الإقرار وجهان : .
أحدهما : يقبل أيضا لأنه يحتمل ما قاله .
والثاني : لا يقبل ذكره أبو الخطاب لأنه يرفع جميع ما أقر به وإن قتلوا إلا واحدا قبل تفسيره به وجها واحدا لأنه لا يرفع جملة الإقرار لوجوب قيمة الباقين للمقر له .
فصل .
إذا استثنى بعد الاستثناء بحرف العطف كان كضافا إلى الاستثناء الأول فإذا قال : له علي عشرة إلا ثلاثة وإلا درهمين كان مستثنيا لخمسة من العشرة وإن كان الثاني غير معطوف كان مستثنيا من الاستثناء فيكون استثناؤه من الإثبات نفيا ومن النفي إثباتا وهو جائز في اللغة قال الله تعالى : { قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين * إلا امرأته } .
فأذا قال : له علي عشرة إلا ثلاثة إلا درهما كان مقرا بثمانية وإن قال : له علي عشرة إلا خمسة إلا ثلاثة إلا درهمين إلا درهما لم يصح على قول من منع استثناء النصف ولزمته عشرة وعلى قول غيره يصح ويكون مقرا بسبعة ولو قال : عشرة إلا ستة إلا أربعة إلا درهمين فهو مقر بستة لأنه أثبت عشرة ثم نفى ستة ثم أثبت أربعة ثم نفى درهمين بقي ستة .
فصل .
وإن عطف جملة على جملة بالواو ثم استثنى ففيه وجهان : .
أحدهما : يعود الاستثناء إليهما جميعا لأن العطف جعل الجملتين كالجملة الواحدة فعاد الاستثناء إليهما كقول النبي A : [ لا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ] .
والثاني : لا يعود إلا إلى التي تليه لأن عوده إلى ما يليه متيقن وما زاد مشكوك فيه فلا يثبت بالشك كقوله تعالى : { فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } .
فلو قال : علي أربعة وثلاثة إلا درهمين صح على الوجه الأول وبطل على الثاني لأنه استثناء الأكثر فإن وجدت قرينة صارفة إلى أحد الاحتمالين انصرف إليه وكذلك إن عطف على المستثنى مثل قوله : له علي عشرة إلا أربعة وثلاثة ففيه وجهان : .
أحدهما : يصيران كجملة واحدة فيبطل الاستثناء كله لزيادته على النصف .
والثاني : لا يصيران كجملة واحدة فيبطل الاستثناء الثاني وحده .
فصل .
وإذا قال : له عندي تمر في جراب أو سكين في قراب أو دراهم في كيس أو في صندوق وثوب في منديل : وزيت في زق وفص في خاتم فقال ابن حامد : يكون مقرا بالمظروف وحده لأن إقراره لم يتناول الظرف فيحتمل أنه أراد : في ظرف لي وفيه وجه آخر : أنه يكون مقرا بالجميع لأنه ذكره في سياق الإقرار فكان مقرا به كالمظروف وقال : له عندي جراب فيه تمر أو قراب فيه سكين وسائر ما مثلنا أو دابة عليه سرج أو عبد عليه عمامة فعلى الوجهين كما ذكرنا وإن قال : له عندي ثوب مطرز أو خاتم بفص أو سرج مفضض وأطلق لزمه الثوب بتطريزه والخاتم بفصه والسرج بفضته لأنه صفة له .
فصل .
وإذا قال : له علي ألف درهم زيوف أو ناقصة أو مكسرة أو إلى شهر بكلام متصل لزمه ما أقر به على صفته لأنه إنما يلزمه بقوله فأتبع قوله فيه إلا أن يفسر الزيوف بما لا قيمة له فلا يقبل لأنه أثبت في ذمته شيئا وما قيمة له لا يثبت في الذمة وذكر أبو الخطاب : احتمالا في أنه لا يقبل شيئا وما لا قيمة له لا يثبت في الذمة وذكر أبو الخطاب : احتمالا في أنه لا يقبل قوله : مؤجلة لأن التأجيل يمنع استيفاء الحق في الحال والمذهب : أنه يقبل لأنه يحتمل ما قاله فوجب اتباعه كما لو قال : ناقصة فأما إن سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه ثم وصفها بشيء من هذه الصفات لم يقبل ولزمه ألف جياد وازنة صحاح حالة لأن إطلاقها يقتضي ذلك بدليل ما لو باعه : بألف درهم وأطلق فإنها تلزمه كذلك : فإذا سكت استقرت في ذمته كذلك فلا يتمكن من تغييرها ولا فرق بين الإقرار بها من غصب أو وديعة أو قرض أو غيره و إن كان المقر في بلد أوزانهم ناقصة أو مغشوشة ففسر إقراره بدراهم البلد قبل لأن إطلاقه ينصرف إليها بدليل إيجابها في ثمن المبيع ويحتمل أن لا يقبل تفسيره بها لأن إطلاق الدراهم تنصرف إلى دراهد الإسلام وهو : ما كان عشرة منه وزن سبعة مثاقيل وتكون فضة خالصة وهي : التي قدر بها الشرع نصب الزكوات والديات والجزية ونصاب القطع في السرقة ويخالف الإقرار البيع من حيث إنه أقر بحق سابق والبيع إيجاب في الحال وإن أقر بدراهم صغار فظاهر كلام الخرقي : أنه يقبل تفسيره بدراهم ناقصة لأن الصغر في الذات وصف لا يثبت في الذمة فلا ينصرف الإقرار إليه لأنه إخبار عما في الذمة ويحتمل أن لا يقبل تفسيره بناقص لأنه يحتمل صغيرا في ذاته وهو وازن و إن أقر بدرهم كبير لزمه درهم من دراهم الإسلام لأنه كبير في العرف وإن قال : له علي دراهم عددا لزمته وازنة لأن الدراهم تقتضي أن تكون وازنة وذكر العدد لا ينفي كونها وازنة فوجب الجميع وإن فسر الدراهم بسكة البلد أو سكة تزيد عليها قبل لأنه غير متهم وإن كانت تنقص .
عنها ففيه وجهان : .
أحدهما : لا يقبل لأن إطلاقه يحمل على دراهم البلد كما في البيع .
والثاني : يقبل لأنه فسرها بدراهم الإسلام وإن قال : له علي دريهم لزمه درهم وازن لأنه هو المعروف والتصغير قد يكون لقلته عنده أو لمحبته أو غير ذلك وإن قال : له علي دراهم لزمه ثلاثة لأنها أقل الجمع وإن قال : دراهم كثيرة لم يلزمه أكثر من ثلاثة لأنها كثيرة بالإضافة إلى ما دونها ويحتمل أنها كثيرة عنده أو في نفسه وإن قال : له علي ما بين درهم إلى عشرة لزمه ثمانية لأنها الذي بينهما و إن قال : من درهم إلى عشرة ففيه وجهان : .
أحدهما : يلزمه تسعة لأن الواحد أول العدد فيدخل فيه ولا يدخل العاشر لأنه غاية ينتهي إليها فلم يدخل .
والثاني : يلزمه عشرة لأن العاشر أحد الطرفين فيدخل فيه كالأول ويحتمل أن يلزمه ثمانية كالتي قبلها .
فصل .
وإذا قال : له علي ألف لا يلزمني أو من ثمن خمر أو خنزير أو تكفلت به عن فلان على أني بالخيار لزمه ما أقر به وسقط ما وصله به لأنه يسقط ما أقر به فلم يقبل كاستثناء الكل وإن قال : هذا العبد لفلان رهن عندي على دين لي عليه فأنكر المقر له الدين لزمه العبد والقول قول المالك في نفي الدين مع يمينه لأن العين ثبتت له بالإقرار وادعى المقر دينا فكان القول قول من ينكره وكذلك لو أقر بدار وقال : قد استأجرتها أو بثوب وادعى أنه قصره أو خاطه بأجرة أو بعبد وادعى استحقاق خدمته أو أقر بسكنى دار غيره فادعى أنه سكنها بإذنه فالقول قول المالك مع يمينه لما ذكرناه وإن قال : له علي ألف من ثمن بيع لم أقبضه ففيه وجهان : .
أحدهما : القول قول المالك كما ذكرنا .
والثاني : القول قول المقر لأنه أقر بحق في مقابلة حق لا ينفك أحدهما عن الآخر فإذا لم يسلم له ماله لم يسلم ما عليه كما لو قال لرجل : بعتك هذا بألف وقال بل ملكتنيه بغير شيء وفارق ما لو قال : لك عندي رهن فقال المالك : بل وديعة لأن الدين بنفسك عن الرهن والثمن لا ينفك عن المبيع ولو قال : له علي ألف من ثمن مبيع ثم سكت ثم قال : لم أقبضه قبل كالمتصل لأن إقراره تعلق بالمبيع والأصل عدم القبض فقبل قوله فيه ولو قال : له علي ألف ثم سكت ثم .
قال : من ثمن مبيع لم أقبضه لم يقبل لأنه فسر إقراره بما يمنع وجوب التسليم بكلام منفصل كما لو قال : له علي ألف ثم سكت ثم قال قبضتها .
فصل .
وإذا قال : له عندي ألف ثم قال : هي وديعة قبل تفسيره سواء قال ذلك متصلا أو منفصلا لأنه فسر لفظه بما يقتضيه فقبل كما لو قال : له علي ألف وفسره بدين فعند ذلك تثبت أحكام الوديعة بحيث لو ادعى تلفها كان القول قوله ولو قال : له عندي ألف فطالبه به بعد مدة فقال : كانت وديعة فتلفت أو قال : رددتها عليك فالقول قوله نص عليه أحمد كما ذكرنا ولو قال : لك عندي وديعة وقد تلفت فقال القاضي : يقبل قوله كذلك ويتوجه أن لا يقبل ها هنا لأن الألف المردود والتالف ليس عنده ولا هي وديعة : وإن قال : كانت عندي فظننتها باقية ثم عرفت أنها هلكت فالحكم فيها كالتي قبلها ولو قال : له عندي ألف ثم فسره بدين عليه قبل لأنه يقر بما هو أغلظ وإن قال : له علي ألف ثم قال : وديعة وقال المقر له : بل هي دين فالقول قول المقر له لأن علي للإيجاب في الذمة والإقرار يؤخذ فيه بظاهر اللفظ بدليل أنه لو أقر بدراهم أخذ بثلاثة فعند ذلك تثبت أحكام الدين فلا تسمع دعواه تلفها وإذ قال : لك علي ألف ثم أحضرها وقال : هذه التي أقررت بها وهي وديعة فقال المقر له : هذه وديعة والمقر به غيرها دين عليك فالقول قول المقر له لما ذكرناه هذا ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي : القول قول المقر إلا أن يكون قال : علي ألف في ذمتي فيكون القول قول المقر له قال : وقد قيل : القول قول المقر لأنه يحتمل أنه أراد : في ذمتي أداؤها أو يكون وديعة تعدى فيها وإذا لم يقل : في ذمتي قبل قوله لأن الوديعة عليه حفظها وأداؤها لأن حروف الصلة يخلف بعضها بعضا قال الله تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام : { و لهم علي ذنب } أي : عندي وإن قال : له علي ألف وديعة قبل لأنه وصل كلامه بما يحتمله فصح كما لو قال : ألف نقص وإن قال : له علي ألف وديعة دينا أو مضاربة دينا صح لأنه قد يتعدى فيها فتكون دينا