باب عقد الذمة .
و لا يجوز عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه لأنه عقد مؤيد تتعلق به المصالح العامة فلم يصح من غير الإمام و نائبه و يجوز عقدها لأهل الكتاب و المجوس لقول الله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله ورسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون } و لما روى عبد الرحمن بن عوف Bه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في المجوس : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] و لأن النبي صلى الله عليه و سلم أخذ الجزية من مجوس هجر و سواء كانوا عربا أو عجما لأن النبي صلى الله عليه و سلم بعث معاذا إلى اليمن و أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر رواه أبو داود و كانوا عربا .
و أهل الكتاب : هم اليهود و النصارى و من وافقهم في أصل دينهم و آمن بنبيهم و كتابهم كالسامرة الموافقة لليهود في موسى و التوراة و الفرنج يوافقون النصارى في عيسى و الإنجيل وليس المجوس بأهل كتاب لقوله صلى الله عليه و سلم : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] و لا المتمسك بدين إبراهيم و شيث و داود بكتابي و لا تعقد له ذمة لقول الله سبحانه : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } و لا يجوز عقد الذمة لغير أهل الكتاب و المجوس كعبدة الأوثان و من عبد ما استحسن و الدهرية و نحوهم لقول الله تعالى : { فاقتلوا المشركين } ثم خص أهل الكتاب بإعطاء الجزية و ألحق بهم صلى الله عليه و سلم المجوس فبقي من عداهم على مقتضى العموم و لأنهم تغلظ كفرهم لكفرهم بجميع أنبياء الله تعالى و كتبه و روى الحسن بن ثواب عن أحمد : أن الجزية تقبل من جميع الكفار إلا من عبدة الأوثان من العرب لأنه تغلظ كفرهم بدينهم و جنسهم لكونهم رهط النبي صلى الله عليه و سلم وغيرهم لم يتغلظ كفرهم من الجهتين فقبلت الجزية منهم كالمجوس .
و أما الصابئون فينتظر فيهم فإن كانوا يوافقون أحد أهل الكتابين في نبيهم و كتابهم فهم فرقة منهم و إن لم يوافقوا واحدا منهم فهم غير أهل الكتاب حكمهم حكم عبدة الأوثان .
فصل .
و من دخل في دين أهل الكتاب أو المجوس من سائر الكفار صار منهم و حكمه حكمهم سواء دخل قبل بعث نبينا صلى الله عليه و سلم أو بعده لعموم النصوص فيهم قال القاضي : هذا ظاهر كلام أحمد و قال أبو الخطاب : من دخل بعد بعث نبينا صلى الله عليه و سلم أو قبل بعثه و بعد تبديل كتابهم لم تعقد له الذمة لأنه دخل في دين باطل ومن كان أحد أبويه ممن تعقد له الذمة والآخر ممن لا تعقد له عقدت له الذمة لما ذكرنا ولأنه تبع لمن يؤخذ منه الجزية لأنه تبعه في الدين فتبعه في الجزية وقال أبو الخطاب : فيه وجهان .
وإن ظهر المسلمون على قوم لا يعرف دينهم فادعوا إنهم أهل كتاب قبل منهم لأنهم لا يعرف دينهم إلا من جهتهم فإن أسلم منهم اثنان وشهدا أنهم من غير أهل الكتاب وكانا عدلين نبذ إليهم عهدهم لأنه بان بطلانهم دعواهم .
فصل .
ومن عقدت له الذمة أخذت منه الجزية وفي قدرها ثلاث روايات .
إحداهن : يرجع إلى ما فرضه عمر Bه عليهم : على الموسر ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط أربعة وعشرون درهما وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر درهما لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه لأن عمر Bه فرضها كذلك بمحضر من الصحابة وتابعه سائر الخلفاء بعده فكان إجماعا .
والثانية : يرجع إلى اجتهاد الإمام في الزيادة على ذلك والنقصان منه على ما يراه من المصلحة بعد أن لا يكلفهم فوق طاقتهم لأن النبي A لما بعث معاذا الى اليمن قال له : [ خذ من كل حالم دينارا ] رواه أبو داود وعمر زاد عليهم فدل على جواز الزيادة والنقصان .
و الثالثة : يجوز الزيادة و لا يجوز النقصان لأن عمر Bه زاد على ما فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم ينقص فإذا قلنا : لا تجوز الزيادة فمتى بذلوا القدر الواجب لزم قبوله و حرم قتالهم لقول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية } فمد قتالهم إلى إعطائها أي بذلها و إن قلنا له الزيادة فله أن يزيد بقدر ما يراه و لا يحرم قتالهم إلا أن يبذلوا ما طلب منهم .
فصل .
و يؤخذ من نصارى بني تغلب مكان الجزية الزكاة مثلي ما يؤخذ من المسلمين من جميع أموالهم الزكاتية لما روى : أن عمر Bه دعاهم إلى بذل الجزية فأبوا وأنفوا و قالوا : نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة فقال عمر : لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة : يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس وشدة وهم عرب يأنفون من الجزية فلا تعن عليك عدوك بهم خذ منهم الجزية باسم الصدقة فبعث عمر في طلبهم فردهم و ضعف عليهم من كل خمس من الإبل شاتين ومن كل ثلاثين بقرة تبيعين ومن كل عشرين دينارا دينارا و من كل مائتي درهم عشرة دراهم ومما سقت السماء الخمس و فيما سقي بنضح أو غرب أو دولاب العشر فاستقر ذلك من قول عمر ولم يخالفه غيره من الصحابة فكان إجماعا قال أصحابنا : حكم المأخوذ منهم حكم الزكاة في أنه يؤخذ من مال كل من تؤخذ منه الزكاة لو كان مسلما فعلى هذا يؤخذ من نسائهم و صبيانهم و مجانينهم وزمناهم و مكافيفهم و شيوخهم لأنهم سألوا عمر أن يأخذ منهم ما يأخذ بعضكم من بعض فأجابهم و لأنهم صينوا عن السبي بهذا الصلح فجاز أن يدخلوا في الواجب به كالرجال و لا يؤخذ من مال لم يبلغ نصابا و لا من مال غير زكاتي كذلك ومن كان المأخوذ منه أقل من دينار أجزأ عنه و من ليس له نصاب زكاتي فلا شيء عليه لأن عمر Bه صالحهم على هذا واختلف أصحابنا في مصرفه فقال القاضي : مصرفه مصرف الفيء لأنه جزية باسم الزكاة و معنى الشيء أخص به من اسمه و لأنه مال مشرك أخذ بغير قتال فكان فيئا كالجزية و قال أبو الخطاب : مصرفه مصرف الصدقة لأنه سلك به مسلكها في قدر المأخوذ و المأخوذ منه : فكذلك في المصرف فإن بذل تغلبي الجزية مكان المفروض عليهم وكان حربيا قبل منه لأنه كتابي لم يصالح على غير الجزية فحقن دمه بها كغيره و إن كان ممن عقد الذمة لم يقبل منه لأن الصلح وقع على غير ذلك فلم يجز تغيره .
فصل .
فأما سائر أهل الكتاب من النصارى و غيرهم فلا يقبل منهم إلا الجزية و لا يؤخذون بما يؤخذ به بنو تغلب نص عليه أحمد للآية و الأخبار و العرب و غيرهم في هذا سواء لأن النبي صلى الله عليه و سلم بعث معاذا إلى اليمن و أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا وهم عرب و إنما خص بنو تغلب بالصدقة لصالحهم فبقي من عداهم على مقتضى النصوص و ذكر القاضي : أن تنوخ و بهرا كبني تغلب و أن عمر صالحهم و قال أبو الخطاب : و كذلك الحكم فيمن تنصر من تنوخ و بهرا أو تهود من كنانة و حمير أو تمجس من تميم لأنهم عرب فأشبهوا بني تغلب و الصحيح الأول و لم يصح عن عمر و لا غيره مصالحة غير بني تغلب على غير الجزية .
فصل .
و لا جزية على صبي لقوله عليه السلام لمعاذ : [ خذ من كل حالم دينارا ] و روى أسلم أن عمر Bه كتب إلى أمراء الأجناد : لا تضربوا الجزية على النساء و الصبيان و لا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي رواه سعيد و لأنها تجب لحقن الدم و هو محقون بدونها و لا على امرأة كذلك و لا على خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه رجلا فلم تجب عليه مع الشك و لا على مجنون لأنه في معنى الصبي فنقيسه عليه و لا على زمن و لا أعمى و لا شيخ فان و لا راهب لأن دماءهم محقونة فأشبهوا الصبي و المرأة و لا على فقير عاجز عن أدائها لقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } .
فأما المعتل الذي يقدر على كسب ما يقوم بكفايته فعليه الجزية لأنه في حكم الأغنياء و لا تجب على مملوك لما روي عن عمر Bه أنه قال : لا جزية على مملوك و لأنه لا يقتل بالكفر أشبه الصبي و عن أحمد : أن على الذمي أداء الجزية عن مملوكه و هو ظاهر كلام الخرقي لأنه ذكر مكلف قوي مكتسب أشبه الحر و من كان بعضه حرا فعليه من الجزية بقدر ما فيه من الحرية لأن حكمه يتبعض فقسم على قدر ما فيه من الحرية و الرق كالميراث .
فصل .
ومن بلغ من صبيانهم أو أفاق من مجانينهم أو عتق من عبيدهم فهو من أهلها بالعقد الأول لأنه تبع من عليه الجزية في الأمان فيتبعه في الذمة و تعتبر جزيته بحاله لا بحال غيره لأنه حكم يختلف باختلاف الحال فاعتبر بحاله كالزكاة فإن كان في أثناء الحول أخذ في آخر الحول بقدر ما أدرك منه لئلا تختلف أحوالهم فيشق ضبطها ومن كان يجن و يفيق إفاقة مضبوطة كيوم و يوم أو نصف الحول و نصفه ففيه وجهان : .
أحدهما : يعتبر بالأغلب منهما لأن الاعتبار في الأصول بالأغلب .
و الثاني : تلفق إفاقته فإذا بلغ حولا أخذت الجزية فإن كان سواء ففيه وجهان : .
أحدهما : يؤخذ في كل حول نصف جزية لأن الجزية تؤخذ في كل حول فيؤخذ منه بقدر ما عليه .
و الثاني : تلفق إفاقته فإذا بلغت حولا أخذت منه لأن حوله لا يكمل إلا حينئذ .
فصل .
وإذا كان في الحصن نساء أو من لا جزية عليه فطلبوا عقد الذمة بغير جزية أجيبوا إليها لأنهم محقونون بدونها و إن بذلوا جزية أخبروا أنه لا جزية عليهم فإن تبرعوا بها كانت هبة متى امتنعوا منهم لم يحوجوا إليها .
فصل .
و تجب الجزية في آخر كل حول لأنه مال يتكرر بتكرار كل الحول فوجب في آخره كالزكاة و الدية فإن جن قبل انقضائه جنونا مطبقا أو مات أو أسلم فلا جزية عليه لأنه خرج عن أهلية الوجوب قبل الوجوب فلم يجب عليه كما لو مات بعض العاقلة قبل الحول و إن جن أو مات بعد الحول لم تسقط عنه لأنه دين وجب عليه في حياته فأشبه العاقل و دين الآدمي و إن أسلم بعد الحول سقطت عنه لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس على المسلم جزية ] رواه الخلال و قال أحمد : قد روي عن عمر Bه أنه قال : إن أخذها في كفه ثم أسلم ردها وروى أبو عبيد : أن يهوديا أسلم فطولب بالجزية وقيل إنما أسلمت تعوذا قال : إن في الإسلام معاذا فرفع إلى عمر فقال : إن في الإسلام معاذا فكتب أن لا تؤخذ منه الجزية و لأن الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر فيسقطها الإسلام كالقتل و إن اجتمعت على الذمي جزية سنين أخذت منه ولم تتداخل لأن الحق مالي يجب في آخر كل حول فلم تتداخل كالدية و الزكاة .
فصل .
ويجوز أن يشرط عليهم مع الجزية ضيافة من يمر بهم من المسلمين لما روى الأحنف بن قيس : أن عمر Bه شرط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة وأن يصلحو القناطر وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته رواه الإمام أحمد ولأن فيه مصلحة فإنه ربما تعذر الشراء على المسلمين ولا يلزمنهم ذلك إلا برضاهم لأنه أداء مال فلم يلزمهم بغير رضاهم كالجزية وإن امتنعوا من قبول الشرط لم تعقد لهم الذمة لأنه شرط سائغ فإذا امتنعوا منه لم تعقد لهم كالجزية فإن لم تشترط عليهم الضيافة لم تجب لأن النبي A قال لمعاذ : [ خذ من كل حالم دينارا ] ولم يذكر الضيافة ومن أصحابنا من قال : تجب بغير شرط كما تجب على المسلمين وتقسم الضيافة عليهم على قدر جزيتهم والأولى أن يبين عدد أيام الضيافة من السنة وعدد من يضاف من الرجال والفرسان وقدر الطعام و الإدام و العلوفة لأنه أبعد من اللبس فإن أطلق ذلك جاز ولا يجب عليهم في الضيافة أكثر من يوم وليلة لأن ذلك الواجب على المسلم ولا يكلفون إلا من طعامهم وإدامهم لما روى أسلم أن أهل الجزية من أهل الشام أتوا عمر بن الخطاب Bه فقالوا : إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم فقال : أطعموهم مما تأكلون ولا تزيدوهم على ذلك ولا تزاد الضيافة على ثلاثة أيام لقول النبي A [ الضيافة ثلاثة أيام ] وذكر القاضي : أن تقدير أيام الضيافة وعدد من يضاف والطعام والإدام والعلوفة شرط لأنه من الجزية فاعتبر العلم به كالنقود والأول أولى لأن عمر لم يقدره ولما شكوا إليه اعتداء الأضياف قال : أطعموهم مما تأكلون وللمسلمين النزول في الكنائس والبيع لأن عمر صالح أهل الشام على أن يوسعوا أبواب كنائسهم وبيعهم لمن يجتاز بهم من المسلمين ليدخلها المسلمون ركبانا فإن لم يجدوا مكانا فلهم النزول في الأفنية وفضول المنازل من غير أن يحولوا ذا منزل عن منزله فإن لم يسعهم فالسابق أحق فإن تساووا وتشاحوا أقرع بينهم فإن امتنع أهل الذمة مما شرط عليهم أجبروا عليه فإن لم يمكن إلا بالمقاتلة قوتلوا فإن قاتلوا انتفض عهدهم .
فصل .
ويثبت الإمام عدد أهل الذمة وأسماءهم وأنسابهم ودينهم وحلاهم التي لا تتغير بالأيام كالطول والقصر والبياض والسواد والسمرة فيكتب أدعج العينين أقنى الأنف مقرون الحاجبين ويثبت ما يأخذ منهم ويجعل لكل طائفة عريفا يجمعهم عند أداء الجزية ويعرف من يبلغ من غلمانهم ويفيق من مجانينهم ويقدم من غائبهم ومن يموت أو يسلم لأنه أمكن لاستيفاء الجزية وأحوط وتؤخذ الجزية مما تيسر من أموالهم لقول النبي A لمعاذ : [ خذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر ] .
وكان النبي A يأخذ من أهل نجران ألفي حلة وكان علي يأخذ من كل ذي صناعة من صناعته التي عنده ومن قبضت جزيته كتب له براءة لتكون له حجة إذا احتاج إليها ويمتهنون عند أخذ الجزية منهم ويطال قيامهم وتجر أيديهم عند أخذها ومن بعثها منهم لم تقبل حتى يحضر فيؤديها لقول الله تعالى { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } .
فصل .
إذا مات الإمام أو عزل وولي غيره لم يحتج إلى تجديد عقد لأن الخلفاء لم يجددوا لمن كان في زمنهم عقدا ولأنه عقد لازم فأشبه الإجارة فإن عرف الثاني مبلغ المشروط عليهم أقرهم عليه وإن لم يعرف رجع إلى قولهم فيما يسوغ جعله جزية لأنه لا يمكن معرفته إلا من جهتهم فإن ثبت بعد ذلك أنهم نقصوا من الشروط التي عليهم شيئا رجع عليهم فيما نقص وإن قال بعضهم : كنا نؤدي دينارا وقال بعضهم : كنا نؤدي دينارين أخذ كل واحد منهم بإقراره ولم يقبل قول بعضهم على بعض لأن أقوالهم غير مقبولة