باب أحكام المرتد .
وهو : الراجع عن دين الإسلام ولا يصح الإسلام والردة إلا من عاقل فأما المجنون و الطفل فلا يصح إسلامهما و لا ردتهما لأنه قول له حكم فلا يصح منهما كالبيع و غيره من العقود و أما الصبي المميز فيصح إسلامه و ردته لأن عليا Bه أسلم و هو ابن سبع فصح إسلامه و ثبت إيمانه وعد بذلك سابقا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه حتى يعرب عنه لسانه فإما شاكرا و إما كفورا ] و لأن الإسلام عبادة محضة فصح منه كالصلاة و الحج و من صح إسلامه صحت ردته كسائر الناس و عنه : لا تصح ردته لقول عليه السلام : [ رفع القلم عن ثلاثة ] و لأنه قول يثبت به عقوبة فلم يصح منه كالإقرار بالحد و اختلف في السن المعتبرة لصحة إسلامه و ردته فقال الخرقي : هي عشر سنين لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بضربهم على الصلاة و التفريق بينهم في المضاجع لعشر و عن أحمد : أنه إذا كان ابن سبع سنين صح إسلامه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ مروهم بالصلاة لسبع ] و عن عروة أن عليا و الزبير أسلما و هما ابنا ثماني سنين و لأنه تصح عباداته فصح إسلامه كابن عشر و في ردة السكران روايتان كطلاقه .
فصل .
ولا تصح الردة من المكره لقول الله تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } و إن لفظ بالكفر و هو أسير فثبت أنه لفظ به و هو آمن كفر و إن لم يثبت لم يحكم بردته لأنه في محل المخافة وإن لفظ بها غير الأسير حكم بردته إلا أن يثبت إكراهه و من ثبت عليه أنه أكل لحم الخنزير أو شرب خمرا لم يحكم بردته لأنه قد يأكله معتقدا تحريمه و الأفضل للمكره على كلمة الكفر ألا يقولها لما روى خباب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن كان الرجل ممن كان قبلكم يحفر له في الأرض ثم يجاء بمنشار فيوضع على رأسه و يشق باثنين ما يمنعه ذلك عن دينه و يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم ما يصرفه ذلك عن دينه ] .
فصل .
و الردة تحصل بجحد الشهادتين أو إحداهما أو سب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم أو قذف أم النبي صلى الله عليه و سلم أو جحد كتاب الله تعالى أو شيء منه أو شيء من أنبيائه أو كتاب من كتبه أو فريضة ظاهرة مجمع عليها كالعبادات الخمسة أو استحلال محرم مشهور أجمع عليه كالخمر و الخنزير و الميتة و الدم و الزنى و نحوه فإن كان ذلك لجهل منه لحداثة عهده بالإسلام أو لإفاقة من جنون و نحوه لم يكفر و عرف حكمه و دليله فإن أصر عليه كفر لأن أدلة هذه الأمور الظاهرة ظاهرة في كتاب الله و سنة رسوله فلا يصدر إنكارها إلا من مكذب لكتاب الله و سنة رسوله .
فصل .
ومن ارتد عن الإسلام وجب قتله لما روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من بدل دينه فاقتلوه ] رواه البخاري و عن عثمان بن عفان Bه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا بغير نفس ] .
فصل .
وتقتل المرتدة للخبر و لأنها بدلت دين الحق بالباطل فتقتل كالرجل .
فصل .
ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثا يدعى فيها إلى الإسلام و عنه : أنه يقتل من غير استتابة للخبر و لأنه يروى أن معاذا قدم على أبي موسى و عنده رجل محبوس على الردة فقال معاذ : لا أنزل حتى يقتل فقتل و الأول ظاهر المذهب لما روى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبيه أنه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى فقال له عمر : هل من مغربة خبر ؟ قال : نعم رجل كفر بعد إسلامه فقال : ما فعلتم به ؟ قال : قدمناه فضربنا عنقه قال عمر : فهل حبستموه ثلاثا فأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر الله ؟ اللهم إني لم أحضر و لم آمر و لم أرض إذ بلغني و لو لم تجب الاستتابة لما تبرأ من فعلهم و لأن الردة في الغالب إنما تكون لشبهة عرضت له فإذا تأنى عليه وكشفت شبهته رجع إلى الإسلام فلا يجوز إتلافه مع إمكان استصلاحه فعلى هذا يضيق عليه في مدة الاستتابة و يحبس و يدعى إلى الإسلام و تكشف شبهته و يبين له فساد ما وقع له فإن قتل قبل الاستتابة لم يجب ضمانه لأن عصمته قد زالت بردته و إن ارتد و هو سكران لم يقتل قبل إفاقته لأنه لا يمكن إزالة شبهته في حال سكره فإذا صحا و تمت له ثلاثة أيام من وقت ردته قتل و إن ارتد صبي لم يقتل قبل بلوغه لأن القتل عقوبة متأكدة فلا تشرع في حق الصبي كالحد و إذا بلغ استتيب ثلاثا لأن البلوغ مظنة كمال للعقل فاعتبرت الاستتابة فيه فإن لم يتب قتل و إن ارتد عاقل فجن لم يقتل في جنونه لأن القتل يجب بالإصرار على الردة و المجنون لا يوصف بالإصرار ومن قتل أحد هؤلاء عزر لارتكابه القتل المحرم ولم يضمن لأنه قتل كافرا لا عهد له فأشبه قتل نساء أهل الحرب .
فصل .
فإذا تاب المرتد قبلت توبته و خلي سبيله لقول الله تعالى : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } إلى قوله : { إلا من تاب } و روى أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها ] و لأن النبي صلى الله عليه و سلم كف عن المنافقين حين أظهروا الإسلام مع إبطانهم الكفر و عن أحمد : أنه لا تقبل توبة الزنديق المستسر بكفره لأنه كان مستسرا به دهره فلا يزيد بتوبته عن الاستسرار الذي كان قبل الظهور عليه و لا توبة من تكررت ردته لقول الله تعالى : { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم و لا ليهديهم سبيلا } و قال أحمد : لا تقبل توبة من سب النبي صلى الله عليه و سلم و قال الخرقي : و من قذف أم النبي صلى الله عليه و سلم قتل مسلما كان أو كافرا و قال أبو الخطاب : هل تقبل توبة من سب الله تعالى و رسوله ؟ على روايتين : .
إحداهما : لا تقبل لأن قتله موجب السب و القذف فلا يسقط بالتوبة كحد القذف .
و الثانية : تقبل لأنه لا يزيد على اتخاذ الصاحبة و الولد لله سبحانه و تعالى و قد سماه الله تعالى شتما فقال النبي صلى الله عليه و سلم فيما يخبر عن ربه تعالى أنه قال : [ شتمني ابن آدم و ما ينبغي له أن يشتمني أما شتمه إياي فقوله : إن لي صاحبة وولدا ] و التوبة من هذا مقبولة بالاتفاق .
فصل .
و تثبت التوبة من الردة و الكفر الأصلي بأن يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله لخبر أنس إلا أن يكون ممن يعتقد أن محمدا بعث إلى العرب خاصة أو يزعم أن محمدا نبي يبعث غير نبينا A فلا يصح إسلامه حتى يشهد أن نبينا محمدا نبي بعث إلى الناس كافة أو يتبرأ مع الشهادتين من كل دين خالف الإسلام لأنه يحتمل أن يريد بالشهادة ما يعتقده وإن شهد أن محمدا رسول الله A فقط ففيه روايتان : .
إحداهما : يحكم بإسلامه لأنه لا يقر برسالته إلا وهو مقر بمن أرسله .
والثانية : إن كان ممن يقر بالتوحيد كاليهود حكم بإسلامه لأن كفره بجحده لرسالة محمد صلى الله عليه و سلم و إن كان ممن لا يوحد الله تعالى كالنصراني لم يحكم بإسلامه حتى يشهد أن لا إله إلا الله لأنه غير موحد فلا يحكم بإسلامه حتى يوحد الله تعالى و يقر بما كان يجحده و إن ارتد بجحد فرض أو استحلال محرم لم يصح إسلامه حتى يرجع عما اعتقده ويعيد الشهادتين لأنه كذب الله تعالى ورسوله بما اعتقده وإن صلى الكافر حكمنا بإسلامه سواء صلى جماعة أو فرادى في دار الحرب أو الإسلام لأنها ركن يختص به الإسلام فحكم بإسلامه بها كالشهادتين و لأن ما كان إسلاما في دار الحرب كان بإسلاما في دار الإسلام كالشهادتين و إن قال : أن مؤمن أو مسلم حكم بإسلامه و إن لم يلفظ بالشهادتين ذكره القاضي لأن ذلك اسم لشيء فإذا أخبر به فقد أخبر بذلك الشيء .
فصل .
و إن أصر على الردة قتل بالسيف لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ و إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ] و لا يقتله إلا الإمام لأنه قتل يجب لحق الله تعالى فكان الى الإمام كرجم الزاني و إن قتله غيره بغير إذنه أساء و يعزر لافتئاته على الإمام و لا ضمان عليه لأنه أتلف محلا غير معصوم .
فصل .
و إذا ارتد لم يزل ملكه لأنه سبب مبيح لدمه فلم يزل ملكه كزنا المحصن و إن و جد منه سبب يقتضي الملك كالاصطياد و الابتياع ملك به كذلك و يرفع الحاكم يده عن ماله و يمنعه التصرف فيه و يقضي ديونه من ماله و أرش جناياته و ينفق على من يلزمه الإنفاق عليه و إن تصرف المرتد في ماله ببيع أو هبة و نحوها كان تصرفه موقوفا إن أسلم تبينا وقوعه صحيحا و إن لم يسلم كان باطلا لأنه تعلق به حق جماعة المسلمين بردته فأشبه تبرع المريض لوارثه و قال أبو بكر : يزول ملكه بردته لأن المسلمين ملكوا إراقة دمه فوجب أن يملكوا ماله كالأصلي لأنه زالت عصمته بردته فوجب أن تزول عصمة ماله فلا تصح تصرفاته و لا تملك بأسباب الملك و لا تنفق على أهله منه فإن أسلم رد إليه تمليكا مستأنفا و إن قتل أو مات قضيت ديونه لأن موته لا يمنع قضاء دينه .
فصل .
ولا يجوز استرقاق المرتد لأنه لا يجوز إقراره على ردته وإن ارتد وله ولد لم يجز استرقاق ولده لأنه محكوم بإسلامه بإسلام والده فإذا بلغ أستتيب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل والحمل كالولد الظاهر لأنه يحكم له بالإسلام ولهذا نورثه من والده المسلم دون المرتد وإن ولد للمرتد ولد بعد ردته من كافرة جاز استرقاقه لأنه كافر ولد بين كافرين فجاز استرقاقه كولد الحربيين ونقل الفضل بن زياد عن أحمد في المرتد : إذا تزوج في دار الحرب وولد له ما يصنع بولده ؟ قال : يردون إلى الإسلام ويكونون عبيدا للمسلمين فظاهر هذا أنه لا يجوز إقرار ولده على الكفر ولا يقبل منه إلا الإسلام وإذا أسلم بعد سبيه رق لأنه ولد من لا يقر على كفره فلا يقر على كفره كوالده الذي كان موجودا قبل ردته .
فصل .
وما يتلفه المرتد مضمون عليه لأنه التزم حكم الإسلام بإسلامه و اعترافه به فلا يسقط عنه بجحده كمن جحد الدين بعد إقراره به فإن لحق بدار الحرب فقد روي عن أحمد : أنه إذا لحق بدار الحرب فقتل أو سوق قال : قد زال عنه الحكم يعني : لا يؤخذ بجنايته ثم توقف بعد ذلك فيحتمل أن يضمن ما أتلفه لما ذكرناه و يحتمل أن لا يضمن لأنه ممتنع بكفره في دار الحرب فلم يضمن كالكافر الأصلي .
و إن ارتدت طائفة و امتنعت وجب على الإمام قتالها لأن أبا بكر الصديق قاتل أهل الردة و لأنهم كفار لا عهد لهم فوجب قتالهم كالأصليين و ما أتلفوه في حال الحرب لم يضمنوه لما روى طارق بن شهاب قال : جاء وفد بزاخة و غطفان إلى أبي بكر الصديق Bه يسألونه الصلح فقال : تدون قتلانا و لا ندي قتلاكم فقال عمر Bه : إن قتلانا قتلوا على أمر الله ليس لهم ديات فتفرق الناس على قول عمر Bه رواه البخاري .
و إن أتلفوا في غير دار الحرب شيئا ففيه وجهان كالواحد إذا لحق بدار الحرب و ذكر ابن أبي موسى و القاضي و أبو الخطاب : أن ما أتلفه المرتد فهو مضمون عليه سواء كان واحدا أو جماعة ممتنعة بالحرب و يحتمل في الجماعة الممتنعة ألا تضمن ما أتلفت .
فصل .
و من أكره على الإسلام بغير حق كالذمي و المستأمن لم يصح إسلامه ولم يثبت له أحكامه حتى يوجد منه ذلك بعد زوال الإكراه و إن أكره عليه بحق كالمرتد ومن لا يجوز إقراره على دينه حكم بإسلامه و من أسلم ثم قال : لم أعتقد الإسلام أو : لم أدر ما قلت لم يقبل منه و صار مرتدا نص عليه أحمد Bه و عنه أنه يقبل منه و المذهب : الأول