باب الوديعة .
قبول الوديعة مستحب لمن علم من نفسه الأمانة لما فيه من قضاء حاجة أخيه ومعونته وقد أمر الله تعالى ورسوله بهما وإن كان عاجزا عن حفظها أو خائفا من نفسه عليها لم يجز له قبولها لأنه يغرر بها إلا أن يخبر ربها بذلك فيرضاه فإن الحق له فيجوز بذله ولا يجوز قبولها إلا من جائز التصرف في المال فإن استودع من صبي غير مأذون له فيجوز بذله ولا يجوز قبولها إلا من جائز التصرف في المال فإن استودع من صبي غير مأذون له أو سفيه أو مجنون ضمن لأنه أخذ ماله من غير إذن شرعي فضمنه كما لو غصبه ولا يبرأ إلا بتسليمه إلى وليه كما لو غصبه إياه فإن خاف أنه إن لم يأخذ منهم أتلفوه لم يضمنه إن أخذه لأنه قصد تخليصه من الهلاك فلم يضمنه كما لو وجده في سيل فأخرجه منه .
فصل : .
والوديعة أمانة إذا أتلفت من غير تفريط لم يضمن المودع بالإجماع لما روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي A قال : [ ليس على المستودع ضمان ] فإن تلف من بين ماله ففيها روايتان أظهرهما لا يضمن للخبر ولأنه أمين لم تظهر منه خيانة فلم يضمن كما لو ذهب معها شيء من ماله والأخرى : يضمن لأنه روي عن عمر Bه أنه ضمن أنسا وديعة ذهبت بين ماله .
فصل : .
فإن لم يعين لها صاحبها الحرز لزمه حفظها في حرز مثلها فإن أخر إحرازها فتلفت ضمنها لتركه الحفظ من غير عذر وإن تركها في دون حرز مثلها ضمن لأن الإيداع يقتضي الحفظ فإذا أطلق حمل على المتعارف وهو حرز المثل وإن أحرزها في حرز مثلها أو فوقه لم يضمن لأن من رضي بحرز مثلها رضي بما فوقه .
فصل : .
فإن عين له الحرز فقال : أحرزها في هذا البيت فتركها فيما دونه ضمن لأنه لم يرضه وإن تركها في مثله أو أحرز منه فقال القاضي : لا يضمن لأن من رضي شيئا رضي مثله وفوقه وظاهر كلام الخرقي : أنه يضمن لأنه خالف أمره لغير حاجته فأشبه ما لو نهاه فإن قال : احفظها في هذا البيت ولا تنقلها عنه فنقلها لغير حاجة ضمنها سواء نقلها إلى مثله أو أحرز منه لأنه خالف نص صاحبها وإن خاف عليها نهبا أو هلاكا وأخرجها لم يضمنها لأن النهي للاحتياط عليها والاحتياط في هذا الحال نقلها فإن تركها فتلفت ضمنها لأنه فرط في تركها ويحتمل أن لا يضمن لأنه امتثال أمر صاحبها فإن قال : لا تخرجها وإن خفت عليها فأخرجها لخوفه عليها لم يضمن لأنه زاده خيرا وإن تركها فتلفت لم يضمن لأن نهيه مع خوف الهلاك إبراء من الضمان فأشبه ما لو أمره بإتلافها فأتلفها فإن أخرجها فتلفت فادعى أنني أخرجتها خوفا عليها فعليه البينة على ما ادعى وجوده من تلك الناحية لأنه مما لا يتعذر إقامة البينة عليه ثم القول قوله في خوفه عليها وفي التلف مع يمينه لتعذر إقامة البينة عليها فإن قال : لا تقفل عليها قفلين ولا تنم فوقها فخالفه فالمذهب أنه لا يضمن لأنه زاد في الحرز فأشبه ما لو قال له : اتركها في صحن الدار فتركها في البيت ويحتمل أن يضمن لأنه نبه اللص عليها وأغراه بها .
فصل : .
فإن أودع نفقة فربطها في كمه لم يضمن وإن تركها فيها بغير رباط وكانت خفيفة لا يشعر بسقوطها ضمن لتفريطه وإن كانت ثقيلة يشعر بها لم يضمن وإن تركها في جيبه أو شدها على عضده لم يضمنها لأن العادة جارية بالإحراز بهما وإن قال : اربطها في كمك فأمسكها في يده ضمن لأن اليد يسقط منها الشيء بالنسيان ويحتمل أن لا يضمن لأن اليد لا يتسلط عليها الطرار بالبط وقال القاضي : اليد أحرز عند المغالبة والكم أحرز عند غيرها فإن تركها في يده عند المغالبة فلا ضمان عليه لأنه زادها احتياطا وإلا ضمنها لنقلها إلى أدنى مما أمره به وهذا صحيح وإن قال : اجعلها في كمك فتركها في جيبه لم يضمن لأنه أحرز لأنه ربما نسي فسقطت من الكم وإن قال : اجعلها في جيبك فتركها في كمه ضمن وإن قال : اتركها في بيتك فشدها في ثيابه واخرجها معه ضمن لأن البيت أحرز وإن شدها على عضده مما يلي جنبه لم يضمن لأنه أحرز من البيت فإن شدها مما يلي الجانب الآخر ضمن لأن البيت أحرز منه ولأنه ربما يبطها الطرار وإن قال : احفظها في البيت ودفعها إليه في غيره فمضى بها إليه في الحال لم يضمن وإن قعد وتوانى ضمنها لأنه توانى عن حفظها فيما أمر به مع الإمكان فإن قال : احفظ هذا الخاتم في البنصر فجعله في الخنصر ضمن لأنه دون البنصر فالخاتم فيها أسرع إلى الوقوع وإن جعله في الوسطى وأمكن إدخاله في جميعها لم يضمن لأنها أغلظ فهي أحفظ وإن انكسر أو بقي في رأسها ضمن لتعديه فيه وإن قال : لا تدخل أحدا البيت الذي فيه الوديعة فخالفه فسرقت ضمن لأن الداخل ربما دل السارق عليها .
فصل : .
وإذا أراد المودع السفر أو عجز عن حفظها ردها على صاحبها أو وكيله ولم يجز دفعها إلى الحاكم لأنه لا ولاية للحاكم على حاضر فإذا سافر بها في طريق مخوف أو إلى بلد مخوف أو نهاه المالك عن السفر بها ضمن لأنه مفرط أو مخالف وإن لم يكن كذلك لم يضمن لأنه نقلها إلى موضع مأمون أشبه ما لو نقلها في البلد وإن لم يرد السفر بها ولم يجد مالكها دفعها إلى الحاكم لأنه متبرع بالحفظ فلا يلزمه ذلك في الدوام والحاكم يقوم مقام صاحبها عند غيبته فإن دفعها إلى غيره مع قدرته عليه ضمنها لأنه كصاحبها عند غيبته وإن لم يجد حاكما أودعها ثقة لأن النبي A لما أراد أن يهاجر أودع الودائع التي كانت عنده لأم أيمن ولأنه موضع الحاجة .
وعنه : يضمن قال القاضي : يعني إن أودعها من غير حاجة فإن دفنها في الدار وأعلم بها ثقة يده على المكان فهو كإيداعها إياه وإن لم يعلم بها أحد فقد فرط لأنه لا يأمن الموت في سفره وإن أعلم بها من لا يد له على المكان فكذلك لأنه ما أودعها وإن أعلم بها غير ثقة ضمنها لأنه عرضها للذهاب وإن حضره الموت فهو كسفره لأنه يعجز عن حفظها .
فصل : .
ولا يجوز أن يودع الوديعة عند غيره لغير حاجة لأن صاحبها لم يرض أمانة غيره فإن فعل فتلفت عند الثاني مع علمه بالحال فله تضمين أيهما شاء لأنهما متعديان ويستقر ضمانها على الثاني لأن التلف حصل عنده وقد دخل على أنه يضمن وإن لم يعلم الحال فقال القاضي : يضمن أيهما شاء ويستقر ضمانها على الأول لأن الثاني يدخل على أنه أمين وظاهر كلام أحمد أنه لا يملك تضمين الثاني لذلك وإن دفعها إلى من جرت عادته بحفظ ماله كزوجته وأمته وخازنه لم يضمن لأنه حفظها بما يحفظ به ماله فأشبه حفظها بنفسه وإن استعان بغيره في حملها ووضعها في الحرز وسقي الدابة وعلفها لم يضمن لأن العادة جارية بذلك أشبه فعله بنفسه .
فصل : .
وإن خلطها بما لا تتميز منه ضمنها لأنه لا يمكنه رد أعيانه وإن خلطها بما تتميز منه كصحاح بمكسرة وسود ببيض لم يضمن لأنها تتميز من ماله أشبه ما لو تركها مع أكياس له في صندوقه وعنه فيمن خلط بيضا بسود : يضمن وهذا محمول على أن السود تؤثر في البيض فيضمنها لذلك وخرج أبو الخطاب من هذه الرواية : أنه يضمنها إذا خلطها مع التمييز وإن أودعه دراهم في كيس مشدود فحله أو خرق ما تحت الشد أو كسر الختم ضمن ما فيه لأنه هتك الحرز لغير عذر فإن كانت من غير وعاء فأخذ منها درهما ضمنه وحده لأنه تعدى فيه وحده فإن رده إليها لم يزل ضمانه لأنه ثبت بتعديه فيه فلم يزل إلا برده إلى مالكه وإن رد بدله وكان متميزا لم يضمن غيره لذلك وإن لم يتميز ضمن الكل لخلطه الوديعة بما لا يتميز وظاهر كلام الخرقي أنه لا يضمن غيره لأنه لا يعجز عن ردها ورد ما يلزمه رده معها ومن لزمه الضمان بتعديه فترك التعدي لم يبرأ من ضمانها لأن الضمان تعلق بذمته فلم يبرأ بترك التعدي كما لو غصب شيئا من داره ثم رده إليها وإن ردها إلى صاحبها ثم ردها صاحبها إليه برئ لأن هذا وديعة ثانية وإن أبرأه من الضمان برئ لأن الضمان حقه فبرئ منه بإبرائه كدينه .
فصل : .
فإن أودع بهيمة فلم يعلفها ولم يسقها حتى ماتت ضمنها لأن في ذلك هلاكها فأشبه ما لو لم يحرزها وإن نهاه المالك عنه فتركه أثم لحرمة الحيوان ولم يضمن لأن مالكها أذن في إتلافها فأشبه ما لو أمره بقتلها والحكم في النفقة والرجوع كالحكم في نفقة البهائم المرهونة لأنها أمانة مثلها .
فصل : .
وإذا أخرج الوديعة من حرزها لمصلحتها كإخراج الثياب للنشر والدابة للسقي والعلف على ما جرت به العادة لم يضمن لأن الإذن المطلق يحمل على الحفظ المعتاد وإن نوى جحد الوديعة أو إمساكها لنفسه أو التعدي فيها ولم يفعل لم يضمن لأن النية المجردة معفو عنها لقول النبي A : [ عفي لأمتي عن ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به ] رواه البخاري و مسلم بمعناه .
وإن أخرجها لينتفع بها ضمنها لأن تصرف فيها بما ينفي مقتضاها فضمنها كما لو أحرزها من غير حرزها إن أخذت منه قهرا لم يضمن لأنه غير مفرط أشبه ما لو تلفت بفعل الله تعالى وإن أكره حتى سلمها لم يضمن لأنه مكره أشبه الأول .
فصل : .
وإن طولب في الوديعة فأنكرها فالقول قوله لأن الأصل عدمها وإن أقر بها وادعى ردها أو تلفها بأمر خفي قبل قوله مع يمينه لأن قبضها لنفع مالكها وإن كان بأمر ظاهر فعليه إقامة البينة بوجوده في تلك الناحية ثم القول قوله مع يمينه .
فصل : .
وإن طالبه برد الوديعة فأخره لعذر لم يضمن لأنه لا تفريط من جهته وإن أخره لغير عذر ضمنها لتفريطه ومؤنة ردها على مالكها لأن الإيداع لحظة