باب الحوالة .
وهو نقل الدين من ذمة المحيل إلى المحال عليه وهي عقد إرفاق منفرد بنفسه ليست بيعا بدليل جوازها في الدين بالدين وجواز التفرق قبل القبض واختصاصها بالجنس الواحد واسم خاص فلا يدخلها خيار لأنها ليست بيعا ولا في معناه لكونها لم تبن على المغابنة ولأصل فيها قول النبي A : [ مطل الغني ظلمه وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع ] متفق عليه ولا تصح إلا بشروط أربعة : .
أحدها : أن يحيل على دين مستقر لأن مقتضاها إلزام المحال عليه الدين مطلقا ولا يثبت ذلك فيما هو بغرض السقوط ولا يعتبر استقرار المحال به لجواز أداء غير المستقر فلا تجوز الحوالة بدين السلم ولا عليه لأنه لا تجوز المعارضة عنه به ولا عنه ولو أحال الزوج زوجته قبل الدخول بصداقها صح وإن أحالت المرأة به عليه لم يصح لأنه غير مستقر وإن أحال المشتري البالغ بثمن المبيع في مدة الخيار صح وإن أحال البائع به عليه لم يصح لذلك وإن أحال الكاتب سيده بنجم فدخل عليه صح وإن أحال سيده به عليه لم يصح لذلك وإن أحيل على المكاتب بدين غير مال الكتابة صح لأن حكمه حكم الأحرار في المداينات وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه فهو توكيل في الاقتراض وإن أحال على من له عليه دين فهو كتوكيل في الاستيفاء وإن أحال من عليه دين على من لا عليه دين فهو ملتمس إيفاء دينه وليس شيء من ذلك حوالة إذ الحوالة تحول الحق وانتقاله ولا حق هاهنا يتحول وإنما جاز التوكيل بلفظ الحوالة لاشتراكهما في معنى وهو تحول المطالبة من الموكل إلى الوكيل كتحولها من المحيل إلى المحتال .
فصل : .
الشرط الثاني : تماثل الحقين لأنها تحويل الحق فيعتبر تحويل على صفته ويعتبر التماثل في ثلاثة أشياء الجنس فلو أحال من أحد النقدين بالآخر لم يصح والصفة فلو أحال عن المصرية بأميرية أو عن المكسرة بصحاح لم يصح والحلول والتأجيل فإن كان أحدهما حالا والآخر مؤجلا أو أجل أحدهما مخالفا لأجل الآخر لم يصح وإن صحت الحوالة فتراضيا على خير مما أحيل به أو دونه أو تعجيله تأخيره أو الاعتياض عنه جاز لأنه دين ثابت فجاز فيه ذلك كغير المحال به .
فصل : .
الشرط الثالث : أن يكون بمال معلوم على مال معلوم لأنه فيهما التسليم والتماثل والجهالة تمنعها ولا يصح فيما لا يصح السلم فيه لأنه لا يثبت في الذمة وإنما تجب قيمته بالإتلاف ويصح في كل ما يثبت مثله في الذمة بالإتلاف من الأثمان والحبوب والأدهان وفيما يصح السلم فيه غير ذلك كالمذروع والمعدود وجهان : أحدهما : لا تصح الحوالة به لأن المثل لا يتحرر فيه ولهذا لا يضمن بمثله .
والثاني : يصح لأنه يثبت في الذمة ويحتمل أن يبنى الحكم فيه على القرض إن قلنا يقضى في هذا بمثله صحت الحوالة به لأنه يثبت في الذمة بغير السلم وإلا فلا لأنه لا يثبت في الذمة إلا بالسلم ولا تصح الحوالة في السلم وإن كان عليه إبل من قرض وله مثل ذلك على آخر صحت الحوالة بها لأنه إن ثبت في الذمة مثلها صحت الحوالة وإن ثبت قيمتها فالحوالة بها صحيحة وإن كان له إبل من دية فأحال بها على من له عليه مثلها من دية أخرى صح ويلزمه إعطاؤه أدنى ما يتناوله الاسم وقال أبو الخطاب : فيه وجه آخر أ نه لا يصح وإن كان عليه إبل من الدية وله ممثلها قرضا فأحال بها ففيه وجهان : .
أحدهما : يصح لأن الخيرة في التسليم إلى المحيل وقد رضي بتسليم ماله في ذمة المقترض .
والثاني : لا يصح لأن الواجب القرض في إحدى الروايتين القيمة فقد اختلف الجنس وإن أحال المقرض من له الدية بها لم يصح وجها واحدا لأننا إن قلنا الواجب القيمة فالجنس مختلف إن قلنا يجب المثل فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته وقيمته والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك .
فصل : .
الشرط الرابع : أن يحيل برضاه لأن الحق عليه فلا يلزمه أداؤه من جهة بعينها ولا يعتبر رضى المحال عليه لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه وبوكيله وقد أقام المحتال مقام نفسه في القبض فلزم المحال عليه الدفع إليه كما لو وكله في الاستيفاء منه وأما المحتال فإن كان المحال عليه مليئا وهو الموسر غير المماطل لم يعتبر رضاه لقول النبي A : [ إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع ] ولأن للمحيل إيفاء الحق بنفسه وبوكيله وقد أقام المحال عليه مقامه في الإيفاء فلم يكن للمحتال الامتناع وإن لم يكن مليئا لم يلزمه أن يحتال للحديث ولأن عليه ضررا في قبولها فلم يلزمه كما لو بذل له دون حقه في الصفة فإن رضي بها مع ذلك صحت كما لو رضي بدون حقه .
فصل : .
إذا صحت الحوالة برئ المحيل من الدين لأنه قد تحول من ذمته فإن تعذر الاستيفاء من المحال عليه لموت أو فلس حادث أو مطل لم يرجع على المحيل كما لو أبرأه وإن كان مفلسا حين الحوالة ولم يرض المحتال بالحوالة فحقه باق على المحيل لأنه لا يلزمه الاحتيال على مفلس وإن رضي مع العلم بحاله لم يرجع لأن الذمة برئت من الحق فلم يعد إلى الشغل كما لو كان مليئا وإن رضي مع الجهل بحاله ففيه روايتان : .
إحداهما : لا يرجع لذلك .
والثانية : يرجع لأن الفلس عيب في المحال عليه فكان له الرجوع كما لو اشترى معيبا ثم علم عبيه وإن شرط ملاءة المحال عليه فله شرطه لقول النبي A : [ المؤمنون على شروطهم ] رواه أبو داود والمسلمون ولأنه شرط شرطا مقصودا فإذا بان خلافه ملك الرد كما لو شرطه في المبيع .
فصل : .
إذا اشترى عبدا فأحال البائع بثمنه أو أحال البائع عليه بثمنه فبان حرا أو مستحقا فالحوالة باطلة لأن البيع باطل ولا دين على المشتري يحيل به ولا يحال به عليه فإن اتفق المحيل والمحال عليه على ذلك وكذبهما المحتال لم يسمع قولهما كما لو باعا عبدا ثم أقرا بحريته ولا تسمع لهما بينة لأنهما أكذباها بدخولهما في البيع وإن أقامها العبد سمعت وبطلت الحوالة وإن صدقهما المحتال في حرية العبد وادعى أن الحوالة بدين أخر فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل صحة الحوالة فكان صدقه أظهر فإن أقاما بنية بذلك سمعت لأنهما لم يكذباها .
فصل : .
وإن اشترى عبدا وأحال البائع بثمنه ثم وجده معيبا فرده قبل قبض المحتال من المحال عليه بطلت الحوالة لأنها بالثمن وقد سقط بالفسخ ذكره القاضي ويحتمل أن لا يبطل لأن المشترى نقل حقه إلى ما في ذمة المحال عليه فلم يبطل بالفسخ كما لو أعطاه عن الثمن ثوبا ثم فسخ العقد لم يرجع في الثوب وإن كان الرد بعد قبض المحتال لم تبطل لأنه ذمة المحال عليه برئت بالقبض منه ويرجع المشتري على البائع وإن اشترى عبدا فأحال البائع عليه أجنبيا بالثمن فرده المشتري بعيب لم تبطل الحوالة لأن ذمة المشتري برئت بالحوالة من البائع فصار كأنه قبض منه وتعلق به هاهنا حق غير المتعاقدين هو المحتال بخلاف التي قبلها ويرجع المشتري على البائع بالثمن .
فصل : .
وإذا أمر رجلا بقبض دين له من غريمه ثم اختلفا فقال أحدهما : كانت وكالة بلفظها وقال الآخر : كانت حوالة بلفظها فالقول قول مدعي الوكالة لأنه يدعي بقاء الحق على ما كان وينكر انتقاله وإن اتفقا على أنه قال : أحلتك بألف وقال أحدهما : كنت حوالة حقيقية وقال الآخر : كانت وكالة بلفظ الحوالة ففيه ووجهان : .
أحدهما : القول قول مدعي الوكالة لذلك .
والثاني : القول قول مدعي الحوالة لأن الظاهر معه لموافقته الحقيقة ودعوى الآخر المجاز وإن قال : أحلتك بدينك فهي حوالة بكل حال .
فصل : .
وإذا قال المدين لغريمه : قد أحلت بدينك فلانا فأنكر فالقول قوله مع يمينه فإن أقام المدين بينة بذلك سمعت ليسقط عنه حق المحيل فإن كانت بحالها فادعى أجنبي على المدين أن رب الدين أحاله به فأنكره فأقام الأجنبي بينة ثبت في حقه وحق الغائب لأن البينة يقضى بها على الغائب ولزم دفع الدين إليه فإن لم تكن له بينة فاعترف المدين له بصحة دعواه ففيه وجهان : .
أحدهما : يلزمه الدفع إليه لاعترافه له بوجوب حقه عليه وانتقال دينه إليه فأشبه ما لو قامت به بينة .
والثاني : لا يلزمه الدفع إليه لأنه لا يأمن إنكار المحيل ورجوعه عليه فكان له الاحتياط في تخليص نفسه كما لو ادعى الوكالة فإن دفعه إليه ثم أنكر المحيل الحوالة وحلف ورجع على المحال عليه فأخذ منه لم يرجع المحال عليه على المحتال لأنه معترف له أنه استوفى حقه وإنما المحيل ظلمه وإن أنكر المدين الحوالة انبنى على الوجهين إن قلنا : يلزمه الدفع مع الإقرار لزمته اليمين على الإنكار وتكون على العلم لأنها على نفي فعل الغير وإن قلنا : لا يلزمه الدفع مع الإقرار لم تلزمه اليمين مع الإنكار لعدم فائدتها وليس للمحتال الرجوع على المحيل لاعترافه ببراءة ذمته ويسأل المحيل فإن صدق المحتال ثبتت الحوالة لأن رضى المحال عليه غير معتبر وإن كذبه حلف له وسقطت الحوالة وإن نكل المحال عليه عن اليمين فقضى عليه واستوفى منه ثم أنكر المحيل الحوالة فله أن يستوفي من المحال عليه لأنه معترف له بالألف مدع أن المحتال ظلمه .
فصل : .
فإن كان عليه دين فادعى رجل أنه وكيل ربه في قبضه فصدقه لم يلزمه دفعه إليه لما ذكرنا في الحوالة وإن أنكر لم تلزمه اليمين لأنه لا يلزمه الدفع مع الإقرار فلم تلزمه اليمين مع الإنكار فإن دفعه إليه فأنكر رب الدين الوكالة حلف ورجع على الدافع ثم رجع الدافع على الوكيل إن لم يكن اعترف بصدقه لأنه لم يثبت أنه وكيل وإن كان اعترف له لم يرجع عليه لأنه اعترف بصحة دعواه وأن الموكل ظلمه فلم يرجع على غير ظلمه وإن كان المدفوع وديعة فوجده ربها أخذها وإن تلفت في يد الوكيل تلزمه مطالبة من شاء منهما فإن طالب الوكيل لم يرجع على أحد لأن التلف حصل في يده فاستقر الضمان عليه وإن طالب المودع وكان قد اعترف بالوكالة لم يرجع على أحد لما ذكرناه في الدين وإن لم يكن اعترف للوكيل رجع عليه .
فصل : .
فإن كان عند رجل دين أو وديعة فجاء رجل فادعى أنه وارث صاحبهما وقد مات ولا وارث له سواه فصدقه لزمه الدفع إليه لأنه لا يخشى تبعة وإن كذبه فعليه اليمين أنه لا يعلم ذلك لأنه لزمه الدفع مع الإقرار فلزمته اليمين مع الإنكار .
فصل : .
فإن كان لرجل ألف على اثنين كل واحد منهما ضامن لصاحبه فأحاله أحدهما بها برئا منها لأن الحوالة كالتقبيض وإن أحال صاحب الألف به على أحدهما صحت الحوالة لأنها مستقرة في ذمة كل واحد منهما وإن أحال عليهما جميعا ليستوفي من كل واحد منهما نصفها صحت لأن ذلك للمحيل فملك الحوالة به وإن أحل عليهما ليستوفي من أيهما شاء صحت أيضا لأنه لا فضل في نوع ولا عدد ولا أجل وإنما هو زيادة استيثاق فأشبه حوالة المعسر على المليء ولهذا لو أحالاه على واحد صح