كتاب الصلح .
وهو ضربان : .
أحدهما : الصلح في الأموال وذلك نوعان : .
أحدهما : الصلح على الإنكار مثل أن يدعي على إنسان عينا في يده أو دينا في ذمته لمعاملة أو جناية أو إتلاف أو غصب أو تفريط في وديعة أو مضاربة ونحو ذلك فينكره ثم يصالحه بمال فإنه يصح إذا كان المنكر معتقدا بطلان الدعوى فيدفع المال افتداء ليمينه ودفعا للخصومة عن نفسه والمدعي يعتقد صحتها فيأخذه عوضا عن حقه الثابت له لأنه يصح مع الأجنبي فيصح بين الخصمين كالصلح في الإقرار ويكون بيعا في حق المدعي لأنه يأخذ المال عوضا عن حقه فيلزمه حكم إقراره حتى لو كان العوض شقصا وجب الشفعة وإن وجد به عيبا فله رده ويكون إبراء في حق المنكر لاعتقاده أن ملكه للمدعى لم يتجدد بالصلح وأنه إنما دفع المال افتداء لنفسه لا عوضا فلو كان المدعي شقصا لم تجب فيه شفعة ولو وجد به عيبا لم يملك رده كمن اشترى عبدا قد أقر بحريته فإن كان أحدهما يعلم كذب نفسه فالصلح باطل في الباطن وما يأخذه بالصلح حرام لأنه يأكل مال أخيه بباطله ويستخرجه منه بشره وهو في الظاهر صحيح لأن ظاهر حال المسلمين الصحة والحق فإن صالح عن المنكر أجنبي صح فإن كان بإذنه فهو وكيله وقائم مقامه وإن كان بغير إذنه فهو افتداء له وإبراء لذمته من الدين أو الدعوى وذلك جائز بغير إذنه بدليل أن أبا قتادة قضى دين الميت ولا إذن له لكن إذا كان بغير إذنه لم يرجع عليه لأن الدين لم يثبت عليه ولأنه أدى عنه ما يلزمه أداؤه فكان متبرعا وإن كان بإذنه رجع عليه لأنه وكيله .
وإن صالح الأجنبي عن نفسه ليصير الحق له من غير اعتراف للمدعي بصحة الدعوى لم يصح لأنه يشتري ملك غيره وإن اعترف بصحة دعواه والمدعى دين لم يصح لأن بيع الدين لا يصح مع الإقرار فمع الإنكار أولى وإن كان عينا لا يقدر المصالح على تخليصها لم يصح لأن بيعها لا يصح مع الإقرار فمع الإنكار أولى وإن كان يقدر على استنقاذها صح لأنه اشترى منه ماله الممكن تسلمه فصح كما قلنا في بيع المغصوب ثم إن قدر على انتزاعها استقر الصلح وإن عجز فله الفسخ لأنه لم يسلم له المعقود عليه فرجع في بدله فإن قال الأجنبي للمدعي : أنا وكيل المنكر في صلحك وهو معترف لك في الباطن جاحد في الظاهر فصالحه لم يصح لأن الصلح في هذه الحال لا يصح من المنكر فكذلك من وكيله وقال القاضي : يصح ومتى صدقه المنكر ملك العين ولزمه ما أدى عنه وإن أنكر حلف وبرئ وإن دفع المدعي إلى المنكر مالا ليقر له ففعل ثبت الحق وبطل الصلح لأنه يجب عليه الإقرار بالحق فلم يحل له أخذ العوض عما وجب عليه ولو صالح امرأة لتقر له بالزوجية أو بالرق لم يصح لذلك ولأنه يحرم عليها بذل نفسها لمن يطأها بعوض وإن بذلت عوضا للمدعي عن دعواه صح لأنها تدفع شره عن نفسها ويأخذ العوض عن حقه فيها كعوض الخلع وقيل : لا يصح في الزوجية لأن الزوج لا يأخذ عوضا عن الزوجية في غير الخلع ولو صالح شاهدا ليترك الشهادة عليه أو سارقا لئلا يرفعه إلى السلطان فالصلح باطل لأنه لا يحل أخذ العوض عن ترك الشهادة الواجبة وليس رفعه إلى السلطان حقا يجوز الاعتياض عنه .
فصل : .
النوع الثاني : الصلح مع الاعتراف وهو ثلاثة أقسام : .
أحدهما : أن يعترف له بدين فيبرئه من بعضه ويستوفي باقيه فلا بأس بذلك لأن الإنسان لا يمنع من إسقاط حقه ولا من استيفائه قال أحمد Bه : ولو شفع فيه شافع لم يأثم لأن النبي A كلم غرماء جابر فوضعوا عنه الشطر وكلم كعب ابن مالك فوضع عن غريمه الشطر ويجوز للقاضي فعل ذلك لأن النبي A فعله وإن أمكن الغريم الوفاء فامتنع حتى أبرئ من بعضه لم يجز لأنه هضم للحق وأكل مال بالباطل ولو قال الغريم : أبرأتك من بعضه بشرط أن توفيني بقيته أو على أن يوفيني أو لتوفيني باقيه لم يصح لأنه جعل إبراءه عوضا عما أعطاه فيكون معاوضا لبعض حقه ببعض ولا يصح بلفظ الصلح لأن معنى صالحني على المائة بخمسين أي بعني وذلك غير جائز لما ذكرناه ولأنه ربا ولو صالحه عن مائة مؤجلة بخمسين حالة لم يجز لذلك لأن بيع الحلول غير جائز وإن صالحه عن الحالة بأقل منها مؤجلة لم يصح لأن الحال لا يتأجل بالتأجيل وما يسقطه لا مقابل له إلا أن يسقطه اختيارا منه بغير عوض ولو اعترف له بداره فصالحه على أن يسكنه فيها مدة أو يبني عليها غرفة ونحو ذلك لم يصح لأنه لا عوض له .
فصل : .
القسم الثاني : أن يعترف له بعين في يده فيهب له بعضها ويستوفي باقيها فيصح لما ذكرناه في الإبراء إذا فعل هذا اختيارا من غير منع الغريم ووهب له بغير شرط كما ذكرنا في الإبراء .
فصل : .
القسم الثالث : أن يعترف له بعين أو دين فيصالحه على غيره وذلك ثلاثة أضرب : .
أحدهما : أن يعترف له بنقد فيصالحه على نقد فهذا صرف يعتبر له شروطه .
الثاني : أن يعترف له بنقد فيصالحه على عرض أو بعرض فيصالحه على نقد أو عرض فهذا بيع تثبت فيه أحكامه كلها .
الثالث : أن يعترف له بنقد أو عرض فيصالحه على منفعة كسكنى دار أو خدمة فهذا إجارة تثبت فيه أحكامها ولو تلفت العين التي صالح عليها بطل الصلح فإن كان قد قضى بعض المدة بطل فيما بقي بقسطه ولو اعترفت المرأة بدين فصالحته على أن تزوجه نفسها صح وكان صداقا لها ولو اعترفت له بعيب في مبيع فصالحته على نكاحها صح فإن زال العيب رجعت بأرشه لأنه الصداق ولم يسم الخرقي الصلح في الإنكار صلحا .
فصل : .
وإذا اعترف له بشيء لم يجز أن يصالح بأكثر منه من جنسه لأن الزائد لا مقابل له ولو اعترف بقتل خطأ فصالحه بأكثر من الدية من جنسها لم يجز وإن كان من غير جنسها جاز لأنه معاوضة ولو أتلف شيئا قيمته مائة فصالحه على مائة وعشرة لم يجز لذلك وإن صالحه على عرض جاز وإن كثر لأنه بيع ولو أجل العوض الواجب بالإتلاف لم يصر مؤجلا بتأجيله .
فصل : .
وصلح المكاتب والمأذون له من العبيد والصبيان من دين لهم ببعض لا يصح إلا إذا كان لهم به بينة أو أقر لهم به لأنه تبرع وليس لهم التبرع فإن كان على الإنكار صح لأن استيفاءهم للبعض عند العجز عن استيفاء الكل أولى من تركه .
فصل : .
ويصح الصلح عن المجهول الذي لا سبيل إلى معرفته عينا كان أو دينا لما روي عن النبي A أنه قال في رجلين اختصما إليه في مواريث درست : [ استهما وتوخيا الحق وليحلل أحدكما صاحبه ] رواه أبو دواد وسواء كان الجهل من الجانبين كالحقوق الدارسة أو ممن عليه الحق الحاجة تدعو إليه فأما ما يمكن معرفته فلا يجوز قال أحمد : إن صالحوا امرأة من ثمنها لم يصح ولو قال الوارث لبعضهم : نخرجك عن الميراث بألف أكره ذلك حتى يعرفه ويعلم ما هو ؟ إنما يصالح الرجل عن الشيء لا يعرفه ولا يدري ما هو ؟ أو يكون رجلا يعلم ماله على الآخر والآخر لا يعرفه فيصالحه فأما إذا علم فلم يصالحه إنما يريد أن يهضم حقه ولأن هذا لا حاجة إليه فلم يجز كبيع المجهول