شهادة العدل على شهادة العدل جائزة في كل شيء إلا في الحدود إذا كان الشاهد الأول ميتا أو غائبا وشروط شهادة العدل على العدل .
مسألة : قال : وشهادة العدل على شهادة العدل جائزة في كل شيء إلا في الحدود إذا كان الشاهد الأول ميتا أو غائبا .
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة : .
الفصل الأول : في جوازها والثاني في موضعها والثالث في شرطها أما الأول فإن الشهادة على الشهادة جائزة بإجماع العلماء وبه قال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي قال أبو عبيد : أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال ولأن الحاجة داعية إليها فإنها لو لم تقبل لبطلت الشهادة على الوقف وما يتأخر إثباته عند الحاكم ثم يموت شهوده وفي ذلك ضرر على الناس ومشقة شديدة فوجب أن تقبل كشهادة الأصل .
الفصل الثاني : أنها تقبل في الأموال وما يقصد به المال بإجماع كما ذكر أبو عبيد ولا تقبل في حد وهذا قول النخعي و الشعبي و أبي حنيفة وأصحابه وقال مالك و الشافعي في قول و أبو ثور : تقبل في الحدود وكل حق لآن ذلك يثبت بشهادة الأصل فيثبت بالشهادة على الشهادة كالمال .
ولنا أن الحدود مبنية على الستر والدرء بالشبهات والإسقاط بالرجوع عن الإقرار والشهادة على الشهادة فيها شبهة فإنها يتطرق إليها احتمال الغلط والسهو والكذب في شهود الفرع مع احتمال ذلك في شهود الأصل وهذا احتمال زائد لا يوجد في شهادة الأصل وهو معتبر بدليل أنها لا تقبل مع القدرة على شهود الأصل فوجب أن لا تقبل في ما يندرئ بالشبهات ولأنها إنما تقبل للحاجة ولا حاجة إليها في الحد لأن ستر صاحبه أولى من الشهادة عليه ولأنه لا نص فيها ولا يصح قياسها على الأموال لما بينهما من الفرق في الحاجة والتساهل فيها ولا يصح قياسها على شهادة الأصل لما ذكرنا من الفرق فبطل إثباتها وظاهر كلام أحمد أنها لا تقبل في القصاص أيضا ولا حد القذف لأنه قال إنما تجوز في الحقوق أما الدماء والحد فلا وهذا قول أبي حنيفة .
وقال مالك و الشافعي و أبو ثور : تقبل وهو ظاهر كلام الخرقي لقوله : في كل شيء إلا في الحدود لأنه حق آدمي لا يسقط بالرجوع عن الإقرار به ولا يستحب ستره فأشبه الأموال وذكر أصحابنا هذا رواية عن أحمد لأن ابن منصور نقل أن سفيان قال : شهادة رجل مكان رجل في الطلاق جائزة قال أحمد : ما أحسن ما قال ؟ فجعله أصحابنا رواية في القصاص وليس هذا برواية فإن الطلاق لا يشبه القصاص والمذهب أنها لا تقبل فيه لأنه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهات وتبني على الإسقاط فأشبهت الحدود فأما ما عدا الحدود والقصاص والأموال كالنكاح والطلاق وسائر ما لا يثبت إلا بشاهدين فنص أحمد على قبولها في الطلاق والحقوق فيدل قلى قبولها في جميع هذه الحقوق وهو قول الخرقي .
وقال ابن حامد : لا تقبل في النكاح ونحوه قول أبي بكر فعلى قولهما لا تقبل إلا في المال وما يقصد به المال وهو قول أبي عبيد لأنه حق لا يثبت إلا بشاهدين فأشبه حد القذف ووجه الأول في أنه حق لا يدرأ بالشبهات فيثبت بالشهادة كالمال وبهذا فارق الحدود .
الفصل الثالث : في شروطها : ولها أربعة شروط أحدها : أن تتعذر شهادة الأصل لموت أو غيبة أو مرض أو حبس أو خوف من سلطان أو غيره وبهذا قال مالك و أبو حنيفة و الشافعي وحكي عن أبي يوسف ومحمد جوازها مع القدرة على شهادة الأصل قياسا على الرواية وأخبار الديانات وروي عن الشعبي أنها لا تقبل إلا أن يموت شاهد الأصل لأنهما إذا كانا حيين رجي حضورهما فكانا كالحاضرين وعن احمد مثل هذا إلا أن القاضي تأوله على الموت وما معناه في الغيبة البعيدة ونحوها ويمكن تأويل قول الشعبي على هذا فينزل هذا الخلاف .
ولنا على اشتراط تعذر شهادة الأصل أنه إذا أمكن الحاكم أن يسمع شهادة شاهدي الأصل استغنى عن البحث عن عدالة شاهدي الفرع وكان أحوط للشهادة فإن سماعه منهما معلوم وصدق شاهدي الفرع مظنون والعمل باليقين مع إمكانه أولى من اتباع الظن ولأن شهادة الأصل تثبت نفس الحق وهذه إنما تثبت الشهادة عليه ولأن شهادة الفرع ضعفا لأنه يتطرق إليها احتمالان : احتمال غلط شاهدي الأصل واحتمال غلط شاهدي الفرع فيكون ذلك وهنا فيها ولذلك لم تنتهض لإثبات الحدود والقصاص فينبغي أن لا تثبت إلا عند عدم شاهدي الأصل كسائر الأبدال ولا يصح قياسها على أخبار الديانات لأنه خفف فيها ولهذا لا يعتبر فيها العدد ولا الذكورية ولا الحرية ولا اللفظ والحاجة داعية إليها في حق عموم الناس بخلاف مسألتنا .
ولنا على قبولها عند تعذرها بغير الموت أنه تعذرت شهادة الأصل فتقبل شهادة الفرع كما لو مات شاهد الأصل ويخالف الحاضرين فإن سماع شهادتهما ممكن فلم يجز غير ذلك .
إذا ثبت هذا فذكر القاضي أن الغيبة المشترطة لسماع شهادة الفرع أن يكون شاهد الأصل بموضع لا يمكنه أن يشهد ثم يرجع من يومه وهذا قاله أبو يوسف و أبو حامد من أصحاب الشافعي لأن الشاهد تشق عليه المطالبة بمثل هذا السفر وقد قال الله تعالى { ولا يضار كاتب ولا شهيد } وإذا لم يكلف الحضور تعذر سماع شهادته فاحتيج إلى سماع شهادة الفرع .
وقال أبو الخطاب : تعتبر مسافة القصر وهو قول أبي حنيفة و أبي الطيب الطبري مع اختلافهما في مسافة القصر كل على أصله لأن ما دون ذلك في حكم الحاضر في الترخيص وغيره بخلاف مسافة القصر ويعتبر دوام هذا الشرط إلى الحكم فلو شهد شاهدا الفرع فلم يحكم بشهادتهما حتى حضر شاهدا الأصل وقف الحكم على سماع شهادتهما لأنه قدر على الأصل قبل العمل بالبدل فلم يجز العمل به كالمتيمم يقدر على الماء قبل الصلاة ولأن حضورهما لو وجد قبل أداء شهادة الفرع منع فإذا طرأ قبل الحكم منع منه كالفسق .
الشرط الثاني : أن يتحقق شروط الشهادة من العدالة وغيرها في كل واحد شهود الأصل والفروع على الوجه الذي ذكرناه لأن الحكم ينبني على الشهادتين جميعا فاعتبرت الشروط في كل واحد منهما ولا خلاف في هذا نعلمه فإن عدل شهود الأصل فشهدا بعدالتهما وعلى شهادتهما جاز بغير خلاف نعلمه وإن لم يشهدا بعدالتهما جاز ويتولى الحاكم ذلك فإن علم عدالتهما حكم وإن لم يعرفها بحث عنها وبهذا قال الشافعي .
وقال الثوري و أبو يوسف : إن لم يعدل شاهدا الفرع شاهدي الأصل لم يسمع الحاكم شهادتهما لأن ترك تعديله يرتاب به الحاكم وليس بصحيح لأنه يجوز أن لا يعرفا ذلك فيرجع فيه إلى بحث الحاكم ويجوز أن يعرفا عدالتهما ويتركاها اكتفاء بما يثبت عند الحاكم من عدالتهما ولا بد من استمرار هذه الشروط ووجود العدالة في الجميع إلى انقضاء الحكم لما ذكرنا في شاهد الأصل قبل هذا وإن مات شهود الأصل والفرع لم يمنع الحكم وكذلك لو مات شهود الأصل قبل أداء الفروع وشهادتهم لم يمنع من أدائها والحكم بها لأن موتهم من شرط سماع شهادة الفروع والحكم فلا يجوز جعله مانعا وكذلك إن جنوا لأن جنونهم بمنزلة موتهم .
الشرط الثالث : أن يعينا شاهدي الأصل ويسمياهما وقال ابن جرير : إذا قالا : ذكرين حرين عدلين جاز وإن لم يسميا لأن الغرض معرفة الصفات دون العين وليس بصحيح لجواز أن يكونا عدلين عندهما مجروحين عند غيرهما ولأن المشهود عليه بما أمكنه جرح الشهود فإذا لم يعرف أعيانهما تعذر عليه ذلك .
الشرط الرابع : أن يسترعيه شاهدا الأصل الشهادة فيقول : أشهد على شهادتي أني أشهد أن لفلان على فلان كذا أو أقر عندي بكذا أو سمع شاهدا يسترعي آخر شهادة يشهده عليها فيجوز لهذا السامع أن يشهد بها لحصول الاسترعاء ويحتمل أن لا يجوز له أن يشهد إلا أن يسترعيه بعينه وهو قول أبي حنيفة قال أحمد : لا تكون شهادة إلا أن يشهدك فأما إذا سمعته يتحدث فإنما ذلك حديث وبما ذكرناه قال الشافعي وأصحاب الرأي و أبو عبيد فأما إن سمع شاهدا يشهد عند الحاكم بحق أو سمعه يشهد بحق يعزيه إلى سبب نحو أن يقول : أشهد أن لفلان على فلان ألفا ثمن مبيع فهل يشهد به ؟ قال أبو الخطاب وفيه روايتان .
وذكر القاضي أن له الشهادة به وهو مذهب الشافعي لأنه بالشهادة عند الحاكم ونسبته للحق إلى سببه يزول الاحتمال ويرفع الإشكال فتجوز له الشهادة على شهادته كما لو استرعاه .
والرواية الأخرى : فلا يجوز أن يشهد على شهادته وهو قول أبي حنيفة و أبو عبيد لأن الشهادة على الشهادة فيها معنى النيابة فلا ينوب عنه إلا بإذنه ومن نصر الأول قال : هذا ينقل شهادته ولا ينوب عنه لأنه لا يشهد مثل شهادته وإنما يشهد على شهادته فإما إن قال : اشهد أني أشهد على فلان بكذا فالأشبه أن يجوز أن يشهد على شهادته وهذا قول أبي يوسف لأن معنى ذلك اشهد على شهادتي .
وقال أبو حنيفة : لا يجوز إلا أن يقول : اشهد على شهادتي أني أشهد لأنه إذا قال : اشهد فقد أمره بالشهادة ولم يسترعه وما هذه المواضع لا يجوز أن يشهد فيها على الشهادة فإذا سمعه يقول : أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم لم يجز أن يشهد على شهادته لأنه لم يسترعه الشهادة فيحتمل أن يكون وعده بها وقد ويوصف الوعد بالوجوب مجازا فإن النبي A قال [ العدة دين ] ويحتمل أن يريد بالشهادة العلم فلم يجز لسماعه الشهادة به فإن قيل : فلو سمع رجلا يقول : لفلان علي ألف درهم جاز أن يشهد بذلك فكذا هذا قلنا : الفرق بينهما من وجهين : .
أحدهما : أن الشهادة تحتمل العلم ولا تحتمل الإقرار .
الثاني : أن الإقرار أوسع لزومه من الشهادة بدليل صحته في المجهول وأنه لا يراعي فيه العدد بخلاف الشهادة ولأن الإقرار قول الإنسان على نفسه وهو غير متهم عليها فيكون أقوى منها ولهذا لا تسمع الشهادة في حق المقر ولا يحكم بها ولو قال شاهد الأصل : أنا أشهد أن لفلان على فلان ألفا فاشهد به أنت عليه لم يجز أن يشهد على شهادته لأنه ما استرعاه شهادته فيشهد عليها ولا هو شاهد بالحق لأنه ما سمع الاعتراف به ممن هو عليه ولا شاهد سببه