حكم الحداء والشعر .
فصل : وأما الحداء وهو الإنشاد الذي تساق به الإبل فمباح لا بأس به في فعله واستماعه : لما [ روي عن عائشة Bها قالت : كنا مع رسول الله A في سفره وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال وكان أنجشة مع النساء فقال النبي A لابن رواحة : حرك القوم فاندفع يرتجز فتبعه أنجشة فأعنقت الإبل فقال النبي A لأنجشة رويدك رفقا بالقوارير ] يعني النساء وكذلك نشيد الأعراب وهو النصب لا بأس به وسائر أنواع الإنشاد ما لم يخرج إلى حد الغناء وقد كان النبي A يسمع إنشاد الشعر فلا ينكره والغناء من الصوت ممدود مكسور والغنى من المال مقصور والحداء مضموم ممدود كالدعاء و الرعاء ويجوز الكسر كالنداء والهجاء والغذاء .
فصل : والشعر كالكلام حسنه كحسنه وقبحه كقبحه : وقد روي عن النبي A أنه قال [ إن من الشعر لحكما ] وكان يضع لحسان منبرا يقوم عليه فيهجو من هجا الرسول A والمسلمين وأنشده كعب بن زهير في قصيدة بانت سعاد فقلبي اليوم متبول في المسجد وقال له عمه العباس : يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك فقال : قل لا يفضض الله فاك فأنشده : .
( من قبلها طبت في الظلال ... وفي مستودع حيث يخصف الورق ) .
وقال عمرو بن الشريد [ أردفني رسول الله A فقال : أمعك من شعر بني أمية ؟ قلت : نعم فأنشدته بيتا فقال : هيه فأنشدته بيتا فقال : هيه حتى أنشدته مائة قافية ] و [ قال النبي A يوم حنين : .
( أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب ) ] .
وقد اختلف في هذا فقيل : ليس شعرا وإنما كلام موزون وقيل : بل هو شعر ولكنه بيت واحد قصير فهو كالنثر ويروي أبا الدرداء قيل له : ما من أهل بيت في الأنصار إلا وقد قال الشعر قال : وأنا قد قلت : .
( يريد المرء أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا ) .
( يقول المرء فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا ) .
وليس في إباحة الشعر خلاف وقد قال الصحابة والعلماء والحاجة تدعو إليه لمعرفة اللغة والعربية والاستشهاد به في التفسير وتعرف معاني كلام الله تعالى وكلام رسوله A ويستدل به أيضا على النسب والتاريخ وأيام العرب ويقال : الشعر ديوان العرب فإن قيل : فقد قال الله تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون } وقال النبي A [ لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا ] رواه أبو داود و أبو عبيد وقال معنى يريه : يأكل جوفه يقال : ورواه يريه قال الشاعر : .
( وراهن ربي مثل ما قد ورينني ... وأحمى على أكبادهن المكاويا ) .
قلنا : أما الآية فالمراد بها من أسرف وكذب وبدليل وصفه لهم بقوله : { ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون } ثم استثنى المؤمنين فقال : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا } ولأن الغالب على الشعراء قلة الدين والكذب وقذف المحصنات وهجاء الأبرياء سيما من كان في ابتداء الإسلام ممن يهجو المسلمين ويهجو النبي A ويعيب على الإسلام ويمدح الكفار فوقع الذم على الأغلب واستثنى منهم من لا يفعل الخصال المذمومة فالآية دليل على إباحته ومدح أهله المتصفين بالصفات الجميلة .
وأما الخبر فقال أبو عبيد : معناه أن يغلب عليه الشعر حتى يشغله عن القرآن والفقه وقيل : المراد به ما كان كالهجاء وفحشا فما كان الشعر يتضمن هجوه المسلمين والقدح في أعراضهم أو التشبيب بامرأة بعينها والإفراط في وصفها فذكر أصحابنا أنه محرم وهذا إن أريد به أنه محرم على قائلة فهو صحيح وأما على راوية فلا يصح فإن المغازي تروى فيها قصائد الكفار الذين هاجوا بها أصحاب رسول الله A لا ينكر ذلك أحد .
وقد روي أن النبي A أذن في الشعر الذي تقاولت به الشعراء في يوم بدر وأحد وغيرهما إلا قصيدة أمية بن أبي الصلت الحائية وكذلك يروى شعر قيس بن الحطيم في التشبيب بعمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة وأم النعمان بن بشير .
وقد سمع النبي A قصيدة كعب بن زهير وفيها التشبيب بسعاد ولم يزل الناس يرون أمثال هذا ولا ينكر وروينا أن النعمان بن بشير دخل مجلسا فيه رجل يغنيهم بقصيدة قيس بن الحطيم فلما دخل النعمان سكتوه من قبل أن فيها ذكر أمه فقال النعمان : دعوه فإنه لم يقل بأسا إنما قال : .
( وعمرة من سروات النساء ... تنفح بالمسك أردانها ) .
وكان عمران بن طلحة في مجلس فغناهم رجل بشعر فيه ذكر أمه فسكتوه من أجله فقال : دعوه فإن قائل هذا الشعر كان زوجها .
فأما الشاعر فمتى كان يهجو المسلمين أو يمدح بالكذب أو يقذف مسلما أو مسلمة فإن شهادته ترد وسواء قذف المسلمة بنفسه أو بغيره وقد قيل : أعظم الناس ذنبا رجل يهاجي رجلا فيهجو القبيلة بأسرها وقد روينا أن أبا دلامة شهد عند قاض أظنه ابن أبي ليلى فخاف أن يرد شهادته فقال : .
( إن الناس غطوني تغطيت عنهم ... وإن يحثوا عني ففيهم مباحث ) .
فقال القاضي : ومن يبحثك يا أبا دلامة وغرم المال من عنده ولم يظهر أنه رد شهادته