مسألة في إرسال الكلب المعلم وشروط إرسال الجارح .
الأصل في إباحة الصيد الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } وقال سبحانه : { وإذا حللتم فاصطادوا } وقال سبحانه : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } وأما السنة [ فروى أبو ثعلبة الخشني قال أتيت رسول الله A فقلت يا رسول الله أنا بأرض صيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلم فأخبرني ماذا يصلح لي ؟ قال : أما ما ذكرت أنكم بأرض صيد فما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل ] [ وعن عدي بن حاتم قال : قلت يا رسول الله أنا نرسل الكلب المعلم فيمسك علينا قال : كل قلت وإن قتل ؟ قال : كل ما لم يشرك كلب غيره قال : وسئل رسول الله عن صيد المعراض فقال : ما خرق فكل وما قتل بعرضه فلا تأكل ] متفق عليهما وأجمع أهل العلم على إباحة الإصطياد والأكل من الصيد .
مسألة : قال : وإذا سمى وأرسل كلبه أو فهده المعلم واصطاد وقتل ولم يأكل منه جاز أكله .
أما ما أدرك ذكاته من الصيد فلا يشترط في إباحته سوى صحة التذكية ولذلك [ قال عليه السلام : وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل ] وأما ما قتل الجارح فيشترط في إباحته شروط سبعة .
أحدهما : أن يكون الصائد من أهل الذكاة فإن كان وثنيا أو مرتدا أو مجوسيا أو من غير المسلمين وأهل الكتاب أو مجنونا لم يبح صيده لأن الإصطياد أقيم مقام الذكاة والجارح آلة كالسكين وعقره للحيوان بمنزلة افراء الأوداج [ قال النبي A : فإن أخذ الكلب ذكاته ] والصائد بمنزلة المذكي فتشترط الأهلية فيه .
الشرط الثاني : أن يسمي عند إرسال الجارح فإن ترك التسمية عمدا أو سهوا لم يبح هذا تحقيق المذهب وهو قول الشعبي و أبي ثور و داود ونقل حنبل عن أحمد إن نسي التسمية على الذبيحة والكلب أبيح قال الخلال : سها حنبل في نقله فإن في أول مسألته إذا نسي وقتل لم يأكل وممن اباح متروك التسمية في النسيان دون العمد أبو حنيفة و مالك ل [ قول النبي A : عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ] ولأن إرسال الجارحة جرى مجرى التذكية فعفي عن النسيان فيه كالذكاة وعن أحمد أن التسمية تشترط على إرسال الكلب في العمد والنسيان ولا يلزم ذلك في إرسال السهم إليه حقيقة وليس له اختيار فهو بمنزلة السكين بخلاف الحيوان فإنه يفعل بإختياره وقال الشافعي : يباح متروك التسمية عمدا أو سهوا ل [ أن البراء روى أن النبي A قال : المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم ] [ وعن أبي هريرة Bه أن النبي A سئل فقيل أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله فقال اسم الله في قلب كل مسلم ] وعن أحمد رواية أخرى مثل هذا .
ولنا قوله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } وقال : { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } وقال النبي A : [ إذا أرسلت كلبك وسميت فكل قلت أرسل كلبي فأخذ معه كلبا آخر ؟ قال : لا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر ] متفق عليه وفي لفظ [ وإذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل ] وفي حديث أبي ثعلبة : [ وما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل ] وهذه نصوص صحيحة لا يعرج على ما خالفها وقوله : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ] يقتضي نفي الإثم لا جعل الشرط المعدوم كالموجود بدليل على ما لو نسي شرط الصلاة والفرق بين الصيد والذبيحة أن الذبح وقع في محله فجاز أن يتسامح فيه بخلاف الصيد فأما أحاديث أصحاب الشافعي فلم يذكرها أصحاب السنن المشهورة وإن صحت فهي في الذبيحة ولا يصح قياس الصيد عليها لما ذكرنا مع ما في الصيد من النصوص الخاصة إذا ثبت هذا فالتسمية المعتبرة قوله بسم الله لان إطلاق التسمية ينصرف إلى ذلك وقد ثبت [ أن رسول الله A كان إذا ذبح قال : بسم الله والله أكبر ] وكان ابن عمر يقوله ولا خلاف في أن قوله بسم الله يجزئه وإن قال اللهم اغفر لي لم يكف لأن ذلك طلب حاجة وإن هلل أو سبح أو كبر أو حمد الله تعالى احتمل الأجزاء لأنه ذكر اسم الله تعالى على وجه التعظيم واحتمل المنع لأن إطلاق التسمية لا يتناوله وإن ذكر اسم الله تعالى بغير العربية أجزأه وإن أحسن العربية لأن المقصود ذكر إسم الله وهو يحصل بجميع اللغات بخلاف التكبير في الصلاة فإن المقصود لفظه وتعتبر التسمية عند الإرسال لأنه الفعل الموجود من المرسل فتعتبر التسمية عنده كما تعتبر عند الذبح من الذابح وعند إرسال السهم من الرامي نص أحمد على هذا ولا تشرع الصلاة على النبي A مع التسمية في ذبح ولا صيد وبه قال الليث واختار أبو إسحاق بن شاقلا استحباب ذلك وهو قول الشافعي لقوله عليه السلام : [ من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ] وجاء في تفسير قوله تعالى : { ورفعنا لك ذكرك } لا أذكر إلا ذكرت معي .
ولنا قوله عليه السلام : [ موطنان لا أذكر فيهما : عند الذبيحة والعطاس ] رواه أبو محمد الخلال بإسناده ولأنه إذا ذكر غير الله تعالى أشبه المهل لغير الله .
الشرط الثالث : أن يرسل الجارحة على الصيد فإن استرسلت بنفسها فقتلت لم يبح وبهذا قال ربيعة و مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال عطاء و الأوزاعي يؤكل صيده إذا أخرجه للصيد وقال إسحاق إذا سمى عند انفلاته أبيح صيده وروى بإسناده عن ابن عمر أنه سئل عن الكلاب تنفلت من مرابضها فتصيد الصيد قال اذكر اسم الله وكل وقال إسحاق فهذا الذي اختار إذا لم يتعمد هو إرساله من غير ذكر اسم الله عليه قال الخلال : هذا على معنى قول أبي عبدالله .
ولنا قول النبي A : [ إذا أرسلت كلبك وسميت فكل ] ولأن إرسال الجارحة جعل بمنزلة الذبح ولهذا اعتبرت التسمية معه وإن استرسل بنفسه فسمى صاحبه وزجره فزاد في عدوه أبيح صيده وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعية لا يباح وعن عطاء كالمذهبين .
ولنا أن زجره أثر في عدوه فصار كما لو أرسله وذلك لأن فعل الإنسان متى انضاف إلى فعل غيره فالإعتبار بفعل الإنسان بدليل ما لو صال الكلب على إنسان فأغراه إنسان فالضمان على من أغراه وإن أرسله بغير تسمية ثم سمى وزجره فزاده في عدوه فظاهر كلام احمد أنه يباح فإنه قال إذا أرسل ثم سمى فانزجر أو أرسل وسمى فالمعنى قريب من السواء وظاهر هذا الإباحة لأنه انزجر بتسميتة وزجره فأشبه التي قبلها وقال القاضي لا يباح صيده لأن الحكم يتعلق بالإرسال الأول بخلاف ما إذا استرسل بنفسه فإنه لا يتعلق به حظر ولا إباحة .
الشرط الرابع : أن يكون الجارح معلما ولا خلاف في اعتبار هذا الشرط لأن الله تعالى قال : { وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم } وما تقدم من حديث أبي ثعلبة ويعتبر في تعليمه ثلاثة شروط : إذا أرسله استرسل وإذا زجره أنزجر وإذا أمسك لم يأكل ويتكرر هذا منه مرة بعد أخرى حتى يصير معلما في حكم العرف وأقل ذلك ثلاث قاله القاضي وهو قول أبي يوسف و محمد ولم يقدر أصحاب الشافعي عدد المرات لأن التقدير بالتوقيف ولا توقيف في هذا بل قدره بما يصير به في العرف معلما وحكي عن أبي حنيفة أنه إذا تكرر مرتين صار معلما لأن التكرار يحصل بمرتين وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب يحصل ذلك بمرة ولا يعتبر التكرار لأنه تعلم صنعة فلا يعتبر فيه التكرار كسائر الصنائع .
ولنا أن تركه للأكل يحتمل أن يكون لشبع ويحتمل أنه لتعلم فلا يتميز ذلك إلا بالتكرار وما اعتبر فيه التكرار عتبر ثلاثا كالمسح في الإستجمار وعدد الإقرار والشهود في العدة والغسلات في الوضوء ويفارق الصنائع فإنها لا يتمكن من فعلها إلا من تعلمها فإذا فعلها علم أنه قد تعلمها وعرفها وترك الأكل ممكن الوجود من المتعلم وغيره ويوجد من الصنفين جميعا فلا يتميز به إحداهما من الآخر حتى يتكرر وحكي عن ربيعة و مالك أنه لا يعتبر ترك الأكل ما روي أبو ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله A : [ إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل ] ذكره الإمام أحمد ورواه أبو داود .
ولنا أن العادة في المعلم ترك الأكل فاعتبر شرطا كالإنزجار إذا زجر وحديث أبي ثعلبة معارض بما [ روي عن عدي بن حاتم أن رسول الله A قال : فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ] وهذا أولى بالتقديم لأنه متفقه عليه ولأنه متضمن للزيادة وهو ذكر الحكم معللا ثم أن حديث أبي ثعلبة محمول على جارحه ثبت تعليمها لقوله : [ إذا أرسلت كلبك المعلم ] ولا يثبت التعليم حتى يترك الأكل إذا ثبت هذا فإن الإنزجار بالزجر إنما يعتبر بإرساله على الصيد أو رؤيته أما بعد ذلك فإنه لا ينزجر بحال .
الشرط الخامس : أن لا يأكل من الصيد فإن أكل منه لم يبح في أصح الروايتين ويروى ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وبه قال عطاء و طاوس و عبيد بن عمير و الشعبي و النخعي و سويد بن غفلة و أبو بردة و سعيد بن جبير و عكرمة و الضحاك و قتادة و إسحاق و أبو حنيفة و أصحابه و أبو ثور والرواية الثانية : يباح وروي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وسلمان وأبي هريرة وابن عمر حكاه عنهم الإمام أحمد وبه قال مالك و لـ لشافعي قولان كالمذهبين واحتج من أباحه بعموم قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } وحديث أبي ثعلبة ولأنه صيد جارح معلم فأبيح كما لو لم يأكل فإن الأكل يحتمل أن يكون لفرط جوع أو غيظ على الصيد .
ولنا قول النبي A في حديث عدي بن حاتم : [ إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل مما أمسك عليك قلت وإن قتل قال : وإن قتل إلا أن يأكل الكلب فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ] متفق عليه ولأن ما كان شرطا في الصيد الأول كان شرطا في سائر صيوده كالإرسال والتعليم وأما الآية فلا تتناول هذا الصيد فإنه قال : { فكلوا مما أمسكن عليكم } وهذا إنما أمسك على نفسه وأما حديث أبي ثعلبة فقد قال أحمد يختلفون عن هشيم فيه وعلى أن حديثنا أصح لأنه متفق عليه وعدي بن حاتم أضبط ولفظه أبين لأنه ذكر الحكم والعلة قال أحمد حديث الشعبي عن عدي من أصح ما روي عن النبي A و الشعبي يقول : كان جاري وربيطي فحدثني والعمل عليه ويحتمل أنه أكل منه بعد أن قتله وانصرف عنه وإذا ثبت هذا فإنه لا يحرم ما تقدم من صيوده في قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة يحرم لأنه لو كان معلما ما أكل .
ولنا عموم الآية والأخبار وإنما خص منه ما أكل منه ففيما عداه يجب القضاء بالعموم ولأن إجتماع شروط التعليم حاصلة فوجب الحكم به ولهذا حكمنا بحل صيده فإذا وجد الأكل احتمل أن يكون لنسيان أو لفرط جوعه أو نسي التعليم فلا يترك ما يثبت يقينا بالإحتمال