فصل : حكم ما إذا اجتمعت الحدود .
فصل : إذا اجتمعت الحدود لم تخل من ثلاثة أقسام : اقسام الأول : أن تكون خالصة لله تعالى فهي نوعان : .
أحدهما : أن يكون فيها قتل مثل أن يسرق ويزني وهو محصن ويشرب الخمر ويقتل في المحاربة فهذا يقتل ويسقط سائرها وهذا قول ابن مسعود و عطاء و الشعبي و النخعي و الأوزاعي و حماد و مالك و أبي حنيفة وقال الشافعي : يستوفى جميعها لأن ما وجب مع غير القتل وجب مع القتل كقطع اليد قصاصا .
ولنا قول ابن مسعود قال سعيد : حدثنا حسان بن علي حدثنا مجالد عن عامر عن مسروق عن عبد الله قال : إذا اجتمع حدان أحدهما القتل أحاط القتل بذلك وقال ابراهيم : يكفيه القتل .
وقال : حدثنا هشيم أخبرنا حجاج عن ابراهيم و الشعبي و عطاء أنهم قالوا مثل ذلك وهذه أقوال انتشرت في عصر الصحابة والتابعين ولم يظهر لها مخالف فكانت إجماعا ولأنها حدود لله تعالى فيها قتل فسقط ما دونه كالمحارب إذا قتل وأخذ المال فانه يكتفى بقتله ولا يقطع ولأن هذه الحدود تراد لمجرد الزجر ومع القتل لا حاجة إلى زجره ولا فائدة فيه فلا يشرع ويفارق القصاص فان فيه غرض التشفي والانتقام ولا يقصد منه مجرد الزجر إذا ثبت هذا فإنه إذا وجد ما يوجب الرجم والقتل للمحاربة أو القتل للردة أو لترك الصلاة فينبغي أن يقتل للمحاربة ويسقط الرجم لأن في القتل للمحاربة حق آدمي في القصاص وإنما أثرت المحاربة في تحريمه وحق الآدمي يجب تقديمه .
النوع الثاني : أن لا يكون فيها قتل فإن جميعها يستوفى من غير خلاف نعلمه ويبدأ بالأخف فالأخف فإذا شرب وزنى وسرق حد للشرب أولا ثم حد للزنا ثم قطع للسرقة وإن أخذ المال في المحاربة قطع لذلك ويدخل في القطع للسرقة ولأن محل القطعين واحد فتداخلا كالقتلين وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يتخير بين البداءة بحد الزنا وقطع السرقة لأن كل واحد منهما ثبت بنص القرآن ثم يحد للشرب .
ولنا أن حد الشرب أخف فيقدم كحد القذف ولا نسلم أن حد الشرب غير منصوص عليه في السنة ومجمع على وجوبه وهذا التقديم على سبيل الاستحباب ولو بدأ بغيره جاز ووقع الموقع ولا يوالى بين هذه الحدود لأنه ربما أفضى إلى تلفه بل متى برأ من حد أقيم الذي يليه .
القسم الثاني : الحدود الخالصة للآدمي وهو القصاص وحد القذف فهذه تستوفى كلها ويبدأ بأخفها فيحد للقذف ثم يقطع ثم يقتل لأنها حقوق للآدميين أمكن استيفاؤها فوجب كسائر حقوقهم وهذا قول الأوزاعي و الشافعي وقال أبو حنيفة : يدخل ما دون القتل فيه احتجاجا بقول ابن مسعود وقياسا على الحدود الخالصة لله تعالى .
ولنا أن ما دون القتل حق لآدمي فلم يسقط به كذنوبهم وفارق حق الله تعالى فانه مبني على المسامحة .
القسم الثالث : أن تجتمع حدود الله وحدود الآدميين وهذه ثلاثة أنواع : أحدهما : أن لا يكون فيها قتل فهذه تستوفى كلها وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وعن مالك أن حدي الشرب والقذف يتداخلان لاستوائهما فهما كالقتلين والقطعين .
ولنا أنهما حدان من جنسين لا يفوت بهما المحل فلم يتداخلا كحد الزنا والشرب ولا نسلم استواءهما فان حد الشرب أربعون وحد القذف ثمانون وإن سلم استواؤهما لم يلزم تداخلهما لأن ذلك لو اقتضى تداخلهما لوجب دخولهما في حد الزنا لأن الأقل مما يتداخل يدخل في الاكثر وفارق القتلين والقطعين لأن المحل يفوت بالأول فيتعذر استيفاء الثاني وهذا بخلافه فعلى هذا يبدأ بحد القذف لأنه اجتمع فيه معنيان : خفته وكونه حقا لآدمي شحيح إلا إذا قلنا حد الشرب أربعون فإنه يبدأ به لخفته ثم بحد القذف وأيهما قدم فالآخر يليه ثم بحد الزنا فإنه لا اتلاف فيه ثم بالقطع هكذا ذكره القاضي وقال أبو الخطاب : يبدأ بالقطع قصاصا لأنه حق آدمي متمحض فإذا برأ حد للقذف إذا قلنا هو حق آدمي ثم بحد الشرب فإذا برأ حد للزنا لأن حق الآدمي يجب تقديمه لتأكده .
النوع الثاني : أن تجتمع حدود لله تعالى وحدود لآدمي وفيها قتل فان حدود الله تعالى تدخل في القتل سواء كان من حدود الله تعالى كالرجم في الزنا والقتل للمحاربة أو الردة أو لحق آدمي كالقصاص لما قدمناه وأما حقوق الآدمي فتستوفى كلها ثم إن كان القتل حقا لله تعالى استوفيت الحقوق كلها متوالية لأنه لا بد من فوات نفسه فلا فائدة في التأخير وإن كان القتل حقا لآدمي انتظر باستيفائه الثاني برأه من الاول لوجهين : أحدهما أن الموالاة بينهما يحتمل أن تفوت نفسه قبل القصاص فيفوت حق الآدمي والثاني أن العفو جائز فتأخيره يحتمل أن يعفو الولي فيحيا بخلاف القتل حقا لله سبحانه .
النوع الثالث : أن يتفق الحقان في محل واحد ويكون تفويتا كالقتل والقطع قصاصا وحدا فان كان فيه ما هو خالص لحق الله تعالى كالرجم في الزنا وما هو حق لآدمي كالقصاص قدم القصاص لتأكد حق الآدمي وإن اجتمع القتل للقتل في المحاربة والقصاص بدىء بأسبقهما لأن القتل في المحاربة فيه حق لآدمي أيضا فيقدم أسبقهما فإن سبق القتل في المحاربة استوفي ووجب لولي المقتول الآخر ديته في مال الجاني وإن سبق القصاص قتل قصاصا ولم يصلب لأن الصلب من تمام الحد وقد سقط الحد بالقصاص فسقط الصلب كما لو مات ويجب لولي المقتول في المحاربة ديته لأن القتل تعذر استيفاؤه وهو قصاص فصار الوجوب الى الدية وهكذا لو مات القاتل في المحاربة وجبت الدية في تركته لتعذر استيفاء القتل من القاتل ولو كان القصاص سابقا فعفى ولي المقتول استوفي للمحاربة سواء عفا مطلقا أو إلى الدية وهذا مذهب الشافعي وأما القطع فاذا اجتمع وجوب القطع في يد أو رجل قصاصا وحدا قدم القصاص على الحد المتمحض لله تعالى لما ذكرناه سواء تقدم سببه أو تأخر وإن عفا ولي الجناية استوفي الحد فاذا قطع يدا وأخذ المال في المحاربة قطعت يده قصاصا وينتظر برؤه فإذا برأ قطعت رجله للمحاربة لأنهما حدان وإنما قدم القصاص في القطع دون القتل لأن القطع في المحاربة حد محض وليس بقصاص والقتل فيها يتضمن القصاص ولهذا لو فات القتل في المحاربة وجبت الدية ولو فات القطع لم يجب له بدل إوإذا ثبت أنه يقدم القصاص على القطع في المحاربة فقطع يده قصاصا فإن رجله تقطع وهل تقطع يده الأخرى ؟ نظرنا فان كان المقطوع بالقصاص قد كان يستحق القطع بالمحاربة قبل الجناية الموجبة للقصاص فيه لم يقطع أكثر من العضو الباقي من العضوين اللذين استحق قطعهما لأن محل القطع ذهب بعارض حادث فلم يجب قطع بدله كما لو ذهبت بعدوان أو بمرض وعلى هذا لو ذهب العضوان جميعا سقط القطع عنه بالكلية وإن كان سبب القطع قصاصا سابقا على محاربته أو كان المقطوع غير العضو الذي وجب قطعه في المحاربة مثل أن وجب عليه القصاص في يساره بعد وجوب قطع يمناه في المحاربة فهل تقطع اليد الأخرى للمحاربة ؟ على وجهين بناء على الروايتين في قطع يسرى السارق بعد قطع يمينه إن قلنا تقطع ثم قطعت ههنا وإلا فلا وإن سرق وأخذ المال في المحاربة قطعت يده اليمنى لأسبقهما فإن كانت المحاربة سابقة قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا وهل تقطع يسرى يديه للسرقة ؟ على الروايتين فإن قلنا تقطع انتظر برؤه من القطع للمحاربة لأنهما حدان وإن كانت السرقة سابقة قطعت يمناه للسرقة ولا تقطع رجله للمحاربة حتى تبرأ يده وهل تقطع يسرى يديه للمحاربة ؟ على وجهين