مسألة وفصول : حكم ما لو ارتد عن الإسلام من الرجال أو النساء وكان بالغا عاقلا وحكم استتابته وقتله إن لم يتب وحكم الزنديق ومن تكررت ردته وأن قتل المرتد إلى الإمام حرا كان أو عبدا .
مسألة : قال : ومن ارتد عن الاسلام من الرجال و النساء وكان بالغا عاقلا دعي إليه ثلاثة أيام وضيق عليه فان رجع وإلا قتل .
الفصل الأول أنه لا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتل روي ذلك عن أبي بكر وعلي بن Bهما وبه قال الحسن و الزهري و النخعي و مكحول و حماد و مالك و الليث و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق .
وروي عن علي و الحسن و قتادة أنها تسترق لا تقتل ولأن أبابكر استرق نساء بني حنيفة وذراريهم وأعطى عليا منهم امرأة فولدت له محمد بن الحنفية وكان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا وقال أبوحنيفة : تجبر على الإسلام بالحبس والضرب ولا تقتل لقول النبي A : [ لا تقتلوا امرأة ] ولأنها لا تقتل بالكفر الأصلي فلا تقتل بالطارىء كالصبي .
ولنا قوله عليه السلام : [ من بدل دينه فاقتلوه ] رواه البخاري و أبو داود وقال النبي A : [ لا يحل دم امرىء مسلم إلا باحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ] متفق عليه وروى الدارقطني [ ان امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام فبلغ أمرها إلى النبي A فأمر أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت ] ولأنها شخص مكلف بدل دين الحق بالباطل فيقتل كالرجل وأما نهي النبي A عن قتل المرأة فالمراد به الأصلية فانه قال ذلك حين رأى امرأة مقتولة وكانت كافرة أصلية ولذلك نهى الذين بعثهم الى ابن أبي حقيق عن قتل النساء ولم يكن فيهم مرتد ويخالف الكفر الأصلي الطارىء بدليل ان الرجل يقر عليه ولا يقتل أهل الصوامع والشيوخ والمكافيف ولا تجبر المرأة على تركه بضرب ولا حبس والكفر الطارىء بخلافه والصبي غير مكلف بخلاف المرأة وأما بنو حنيفة فلم يثبت أن من استرق منهم تقدم له إسلام ولم يكن بنو حنيفة أسلموا كلهم وانما أسلم بعضهم والظاهران أن الذين أسلموا كانوا رجالا فمنهم من ثبت على إسلامه منهم ثمامة بن أثال ومنهم من ارتد منهم الدجال الحنفي .
الفصل الثاني : ان الردة لا تصح إلا من عاقل فاما من لا عقل له كالطفل الذي لا عقل له والمجنون ومن زال عقله باغماء او نوم أو مرض أو شرب دواء يباح شربه فلا تصح ردته ولا حكم لكلامه بغير خلاف قال ابن المنذر : اجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المجنون اذا ارتد في حال جنونه أنه مسلم على ما كان عليه قبل ذلك ولو قتله قاتل عمدا كان عليه القود إذا طلب أولياؤه وقد قال النبي A : [ رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ] أخرجه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن ولأنه غير مكلف فلم يؤاخذ بكلامه كما لو لم يؤاخذ به في اقراره ولا طلاقه ولا اعتاقه وأما السكران والصبي العاقل فنذكر حكمهما فيما بعد ان شاء الله .
الفصل الثالث : أنه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثا هذا قول أكثر أهل العلم منهم عمر وعلي وعطاء و النخعي و مالك و الثوري و الاوزاعي و اسحاق وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي وروي عن أحمد رواية اخرى أنه لا تجب استتابته لكن تستحب وهذا القول الثاني للشافعي وهو قول عبيد بن عمير وطاوس ويروى ذلك عن الحسن لقول النبي A : [ من بدل دينه فاقتلوه ] ولم يذكر استتابته .
وروي أن معاذا قدم على ابي موسى فوجد عنده رجلا موثقا فقال ما هذا ؟ قال : رجل كان يهوديا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود قال : لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله قال : اجلس قال : لا اجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات فأمر به فقتل متفق عليه ولم يذكر استتابته ولانه يقتل لكفره فلم تجب استتابته كالأصلي ولانه لو قتل قبل الاستتابة لم يضمن ولو حرم قتله قبله ضمن وقال عطاء : إن كان مسلما أصليا لم يستتب وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب .
ولنا حديث ام مروان أن النبي A امر ان يستتاب وروى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ابن عبد القارىء عن أبيه انه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى فقال له عمر : هل كان من معربة خبر ؟ قال : نعم رجل كفر بعد اسلامه فقال : ما فعلتم به ؟ قال : قربناه فضربنا عنقه فقال عمر : فهلا حبستموه ثلاثا فاطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر الله ؟ اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم ارض إذا بلغني ولو لم تجب استتابته لما برىء من فعلهم ولانه أمكن استصلاحه فلم يجز اتلافه قبل استصلاحه كالثوب النجس واما الامر بقتله فالمراد به بعد الاستتابة بدليل ما ذكرناه وأما حديث معاذ فانه قد جاء فيه وكان قد استتيب .
ويروى أن أبا موسى استتابه شهرين قبل قدوم معاذ عليه وفي رواية فدعاه عشرين ليلة أو قريبا من ذلك فجاء معاذ فدعاه وأبى فضرب عنقه رواهن أبوداود ولا يلزم من تحريم القتل وجوب الضمان بدليل نساء أهل الحرب وصبيانهم وشيوخهم إذا ثبت وجوب الاستتابة فمدتها ثلاثة أيام روي ذلك عن عمر Bه وبه قال مالك و اسحاق وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر ان تاب في الحال وإلا قتل مكانه وهذا أصح قوليه وهو قول ابن المنذر لحديث أم مروان ومعاذ ولأنه مصر على كفره أشبه بعد الثلاث وقال الزهري : يدعى ثلث مرات فان أبى ضربت عنقه وهذا يشبه قول الشافعي وقال النخعي : يستتاب أبدا وهذا يفضي إلى أن لا يقتل أبدا وهو مخالف للسنة والاجماع وعن علي أنه استتاب رجلا شهرا .
ولنا حديث عمر ولأن الردة انما تكون لشبهة ولا تزول في الحال فوجب أن ينتظر مدة يرتئي فيها وأولى ذلك ثلاثة أيام للأثر فيها وانها مدة قريبة وينبغي أن يضيق عليه في مدة الاستتابة ويحبس لقول عمر : هلا حسبتموه وأطعمتموه كل يوم رغيفا ؟ ويكرر دعايته لعله يتعطف قلبه فيراجع دينه .
الفصل الرابع : أنه إن لم يتب قتل لما قدمناه ذكره وهو قول عامة الفقهاء ويقتل بالسيف لأنه آلة القتل ولا يحرق بالنار وقد روي عن أبي بكر الصديق Bه أنه أمر بتحريق المرتدين وفعل ذلك بهم خالد والأول أولى لقول النبي A : [ من بدل دينه فاقتلوه ولا تعذبوا بعذاب الله ] يعني النار أخرجه البخاري و ابو داود وقال النبي A : [ ان الله كتب الاحسان على كل شيء فاذا قتلتم فأحسنوا القتلة ] .
الفصل الخامس : ان مفهوم كلام الخرقي أنه إذا تاب قبلت توبته ولم يقتل أي كفر كامل وسواء كان زنديقا يستسر بالكفر أو لم يكن وهذا مذهب الشافعي و العنبري ويروى ذلك عن علي وابن مسعود وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار أبي بكر الخلال وقال انه أولى على مذهب عبد الله .
والرواية الاخرى : لا تقبل توبة الزنديق ومن تكررت ردته وهو قول مالك و الليث و اسحاق وعن أبي حنيفة روايتبن كهاتين واخبار أبي بكر أنه لا تقبل توبة الزنديق لقول الله تعالى : { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا } والزنديق لا تظهر منه علامة تبين رجوعه وتوبته لأنه كان مظهرا للاسلام مسرا للكفر فاذا وقف على ذلك فاظهر التوبة لم يزد على ما كان منه قبلها وهو إظهار الاسلام وأما من تكررت ردته فقد قال الله تعالى : { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا } وروى الأثرم باسناده عن ظبيان بن عمارة أن رجلا من بني سعد مر على مسجد بني حنيفة فاذا هم يقرأون برجز مسيلمة فرجع الى ابن مسعود فذكر ذلك له فبعث اليهم فأتي بهم فاستتابهم فتابوا فخلى سبيلهم إلا رجل منهم يقال له ابن النواحة قال : قد أتيت بك مرة فزعمت أنك قد تبت وأراك قد عدت فقتله ووجه الرواية الأولى قول الله تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } .
وروي [ أن رجلا سار رسول الله A ما ساره به حتى جهر رسول الله A فاذا هو يستأذنه في قتل رجل من المسلمين فقال رسول الله A : أليس يشهد أن إله إلا الله ؟ قال : بلى ولا شهادة له قال : أليس يصلي ؟ قال : بلى ولا صلاة له فقال رسول الله A : أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم وقد قال الله تعالى { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا * إلا الذين تابوا } ] .
وروي أن محش بن حمير كان في النفر الذين أنزل الله فيهم { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } فأتى النبي A وتاب إلى الله تعالى فقبل الله توبته وهو الطائفة التي عنى الله تعالى بقوله : { إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } فهو الذي عفا الله عنه وسأل الله تعالى أن يقتل في سبيله ولا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة ولم يعلم موضعه ولأن النبي A كف عن المنافقين بما أظهروا من الشهادة مع إخبار الله تعالى له بباطنهم بقوله تعالى : { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون } وغيرها من الآيات وحديث ابن مسعود حجة في قبول توبتهم مع استسرارهم بكفرهم وأما قتله ابن النواحة فيحتمل أنه قتله لظهور كذبه في توبته لأنه أظهرها وتبين أنه ما زال عما كان عليه من كفره ويحتمل أنه قتله لقول النبي A له حين جاء رسولا لمسيلمة : [ لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك ] فقتله تحقيقا لقول رسول الله A فقد روي أنه قتله لذلك .
وفي الجملة فالخلاف بين الأئمة في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا من ترك قتلهم وثبوت أحكام الإسلام في حقهم وأما قبول الله تعالى لها في الباطن وغفرانه لمن تابت واقلع ظاهرا أم باطيا فلا خلاف فيه فان الله تعالى قال في المنافقين : { إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما } .
فصل : وقتل المرتد إلى الامام حرا كان أو عبدا وهذا قول عامة أهل العلم إلا الشافعي في أحد الوجهين في العبد فان لسيده قتله لقول النبي A : [ أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ] ولأن حفصة قتلت جارية سحرتها ولأنه حق الله تعالى فملك السيد اقامته على عبده كجلد الزاني ولنا انه قتل لحق الله تعالى فكان الى الامام كرجم الزاني وكقتل الحر وأما قوله [ وأقيموا الحدود ] فلا يتناول القتل للردة فانه قتل لكفره لاحدا في حقه وأما خبر حفصة فان عثمان تغيظ عليها وشق ذلك عليه وأما الجلد في الزنا فانه تأديب وللسيد تأديب عبده بخلاف القتل فإن قتله غير الامام أساء ولا ضمان عليه لأنه محل غير معصوم وسواء قتله قبل الاستتابة أو بعدها لذلك وعلى من فعل ذلك التعزيز لإساءته وافتياته