مسألة وفصول : الكفارة الواجبة في القتل وأحكامها .
مسألة : قال : ومن قتل نفسا محرمة أو شارك فيها أو ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا وكان الفعل خطأ فعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة فان لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وعن أبي عبد الله C رواية أخرى أن على قاتل العمد تحرير رقبة مؤمنة .
الأصل في كفارة القتل قوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } الآية وأجمع أهل العلم على أن القاتل خطأ كفارة سواء كان المقتول ذكرا أو انثى وتجب في قتل الصغير والكبير سواء باشره بالقتل أو تسبب إلى قتله بسبب يضمن به النفس كحفر البئر ونصب السكين وشهادة الزور وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة لا تجب بالتسبب لانه ليس بقتل ولانه ضمن بدله بغير مباشرة للقتل فلم تلزمه الكفارة كالعاقلة .
ولنا انه كالمباشرة في الضمان فكان كالمباشرة في الكفارة ولأنه سبب لاتلاف الآدمي يتعلق به ضمانه فتعلقت به الكفارة كما لو كان راكبا فأوطأ دابته انسانا وقياسهم ينتقض بالاب إذا أكره انسانا على قتل ابنه فان الكفارة تجب غير مباشرة وفارق العاقلة فإنها تتحمل عن غيرها ولم يصدر منها قتل ولا تسبب اليه وقولهم ليس بقتل ممنوع قال القاضي : ويلزم الشهود الكفارة سواء قالوا أخطأنا أو تعمدنا وهذا يدل على أن القتل بالسبب تجب به الكفارة بكل حال ولا يعتبر فيه الخطأ والعمد لانه إن قصد به القتل فهو جار مجرى الخطأ في أنه لا يجب به القصاص .
فصل : وتجب الكفارة بقتل العبد وبه قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : لا تجب به لانه مضمون بالقيمة أشبه البهيمة ولنا عموم قوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } لأنه يجب القصاص بقتله فتجب الكفارة به كالحر ولأنه مؤمن فاشبه الحر ويفارق البهلئم بذلك .
فصل : وتجب بقتل الكافر المضمون سواء كان ذميا أو مستأمنا وبهذا قال أكثر أهل العلم وقال الحسن و مالك : لا كفارة فيه لقوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } فمفهومه ان لا كفارة في غير المؤمن ولنا قوله تعالى : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } والذمي له ميثاق وهذا منطوق يقدم على دليل الخطاب ولانه آدمي مقتول ظلما فوجبت الكفارة بقتله كالمسلم .
فصل : وإذا قتل الصبي والمجنون ووجبت الكفارة في أموالهما وكذلك الكافر وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا كفارة على واحد منهم لانها عبادة محضة تجب بالشرع فلا تجب على الصبي والمجنون الكافر كالصلاة والصيام .
ولنا حق مالي يتعلق بالقتل فتعلقت بهم كالدية وتفارق الصوم والصلاة لانهما عبادتان بدنيتان وهذه مالية أشبهت نفقات الاقارب وأما كفارة اليمين فلا تجب على الصبي والمجنون لانها تتعلق بالقول ولا قول لهما وهذه تتعلق بالقعل وفعلهما متحقق قد أوجب الضمان عليهما ويتعلق بالقعل ما لا يتعلق بالقول بدليل أن العتق يتعلق بإحبالهما دون اعتاقهما بقولهما وأما الكافر فتجب عليه وتكون عقوبة عليه كالحدود .
فصل : ومن قتل في دار الحرب مسلما يعتقده كافرا أو رمى الى صف الكفار فأصاب فيهم مسلما فقتله فعليه كفارة لقوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } .
فصل : ومفهوم كلام الخرقي ان كل قتل مباح لا كفارة فيه كقتل الحربي والباغي والزاني المحصن والقتل قصاصا أو حدا لانه قتل مأمور به والكفارة لا تجب لمحو المأمور به وأما الخطأ فلا يوصف بتحريم ولا إباحة لانه كفعل المجنون والبهيمة لكن النفس الذاهبة به معصومة محرمة محترمة فلذلك وجبت الكفارة فيها وقال قوم : الخطأ محرم ولا إثم فيه وقيل : ليس بمحرم لان المحرم ما اثم فاعله وهذا لا إثم فيه وقوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } هذا استثناء منقطع وإلا في موضع لكن : التقدير لكن قد يقتله خطأ وقيل إلا بمعنى ولا أي ولا خطأ وهذا يبعد لأن الخطأ لا يتوجه اليه النهي لعدم إمكان التحريم منه وكونه لا يدخل تحت الوسع ولأنها لو كانت بمعنى ولا كانت عاطفة للخطأ على ما قبله وليس قبله ما يصلح عطفه عليه .
وأما قتل نساء اهل الحرب وصبيانهم فلا كفارة فيه لأنه ليس لهم ايمان ولا أمان وانما منع من قتلهم لانتفاع المسلمين بهم لكونهم يصيرون بالسبي رقيقا ينتفع بهم وكذلك قتل من لم تبلغه الدعوة لا كفارة فيه لذلك ولذلك لم يضمنوا بشيء فاشبهوا من قتله مباح .
فصل : ومن قتل نفسه خطأ وجبت الكفارة في ماله وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا تجب لان ضمان نفسه لا يجب فلم تجب الكفارة كقتل نساء اهل الحرب وصبيانهم .
ولنا عموم قوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } ولانه آدمي مؤمن مقتول خطأ فوجبت الكفارة على قاتله كما لو قتله غيره والأول أقرب الى الصواب ان شاء الله فان عامر بن الاكوع قتل نفسه خطأ ولم يأمر النبي A فيه بكفارة وقوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ } انما اريد بها اذا قتل غيره بدليل قوله : { ودية مسلمة إلى أهله } وقاتل نفسه لا تجب فيه دية بدليل قتل عامر بن الأكوع .
فصل : ومن شارك في قتل يوجب الكفارة لزمته كفارة ويلزم كل واحد من شركائه كفارة وهذا قول اكثر أهل العلم منهم الحسن و عكرمة و النخعي و الحارث العكلي و الثوري و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية اخرى ان على الجميع كفارة واحدة وهو قول أبي ثور وحكي عن الاوزاعي وحكاه أبو علي الطبري عن الشافعي وانكره سائر اصحابه واحتج لمن اوجب كفارة واحدة بقوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } ومن يتناول الواحد والجماعة ولم يوجب الا كفارة واحدة ودية والدية لا تتعدد فكذلك الكفارة ولانها كفارة قتل فلم تتعدد بتعدد القاتلين مع اتحاد المقتول ككفارة الصيد الحرمي .
ولنا انها لا تتبعض وهي من موجب قتل الآدمي فكملت في حق كل واحد من المشتركين كالقصاص وتخالف كفارة الصيد فانها تجب بدلا ولهذا تجب في أبعاضه وكذلك الدية .
فصل : اذا ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا فعليه الكفارة وبه قال الحسن و عطاء و الزهري و النخعي و الحكم و حماد و مالك و الشافعي و إسحاق وقال أبو حنيفة : لا تجب وقد مضت هذه المسألة في دية الجنين .
فصل : والمشهور في المذهب أنه لا كفارة في قتل العمد وبه قال الثوري و مالك و أبو الثور و ابن المنذر وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية أخرى تجب فيه الكفارة وحكي ذلك عن الزهري وهو قول الشافعي لما روى واثلة بن الاسقع قال : [ أتينا النبي A بصاحب لنا قد اوجب بالقتل فقال : اعتقوا عنه رقبة يعتق الله تعالى بكل عضو منها عضوا منه من النار ] ولانها إذا وجبت في قتل الخطأ ففي العمد أولى لانه أعظم إثما وأكبر جرما وحاجته الى تكفير ذنبه أعظم .
ولنا مفهوم قوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } ثم ذكر قتل العمد ولم يوجب فيه كفارة وجعل جزاءه جهنم فمفهومه أنه لا كفارة فيه و [ روي أن سويد بن الصامت قتل رجلا فأوجب النبي صلى الله عليه و سلم عليه القود ولم يوجب كفارة ] و [ عمرو بن امية الضمري قتل رجلين في عهد النبي A فوداهما النبي A ولم يوجب كفارة ] ولانه فعل يوجب القتل فلا يوجب كفارة كزنا المحصن وحديث واثلة يحتمل أنه كان خطأ وسماه موجبا أي فوت النفس بالقتل ويحتمل أنه كان شبه عمد ويحتمل أنه أمرهم بالعتاق تبرعا ولذلك أمر غير القاتل بالاعتاق وما ذكروه من المعنى لا يصح لأنها وجبت في الخطأ فتمحو إثمه لكونه لا يخلو من تفريط فلا يلزم من ذلك إيجابها في موضع عظم الاثم فيه بحيث لا يرتفع بها إذا ثبت هذا فلا فرق بين العمد الموجب للقصاص وما لا قصاص فيه كقتل الوالد ولده والسيد عبده والحر العبد والمسلم الكافر لان هذا من أنواع العمد .
فصل : وتجب الكفارة في شبه العمد ولم أعلم لاصحابنا فيه قولا لكن مقتضى الدليل ما ذكرناه ولأنه أجرى مجرى الخطأ في نفي القصاص وحمل العاقلة ديته وتأجيلها في ثلاث سنين فجرى مجراه في وجوب الكفارة ولأن القاتل انما لم يحمل شيئا من الدية لتحمله الكفارة فلو لم تجب عليه الكفارة تحمل من الدية لئلا يخلو القاتل عن وجوب شيء أصلا ولم يرد الشرع بهذا .
فصل : وكفارة القتل عتق رقبة مؤمنة بنص الكتاب سواء كان القاتل أو المقتول مسلما أو كافرا فان لم يجدها في ملكه فاضلة عن حاجته أو يجد ثمنها فاضلا عن كفايته فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وهذا ثابت بالنص أيضا فان لم يستطع ففيه روايتان : .
إحداهما : يثبت الصيام في ذمته ولا يجب شيء آخر لأن الله تعالى لم يذكره ولو وجب لذكره والثاني يجب اطعام ستين مسكينا لانها كفارة فيها عتق وصيام شهرين متتابعين فكان فيها إطعام ستين مسكينا عند عدمها ككفارة الظهار والفطر في رمضان وان لم يكن مذكورا في نص القرآن فقد ذكر ذلك في نظيره فيقاس عليه فعلى هذه الرواية إن عجز عن الاطعام ثبت في ذمته حتى يقدر عليه و للشافعي قولان في هذا كالروايتين والله أعلم