مسألة وفصول دية اللسان المتكلم به .
مسألة : قال : وفي اللسان المتكلم به الدية .
أجمع أهل العلم على وجوب الدية في لسان الناطق وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود Bهم وبه قال أهل المدينة وأهل الكوفة وأصحاب الرأي وأصحاب الحديث وغيرهم وفي كتاب النبي A لعمرو بن حزم : [ وفي اللسان الدية ] ولأن فيه جمالا ومنفعة فأشبه الأنف [ فأما الجمال فقد روي أن النبي A سئل عن الجمال فقال : وفي اللسان ] ويقال : جمال الرجل في لسانه والمرء بأصغريه قلبه ولسانه ويقال : ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة وأما النفع فإن به تبلغ الأغراض وتستخلص الحقوق وتدفع الآفات وتقضى به الحاجات وتتم العبادات في القراءة والذكر والشكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعليم والدلالة على الحق المبين والصراط المستقيم وبه يذوق الطعام ويستعين في مضغه وتقليبه وتنقية الفم وتنظيفه فهو أعظم الأعضاء نفعا وأتمها جمالا فإيجاب الدية في غيره تنبيه على إيجابها فيه وإنما تجب الدية في لسان الناطق فإن كان أخرس لم تجب فيه دية كاملة بغير خلاف لذهاب نفعه المقصود منه كاليد الشلاء والعين القائمة .
فصل : وفي الكلام الدية فإذا جنى عليه فخرس وجبت ديته لأن كل ما تعلقت الدية بإتلافه تعلقت بإتلاف منفعته كاليد فأما إن جنى عليه فأذهب ذوقه فقال أبو الخطاب : فيه الدية لأن الذوق حاسة فأشبه الشم وقياس المذهب أنه لا دية فيه فإنه لا يختلف في أن لسان الأخرس لا تجب فيه الدية وقد نص أحمد C على أن فيه ثلث الدية ولو وجب في الذوق لوجبت في ذهابه مع ذهاب اللسان بطريق الأولى واختلف أصحاب الشافعي فمنهم من قال : قد نص الشافعي على وجوب الدية فيه ومنهم من قال : لا نص له فيه ومنهم من قال : قد نص على أن في لسان الأخرس حكومة وإن ذهب الذوق بذهابه والصحيح إن شاء الله أنه لا دية فيه لأن في إجماعهم على أن لسان الأخرس لا تكمل الدية فيه إجماعا على أنها لا تكمل في ذهاب الذوق بمفرده لأن كل عضو لا تكمل الدية فيه بمنفعته لا تكمل بمنعته دونه كسائر الأعضاء ولا تفريع على هذا القول فأما على الأول فإذا ذهب ذوقه كله ففيه دية كاملة وإن نقص نقصا غير مقدر بأن يحس المذاق كله إلا أنه لا يدركه على الكمال ففيه حكومة كما لو نقص بصره نفصا لا يتقدر وإن كان نقصا يتقدر بأن لا يدرك بأحد المذاق الخمس وهي الحلاة والمرارة والحموضة والملوحة والعذوبة ويدرك بالباقي ففيه خمس الدية وفي اثنتين خمساها وفي ثلاث ثلاثة أخماسها وإن لم يدرك بواحدة ونقص الباقي فعليه خمس الدية وحكومة لنقص الباقي وإن قطع لسان أخرس فذهب ذوقه ففيه الدية لإتلافه الذوق وإن جنى على لسان ناطق فأذهب كلامه وذوقه ففيه ديتان وإن قطعه فذهبا معا ففيه دية واحدة لأنهما يذهبان تبعا لذهابه فوجبت ديته دون ديتهما كما لو قتل إنسانا لم تجب إلا دية واحدة ولو ذهبت منافعه مع بقائه ففي كل منفعة دية .
فصل : وإن ذهب بعض الكلام وجب من الدية بقدر ما ذهب يعتبر ذلك بحروف العجم وهي ثمانية وعشرون حرفا سوى لا فإن مخرجها اللام والألف فهما نقص من الحروف وجب من الدية بقدره لأن الكلام يتم بجميعها فالذاهب يجب أن يكون عوضه من الدية كقدره من الكلام ففي الحرف الواحد ربع سبع الدية وفي الحرفين نصف سبعها وفي الأربعة سبعها ولا فرق بين ما خف من الحروف على اللسان وما ثقل لأن كل ما وجب فيه المقدر لم يختلف لاختلاف قدره كالأصابع ويحتمل أن تقسم الدية على الحروف التي للسان فيها عمل دون الشفة وهي أربعة الباء والميم والفاء والواو دون حروف الحلق الستة الهمزة والهاء والحاء والخاء والعين والغين فهذه عشرة بقي ثمانية عشر حرفا للسان تنقسم ديته عليها لأن الدية تجب بقطع اللسان وذهاب هذه الحروف وحدها مع بقائه فإذا وجبت الدية فيها بمفردها وجب في بعضها بقسطه منها ففي الواحد نصف تسع الدية وفي الاثنين تسعها وفي الثلاثة سدسها وهذا قول بعص أصحاب الشافعي وإن جنى على شفته فذهب بعض الحروف وجب فيه بقدره وكذلك إن ذهب بعض حروف الحلق بجنايته وينبغي أن تجب بقدره من الثمانية والعشرين وجها واحدا وإن ذهب حرف فعجز عن كلمة لم يجب غير أرش الحرف لأن الضمان إنما يجب لما تلف وإن ذهب حرف فأبدل مكانه حرفا آخر كأنه يقول درهم فصار يقول دلهم أو دعهم أو ديهم فعليه ضمان الحرف الذاهب لأن ما تبدل لا يقوم مقام الذاهب في القراءة ولا غيرها فإن جنى عليه فذهب البدل وجبت ديته أيضا لأنه أصل وإن لم يذهب شيء من الكلام لكن حصلت فيه عجلة أو تمتمة أو فأفأة فعليه حكومة لما حصل من النقص والشين ولم تجب الدية لأن المنفعة باقية وإن جنى عليه جان آخر فاذهب كلامه ففيه الدية كاملة كما لو جنى على عينه جان فعمشت ثم جنى عليها آخر فذهب ببصرها وإن أذهب الأول بعض الحروف وأذهب الثاني بقية الكلام فعلى كل واحد منهما بقسطه كما لو ذهب الأول ببصر إحدى إحدى العينين وذهب الآخر ببصر الأخرى وإن كان ألثغ من غير جناية عليه فذهب إنسان بكلامه كله فإن كان مأيوسا من زوال لثغته ففيه بقسط ما ذهب من الحروف وإن كان غير مأيوس من زوالها كالصبي ففيه الدية كاملة لأن الظاهر زوالها وكذلك الكبير إذا أمكن إزالة لثغته بالتعليم .
فصل : إذا قطع بعض لسانه فذهب بعض كلامه فإن استويا مثل أن يقطع ربع لسانه فيذهب ربع كلامه وجب ربع الدية بقدر الذاهب منهما كما لو قلع إحدى عينيه فذهب بصرها وإن ذهب من أحدهما أكثر من الآخر كأن قطع ربع لسانه فذهب نصف كلامه أو قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه وجب بقدر الأكثر وهو نصف الدية في الحالين لأن كل واحد من اللسان والكلام مضمون بالدية منفردا فإذا انفرد نصفه بالذهاب وجب النصف ألا ترى أنه لو ذهب نصف الكلام ولم يذهب من اللسان شيء وجب نصف الدية ولو ذهب نصف اللسان ولم يذهب من الكلام شيء وجب نصف الدية وإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام وجب نصف الدية فإن قطع آخر بقية اللسان فذهبت بقية الكلام ففيه ثلاثة أوجه .
أحدها : عليه نصف الدية هذا قول القاضي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن السالم نصف اللسان وباقيه أشل بدليل ذهاب نصف الكلام والثاني : عليه نصف الدية وحكومة للربع الأشل لأنه لو كان جميعه أشل لكانت فيه جكومة أو ثلث الدية فإذا كان بعضه أشل ففي ذلك البعض حكومة أيضا الثالث : عليه ثلاثة أرباع الدية وهذا الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه قطع ثلاثة أرباع لسانه فذهب ربع كلامه فوجبت عليه ثلاثة أرباع الدية كما لو قطعه أولا ولا يصح القول بأن بعضه أشل لأن العضو متى كان فيه بعض النفع لم يكن بعضه أشل كالعين إذا كان بصرها ضعيفا واليد إذا كان بطشها ناقصا وإن قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه فعليه نصف ديته فإن قطع الآخر بقيته فعليه ثلاثة أرباع الدية وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر عليه نصف الدية لأنه لم يقطع إلا نصف لسانه .
ولنا أنه ذهب ثلاثة أرباع الكلام فلزمه ثلاثة أرباع ديته كما لو ذهب ثلاثة أرباع الكلام بقطع نصف اللسان الأول ولأنه لو أذهب ثلاثة أرباع الكلام مع بقاء اللسان لزمه ثلاثة أرباع الدية فلأن تجب بقطع نصف اللسان في الأول أولى ولو لم يقطع الثاني نصف اللسان لكن جنى عليه جناية أذهب بقية كلامه مع بقاء لسانه لكان عليه ثلاثة أرباع ديته لأنه ذهب بثلاثة أرباع ما فيه الدية فكان عليه ثلاثة أرباع الدية كما لو جنى على صحيح فذهب ثلاثة أرباع كلاه مع بقاء لسانه .
فصل : وإذا قطع بعض لسانه عمدا فاقتص المجني عليه من مثل ما جنى عليه به فذهب من كلام الجاني مثل ما ذهب من كلام المجني عليه وأكثر فقد استوفى حقه ولا شيء في الزائد لأنه من سراية القود وسراية القود غير مضمونة وإن ذهب أقل فللمقتص دية ما بقي لأنه لم يستوف بدله .
فصل : وإذا قطع لسان صغير لم يتكلم لطفوليته وجبت ديته وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا تجب لأنه لسان لا كلام فيه فلم تجب فيه دية كلسان الأخرس .
ولنا أن ظاهره السلامة وإنما لم يتكلم لأنه لا يحسن الكلام فوجبت به الدية كالكبير ويخالف الأخرس فإنه علم أنه أشل ألا ترى أن أعضاءه لا يبطش بها وتجب فيها الدية ؟ وإن بلغ حدا يتكلم مثله فلم يتكلم فقطع لسانه لم تجب فيه الدية لأن الظاهر أنه لا يقدر على الكلام ويجب فيه ما يجب في لسان الأخرس وإن كبر فنطق ببعض الحروف وجب فيه بقدر ما ذهب من الحروف لأننا تبينا أنه كان ناطقا وإن كان قد بلغ إلى حد يتحرك بالبكاء وغيره فلم يتحرك فقطعه قاطع فلا دية فيه لأن الظاهر أنه لو كان صحيحا لتحرك وإن لم يبلغ إلى حد يتحرك ففيه الدية لأن الظاهر سلامته وإن قطع لسان كبير وادعى أنه كان أخرس ففيه مثل ما ذكرنا فيما إذا اختلفا في شلل العضو المقطوع على ما ذكرناه فيما مضى .
فصل : وإن جنى عليه فذهب كلامه أو ذوقه ثم عاد لم تجب الدية لأننا تبينا أنه لم يذهب ولو ذهب لم يعد وإن كان قد أخذ الدية ردها وإن قطع لسانه فعاد لم تجب الدية أيضا وإن كان قد أخذها ردها قاله أبو بكر وظاهر مذهب الشافعي أنه لا يرد الدية لأن العادة لم تجر بعوده واختصاص هذا بعوده يدل على أنه هبة مجددة .
ولنا أنه عاد ما وجبت فيه الدية فوجب رد الدية كالأسنان وسائر ما يعود وإن قطع إنسان نصف لسانه فذهب كلامه كله ثم قطع آخر بقيته فعاد كلامه لم يجب رد الدية لأن الكلام الذي كان باللسان قد ذهب ولم يعد إلى اللسان وإنما عاد في محل آخر بخلاف التي قبلها وإن قطع لسانه فذهب كلامه ثم عاد اللسان دون الكلام لم يرد الدية لأنه قد ذهب ما تجب الدية فيه بانفراده وإن عاد كلامه دون لسانه لم يردها أيضا لذلك .
فصل : وإذا كان للسانه طرفان فقطع أحدهما فذهب كلامه ففيه الدية لأن ذهاب الكلام بمفرده يوجب الدية وإن ذهب بعض الكلام نظرت فإن كان الطرفان متساويين وكان ما قطعه بقدر ما ذهب من الكلام وجب وإن كان أحدهما أكبر وجب الأكثر على ما مضى وإن لم يذهب من الكلام شيء وجب بقدر ما ذهب من اللسان من الدية وإن كان أحدهما منحرفا عن سمت اللسان فهو خلقة زائدة وفيه حكومة وإن قطع جميع اللسان وجبت الدية من غير زيادة سواء كان الطرفان متساويين أو مختلفين وقال القاضي : إن كانا متساويين ففيهما الدية وإن كان أحدهما منحرفا عن سمت اللسان وجبت الدية وحكومة في الخلقة الزائدة .
ولنا أن هذه الزيادة عيب ونقص يرد بها المبيع وينقص من ثمنه فلم يجب فيها شيء كالسلعة في اليد وربما عاد القولان إلى شيء واحد لأن الحكومة لا يخرج بها شيء إذا كانت الزيادة عيبا