مسألة وفصول دية العينين .
مسألة : قال : وفي العينين الدية .
أجمع أهل العلم على أن في العينين إذا أصيبتا خطأ الدية وفي العين الواحدة نصفها ل [ قول النبي A : وفي العينين الدية ] ولأنه ليس في الجسد منهما إلا شيئان ففيهما الدية وفي إحداهما نصفها كسائر الأعضاء التي كذلك وروي عن النبي A أنه قال : [ وفي العين الواحدة خمسون من الإبل ] رواه مالك في موطئه ولأن العينين من أعظم الجوارح نفعا وجمالا فكانت فيهما الدية وفي إحداهما نصفها كاليدين إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يكونا صغيرتين أو كبيرتين أو مليحتين أو قبيحتين أو صحيحتين أو مريضتين أو حولاوين أو رمصتين فإن كان فيهما بياض لا ينقص البصر لم ينقص الدية وإن نقص البصر نقص من الدية بقدره وفي ذهاب البصر الدية لأن كل عضوين وجبت الدية بذهابهما وجبت بإذهاب نفعهما كاليدين إذا أشلهما وفي ذهاب بصر إحداهما نصف الدية كما لو أشل يدا واحدة وليس في إذهابهما بنفعها أكثر من دية اليدين .
فصل : وإن جنى على رأسه جناية ذهب بها بصره فعليه ديته لأنه ذهب بسبب جنايته وإن لم يذهب بها فداواها فذهب بالمداواة فعليه ديته لأنه ذهب بسبب فعله وإن اختلفوا في ذهاب البصر رجع إلى اثنين عدلين مسلمين من أهل الخبرة لأن لهما طريقا إلى معرفة ذلك لمشاهدتهما العين التي هي محل البصر ومعرفة بحالها بخلاف السمع وإن لم يوجد أهل الخبرة أو تعذر معرفة ذلك اعتبر بأن يوقف في عين الشمس ويقرب الشيء من عينه في أوقات غفلته فإن طرف عينه وخاف من الذي يخوف به فهو كاذب وإلا حكم له وإذا علم ذهاب بصره وقال أهل الخبرة لا يرجى عوده وجبت الدية وإن قالوا يرجى عوده إلى مدة عينوها انتظر إليها ولم يعط الدية حتى تنقضي المدة فإن عاد البصر سقطت عن الجاني وإن لم يعد استقرت الدية وإن مات المجني عليه قبل العود استقرت الدية سواء مات في المدة أو بعدها فإن ادعى الجاني عود بصره قبل موته وأنكر وارثه فالقول قول الوارث لأن الأصل معه وإن جاء أجنبي فقلع عينه في المدة استقرت على الأول الدية أو القصاص لأنه أذهب البصر فلم يعد وعلى الثاني حكومة لأنه أذهب عينا لا ضوء لها يرجى عودها وإن قال الأول عاد ضوؤها وأنكر الثاني فالقول قول المنكر لأن الأصل معه فإن صدق المجني عليه الأول سقط حقه عنه ولم يقبل قوله على الثاني وإن قال أهل الخبرة : يرجى عوده لكن لا نعرف له مدة وجبت الدية أو القصاص لأن انتظار ذلك إلى غير غاية يفضي إلى إسقاط موجب الجناية والظاهر في البصر عدم العود والأصل يؤيده فإن عاد قبل استيفاء الواجب سقط وإن عاد بعد الاستيفاء وجب رد ما أخذ نه لأنا تبينا أنه لم يكن واجبا .
فصل : وإن جنى عليه فنقص ضوء عينيه ففي ذلك حكومة وإن ادعى نقص ضوئهما فالقول قوله مع يمينه لأنه لا يعرف ذلك إلا من جهته وإن ذكر أن إحداهما نقصت عصبت المريضة وأطلقت الصحيحة ونصب له شخص فيباعد عنه فكلما قال رأيته فوصف لونه علم صدقه حتى تنتهي فإذا انتهت علم موضعها ثم تشد الصحيحة وتطلق المريضة وينصب له شخص ثم يذهب حتى تنتهي رؤيته ثم يدار الشخص إلى جانب آخر فيصنع به مثل ذلك ثم يعلمه عند المسافتين ويذرعان ويقابل بينهما فإن كانتا سواء فقد صدق وينظر كم بين مسافة رؤية العليلة والصحيحة ويحكم له من الدية بقدر ما بينهما وإن اختلفت المسافتان فقد كذب وعلم أنه قصر مسافة رؤية المريضة ليكثر الواجب له فيردد حتى تستوي المسافة بين الجانبين والأصل في هذا ما روي عن علي Bه قال ابن المنذر : أحسن ما قيل في ذلك ما قاله علي Bه أمر بعينه فعصبت وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره ثم أمر فخط عند ذلك ثم أمر بعينه فعصبت الأخرى وفتحت الصحيحة وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو يبصر حتى انتهى بصره ثم خط عند ذلك ثم حول إلى مكان آخر ففعل مثل ذلك فوجدوه سواء فأعطاه بقدر ما نقص من بصره من مال الآخر .
قال القاضي : وإذا زعم أهل الطب أن بصره يقل إذا بعدت المسافة ويكثر إذا قربت وأمكن هذا في المذارعة عمل عليه وبيانه أنهم إذا قالوا إن الرجل إذا كان يبصر إلى مائة ذراع ثم أراد أن يبصر إلى مائتي ذراع احتاج للمائة الثانية إلى ضعفي ما يحتاج إليه للمائة الأولى من البصر فعلى هذا إذا أبصر بالصحيحة إلى مائتين وأبصر بالعليلة إلى مائة علمنا أنه قد نقص ثلثا بصر عينه فيجب له ثلث ديتها وهذا لا يكاد ينضبط في الغالب وكل ما لا ينضبط فيه حكومة وإن جنى على عينيه فندرتا أو إذا حولتا أو أعمشتا ففي ذلك حكومة كما لو ضرب يده فاعوجت والجناية على الصبي والمعتوه كالجناية على البالغ والعاقل وإنما يفترقان في أن البالغ خصم لنفسه والخصم للصبي والمجنون وليهما فإذا توجهت اليمين عليهما لم يحلفا ولم يحلف الولي عنهما فإن بلغ الصبي وأفاق المجنون حلفا حينئذ ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كمذهبنا .
فصل : وفي عين الأعور دية كالة وبذلك قال الزهري و مالك و الليث و قتادة و إسحاق : وقال مسروق وعبد الله بن مغفل و النخعي و الثوري و أبو حنيفة و الشافعي : فيها نصف الدية ل [ قوله عليه السلام : وفي العين خسون من الإبل ] وقول النبي A : [ وفي العينين الدية ] يقتضي أن لا يجب فيهما أكثر من ذلك سواء قلعهما واحد أو اثنان في وقت واحد أو في وقتين وقالع الثانية قالع عين أعور فو وجبت عليه دية لوجب فيهما دية ونصف ولأن ما ضمن نصف الدية مع بقاء نظيره ضمن به مع ذهابه كالأذن ويحتمل هذا كلام الخرقي لقوله : وفي العين الواحدة نصف الدية لم يفرق .
ولنا أن عمر وعثمان وعليا وابن عمر قضوا في عين الأعور بالدية ولم نعلم لهم في الصحابة مخالفا فيكون إجماعا ولأن قلع عين الأعور تتضمن إذهاب البصر كله فوجبت الدية كما لو أذهبه من العينين ودليل ذلك أنه يحصل بها ما يحصل بالعينين فإنه يرى الأشياء البعيدة ويدرك الأشياء اللطيفة ويعمل أعمال البصراء ويجوز أن يكون قاضيا وشاهدا ويجزىء في الكفارة وفي الأضحية إذا لم تكن العوراء مخسوفة فوجب في بصره دية كاملة كذا في العينين فإن قيل : فلو صح هذا لم يجب في ذهاب بصر إحدى العينين نصف الدية لأنه لم ينقص قلنا : لا يلزم من وجوب شيء من دية العينين نقص دية الثاني بدليل ما لو جنى عليهما فأحولتا أو عمشتا أو نقص ضؤوهما فإنه يجب أرش النقص ولا تنقص ديتهما بذلك ولأن النقص الحاصل لم يؤثر في تنقيص أحكامه ولا هو مضبوط في تفويت النفع فلم يؤثر في تنقيص الدية كالذي ذكرنا .
فصل : وإن قلع الأعور عين صحيح نظرنا فإن قلع العين التي لا تماثل عينه الصحيحة أو قلع المماثلة للصحيحة خطأ فليس عليه نصف الدية لا أعلم فيه مخالفا لأن ذلك هو الأصل وإن قلع المماثلة لعينه الصحيحة عمدا فلا قصاص عليه وعليه دية كاملة وبهذا قال سعيد بن المسيب و عطاء و مالك في إحدى روايتيه وقال في الأخرى : عليه نصف الدية ولا قصاص وقال المخالفون في المسألة الأولى : له القصاص لقوله تعالى : { والعين بالعين } وإن اختار الدية فله نصفها للخبر ولأنه لو قلعها غيره لم يجب فيها إلا نصف الدية فلم يجب عليه إلا نصفها كالعين الأخرى .
ولنا أن عمر وعثمان قضيا بمثل مذهبنا ولا نعرف لهما مخالفا في الصحابة فكان إجماعا .
فصل : وإن قلع الأعور عيني صحيح العينين فليس عليه إلا دية عمدا كان أو خطأ وذكر القاضي أن قياس المذهب وجوب ديتين إحداهما : في العين التي استحق بها قلع عين الأعور والأخرى : في الأخرى لأنها عين أعور .
ولنا قول النبي A : [ في العينين الدية ] ولأنه قلع عينين فلم يلزمه أكثر من الدية كما لو كان القاطع صحيحا ولأنه لم يزد على تفويت منفعة الجنس فلم يزد على الدية كما لو قطع أذنه وما ذكره القاضي لا يصح لأن وجوب الدية في إحدى عينيه لا يجعل الأخرى عين أعور على أن وجوب الدية قطع بقلع إحدى العينين قضية مخالفة للخبر والقياس صرنا إليها لإجماع الصحابة عليها ففيما عدا موضع الإجماع العمل بهما والبقاء عليهما فإن كان قلعهما عمدا فاختار القصاص فليس له إلا قلع عينه لأنه أذهب بصره كله فلم يكن له أكثر من إذهاب بصره وهذا مبني على ما تقدم من قضاء الصحابة ولأن عين الأعور تقوم مقام العينين وأكثر أهل العلم على أن له القصاص من العين ونصف الدية للعين الأخرى وهو قتضى الدليل والله أعلم