مسائل وفصول الاحداد على الزوج وأحكامه وما يجب على المحدة .
مسألة : قال : وتجتنب الزوجة المتوفى عنها زوجها الطيب والزينة والبيتوتة في غير منزلها والكحل بالإثمد والنقاب .
هذا يسمى الإحداد ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في وجوبه على المتوفى عنها زوجها إلا عن الحسن فإنه قال لا يجب الإحداد وهو قول شذ به أهل العلم وخالف به السنة فلا يعرج عليه ويستوفي في وجوبه الحرة والأمة والمسلمة والذمية والكبيرة والصغيرة وقال أصحاب الرأي : لا إحداد على ذمية ولا صغيرة لأنهما غير مكلفتين .
ولنا عموم الأحاديث التي سنذكرها ولأن غير المكلفة تساوي المكلفة في اجتناب المحرمات كالخمر والزنا وإنما يفترقان في الإثم فكذلك الإحداد ولأن حقوق الذمية في النكاح كحقوق المسلمة فكذلك فيما عليها .
فصل : ولا إحداد على غير الزوجات كأم الولد إذا مات سيدها قال ابن المنذر : لا أعلمهم يختلفون في ذلك وكذلك الأمة التي يطؤها سيدها إذا مات عنها ولا الموطوءة بشبهة والمزني بها ل [ قول النبي A : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ] ولا إحداد على الرجعية بغير خلاف نعلمه لأنها في حكم الزوجات لها أن تتزين لزوجها وتستشرف له ليرغب فيها وتتفق عنده كما تفعل في صلب النكاح ولا إحداد على المنكوحة نكاحا فاسدا لأنها ليست زوجة على الحقيقة ولا لها من كانت تحل له ويحل لها فتحزن على فقده .
فصل : وتجتنب الحادة ما يدعو إلى جماعها ويرغب في النظر إليها ويحسنها وذلك أربعة أشياء : أحدها : الطيب ولا خلاف في تحريمه عند من أوجب الإحداد ل [ قول النبي A : لا تمس طيبا إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها بنبذه من قسط أو اظفار ] متفق عليه [ وروت زينب بنت أم سلمة قالت : دخلت على أم حبيبة زوج النبي A حين توفي أبو سفيان فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية ثم مست بعارضها ثم قالت : والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله A يقول : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ] متفق عليه ولأن الطيب يحرك الشهوة ويدعو إلى المباشرة ولا يجوز لها استعمال الأدهان المطيبة كدهن الورد والبنفسج والياسمين والبان وما أشبهه لأنه استعمال للطيب فأما الأدهان بغير المطيب كالزيت والسريج والسمن فلا بأس به لأنه ليس بطيب الثاني : اجتناب الزينة وذلك واجب في قول عامة أهل العلم منهم ابن عمر وابن عباس و عطاء وجماعة أهل العلم يكرهون ذلك وينهون عنه وهو ثلاثة أقسام : .
أحدها : الزينة في نفسها فيحرم عليها أن تخضب وأن تحمر وجهها بالكلكون وأن تبيضه باسفيداج العرايس وأن تجعل عليه صبرا بصفرة وأن تنقش وجهها ويديها وأن تخفف وجهها وما أشبهه مما يحسنها وأن تكتحل بالإثمد من غير ضرورة وذلك لما [ روت أم سلمة أن النبي A قال : المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل ] رواه النسائي و أبو داود [ وروت أم عطية أن رسول الله A قال : لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوج فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها بنبذه من قسط أو اظفار ] متفق عليه [ وعن أم سلمة قالت : جاءت امرأة إلى رسول الله A فقالت يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها ؟ فقال رسول الله A : لا مرتين أو ثلاثا ] متفق عليه [ وروت أم سلمة قالت : دخل علي رسول الله A حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبرا فقال : ماذا يا أم سلمة ؟ قلت إنما هو صبر ليس فيه طيب قال : إنه يشب الوجه لا تجعليه إلا بالليل وتنزعينه بالنهار ولا تمشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب قال : قلت بأي شيء أمتشط قال : بالسدر تغلفين به رأسك ] ولأن الكحل من أبلغ الزينة والزينة تدعو إليها وتحرك الشهوة فهي كالطيب وأبلغ منه وحكي عن بعض الشافعية أن للسوداء أن تكتحل وهو مخالف للخبر والمعنى فإنه يزينها ويحسنها وإن اضطرت الحادة إلى الكحل بالإثمد للتداوي فلها أن تكتحل ليلا وتمسحه نهارا ورخص فيه عند الضرورة عطاء و النخعي و مالك وأصحاب الرأي لما روت أم حكيم بنت أسد عن أمها أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينيها فتكتحل بالجلاء فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة تسألها عن كحل الجلاء فقالت : لا تكتحلي إلا لما بد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار رواه أبو داود و النسائي وإنما منع من الكحل بالإثمد لأنه الذي تحصل به الزينة فأما الكحل بالتوتيا والعنزروت ونحوهمت فلا بأس به لأنه لا زينة فيه بل يقبح العين ويزيدها مرها ولا تمنع من جعل الصبر على غير وجهها من بدنها لأنه إنما منع منه في الوجه لأنه يصفره فيشبه الخضاب ولهذا [ قال النبي A أنه يشب الوجه ] ولا تمنع من التنظيف بتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق الشعر المندوب إلى حلقه ولا من الاغتسال بالسدر والامتشاط به لحديث أم سلمة ولأنه يراد للتنظيف لا للتطييب .
القسم الثاني : زينة الثياب فتحرم عليها الثياب المصبغة للتحسين كالمعصفر والمزعفر وسائر الأحمر وسائر الملون للتحسين كالأزرق الصافي والأخضر الصافي والأصفر فلا يجوز لبسه ل [ قول النبي A لا تلبس ثوبا مصبوغا ] وقوله : [ لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ] فأما ما لا يقصد بصبغه حسنة كالكحلي والأسود والأخضر المشبع فلا تمنع منه لأنه ليس بزينة وما صبغ غزله ثم نسج فيه احتمالان : أحدهما : يحرم لبسه لأنه أرفع وأحسن ولأنه مصبوغ للحسن فأشبه ما صبغ بعد نسخه والثاني لا يحرم ل [ قول رسول الله A في حديث أم سلمة : إلا ثوب عصب ] وهو ما صبغ غزله قبل نسجه ذكره القاضي ولأنه لم يصبغ وهو ثوب فأشبه ما كان حسنا من الثياب غير مصبوغ والأول أصح وأما العصب فالصحيح أنه نبت تصبغ به الثياب قال صاحب الروض الأنف : الورس والعصب نبتان باليمن لا ينبتان إلا به فأرخص النبي A للحادة في لبس ما صبغ لبسه مع حصول الزينة بصبغة كحصولها بما صبغ بعد نسجه ولا تمنع من حسان الثياب غير المصبوغة وإن كان رقيقا سواء كان من قطن أو كتان أو إبريسم لأن حسنه من أصل خلقته فلا يلزم تغيره كما أن المرأة إذا كانت حسنة الخلقة لا يلزمها أن تغير لونها وتشوه نفسها .
القسم الثالث : الحلي فيحرم عليها لبس الحلي له حتى الخاتم في قول أهل العلم ل [ قول النبي A : ولا الحلي ] وقال عطاء : يباح حلي الفضة دون الذهب وليس بصحيح لأن النهي عام ولأن الحلي يزيد حسنها ويدعو إلى مباشرتها قالت امرأة : .
( وما الحلي إلا زينة لنقيصة ... تتم من حسن إذا الحسن قصرا ) .
فصل : الثالث مما تجتنبه الحادة النقاب وما في معناه مثل البرقع ونحوه لأن المعتدة مشبهة بالمحرمة والمحرمة تمنع من ذلك وإذا احتاجت إلى ستر وجهها أسدلت عليه ما تفعل المحرمة .
فصل : والرابع المبيت في غير منزلها وممن أوجب على المتوفى عنها زوجها الاعتداد في منزلها عمر وعثمان Bهما وروي ذلك عن ابن عمر وابن مسعود وأم سلمة وبه يقول مالك و الثوري و الأوزاعي و أبو حنيفة و الشافعي و إسحاق وقال ابن عبد البر : : وبه يقول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر .
وقال جابر بن زيد و الحسن و عطاء : تعتد حيث شاءت وروي ذلك عن علي وابن عباس وجابر وعائشة Bهم قال ابن عباس : نسخت هذه الآية عدتها عند أهله وسكتت في وصيتها وإن شاءت خرجت لقول الله تعالى : { فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن } قال عطاء : ثم جاء الميراث فنسخ السكنى تعتد حيث شاءت رواهما أبو داود .
ولنا ما [ روت فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري أنها جاءت إلى رسول الله A فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعبد له فقتلوه بطرف القدوم فسألت رسول الله A أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت فقال رسول الله A : نعم قالت فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له فقال رسول الله A كيف قلت ؟ فرددت عليه القصة فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به رواه مالك في موطئه و الأثرم وهو حديث صحيح قضى به عثمان في جماعة الصحابة فلم ينكروه إذا ثبت هذا فإنه يجب الاعتداد في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة به سواء كان مملوكا لزوجها أو بإجارة أو عارية لأن النبي A قال لفريعة : امكثي في بيتك ولم تكن في بيت يملكه زوجها وفي بعض ألفاظه اعتدي في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك ] وفي لفظ [ اعتدي حيث أتاك الخبر ] فإن أتاها الخبر في غير مكسنها رجعت إلى مسكنها فاعتدت فيه وقال سعيد بن المسيب و النخعي : لا تبرح من مكانها الذي أتاها فيه نعي زوجها اتباعا للفظ الخبر الذي رويناه .
ولنا [ قوله عليه السلام : امكثي في بيتك ] واللفظ الآخر قضية في عين والمراد به هذا فإن قضايا الأعيان لا عموم لها ثم لا يمكن حمله على العموم فإنه لا يلزمها الاعتداد في السوق والطريق والبرية إذا أتاها الخبر وهي فيها