مسائل وفصول قال : فمتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما والخلاف في حصول الفرقة .
مسألة : قال : فمتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبدا .
في هذه المسألة مسألتان : .
المسألة الأولى : أن الفرقة بين المتلاعنين لا تحصل إلا بلعانهما جميعا وهل يعتبر تفريق الحاكم بينهما ؟ فيه روايتان : .
إحداهما : أنه معتبر فلا تحصل الفرقة حتى يفرق الحاكم بينهما وهو ظاهر كلام الخرقي وقول أصحاب الرأي لقول ابن عباس في حديثه : ففرق رسول الله A بينهما وهذا يقتضي أن الفرقة لم تحصل قبله وفي حديث عويمر قال : كذبت عليها يا رسول الله ان أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله A وهذا يقتضي إمكان إمساكها وأنه وقع طلاقه ولو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك لما وقع طلاقه ولا أمكنه إمساكها ولأن سبب هذه الفرقة يقف على الحاكم فالفرقة المتعلقة به لم تقع إلا بحكم الحاكم كفرقة العنة .
والرواية الثانية : تحصل الفرقة بمجرد لعانهما وهي اختيار أبي بكر وقول مالك و أبي عبيد عنه و أبي ثور و داود و زفر و ابن المنذر وروي ذلك عن ابن عباس لما روي عن عمر Bه أنه قال : المتلاعنان يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا رواه سعيد ولأنه معنى يقتضي التحريم المؤبد فلم يقف على حكم الحاكم الرضاع ولأن الفرقة لو لم تحصل إلا بتفريق الحاكم لساغ ترك التفريق إذا كرهاه كالتفريق للعيب والإعسار ولوجب أن الحاكم إذا لم يفرق بينهما أن يبقى النكاح مستمرا و [ قول النبي A : لا سبيل لك عليها ] يدل على هذا وتفريقه بينهما بمعنى إعلامه لهما بحصول الفرقة وعلى كلتا الروايتين لا تحصل الفرقة قبل تمام اللعان منهما .
وقال الشافعي C تعالى : تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده وإن لم تلتعن المرأة لأنها فرقة حاصلة بالقول فتحصل بقول الزوج وحده كالطلاق ولا نعلم أحدا وافق الشافعي على هذا القول وحكي عن البتي أنه لا يتعلق باللعان فرقة لما [ روي أن العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا فأنفذه رسول الله A ولو وقعت الفرقة لما نفذ طلاقه وكلا القولين لا يصح لأن النبي A فرق بين المتلاعنين ] رواه عبد الله بن عمر وسهل بن سعد وأخرجهما مسلم وقال سهل فكانت سنة لمن كان بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين وقال عمر : المتلاعنان يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا .
وأما القول الآخر فلا يصح لأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين ولا يكونان متلاعنين بلعان أحدهما وإنما فرق النبي A بينهما بعد تمام اللعان منهما فالقول بوقوع الفرقة قبله تحكم يخالف مدلول السنة وفعل النبي A ولأن لفظ اللعان لا يقتضي فرقة فإنه إنا أيمان على زناها أو شهادة بذلك ولولا ورود الشرع بالتفريق بينهما لم يحصل التفريق وإنما ورد الشرع به بعد لعانهما فلا يجوز تعليفه على بعضه كما لم يجز تعليقه على بعض لعان الزوج ولأنه فسخ ثبت بأيمان مختلفين فلم يثبت بيمين أحدهما كالفسخ لتحالف المتبايعين عند الاختلاف ويبطل ما ذكروه بالفسخ بالعيب أو العتق وقول الزوج اختاري وأمرك بيدك أو وهبتك أو لنفسك واشباه ذلك كثير إذا ثبت هذا فإن قلنا إن الفرقة تحصل بلعانهما فلا تحصل إلا بعد إكمال اللعان منهما وإن قلنا لا تحصل إلا بتفريق الحاكم لم يجز له أن يفرق بينهما إلا بعد كمال لعانهما فإن فرق قبل ذلك كان تفريقه باطلا وجوده كعدمه وبهذا قال مالك وقال الشافعي : لا تقع الفرقة حتى يكمل الزوج لعانه وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن : إذا فرق بينهما بعد أن لاعن كل واحد منهما ثلاث مرات أخطأ السنة والفرقة جائزة وإن فرق بينهما بأقل من ثلاث فالفرقة باطلة لأن من أتى بالثلاث فقد أتى بالأكثر فيتعلق الحكم به .
ولنا أنه تفريق قبل تمام اللعان فلم يصح كما لو فرق بينهما لأقل من ثلاث أو قبل لعان المرأة ولأنها أيمان مشروعة لا يجوز للحاكم الحكم قبلها بالإجماع فإذا حكم لم يصح حكمه كأيمان المختلفين في البيع وكما قبل الثلاث ولأن الشرع إنما ورد بالتفريق بعد كمال السبب فلم يجز قبله كسائر الأسباب وما ذكروه تحكم لا دليل عليه ولا أصل له ثم يبطل بما إذا شهد بالدين رجل وامرأة واحدة أو بمن توجهت عليه اليمين إذا أتى بأكثر حروفها وبالمسابقة إذا قال : من سبق إلى خمس إصابات فسبق إلى ثلاثة وبسائر الأسباب فأما إذا تم اللعان فللحاكم أن يفرق بينهما من غير استئذانهما ل [ أن النبي A فرق بين المتلاعنين ولم يستأذنهما ] [ وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله A وانتفى من ولدها ففرق رسول الله A فرق بين المتلاعنين ] أخرجهما سعيد ومتى قلنا إن الفرقة لا تحصل إلا بتفريق الحاكم فلم يفرق بينهما فالنكاح باق بحاله لأن ما يبطل النكاح لم يوجد فأشبه ما لو لم يلاعن .
فصل : وفرقة اللعان فسخ وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : هي طلاق لأنها فرقة من جهة الزوج تختص النكاح فكانت طلاقا كالفرقة بقوله : أنت طالق .
ولنا أنها فرقة توجب تحريما مؤبدا فكانت فسخا كفرقة الرضاع ولأن اللعان ليس بصريح في الطلاق ولا نوى به الطلاق فلم يكن طلاقا كسائر ما ينفسخ به النكاح ولأنه لو كان طلاقا لوقع بلعان الزوج دون لعان المرأة .
فصل : وذكر بعض أهل العلم أن الفرقة إنما حصلت باللعان لأن لعنة الله وغضبه قد وقع لأحدهما لتلاعنهما ف [ إن النبي A قال عند الخامسة : أنها الموجبة ] أي إنها توجب لعنة الله وغضبه ولا نعلم من هو منهما يقينا ففرقنا بينهما خشية أن يكون هو الملعون فيعلو امرأة غير ملعونة وهذا لا يجوز كما لا يجوز أن يعلو المسلمة كافر ويمكن أن يقال على هذا : لو كان هذا الاحتمال مانعا من دوام نكاحهما لمنعة من نكاح غيرها فإن هذا الاحتمال متحقق فيه ويحتمل أن يكون الموجب للفرقة وقوع اللعنة والغضب بأحدهما غير معين فيفضي إلى علو ملعون لغير أو إلى إمساكه لملعونة مغضوب عليها ويحتمل أن سبب الفرقة النفرة الحاصلة من إساءة كل واحد منهما إلى صاحبه فإن الرجل إن كان صادقا فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رؤوس الأشهاد وأقامها مقام خزي وحقق عليها اللعنة والغضب وقطع نسب ولدها وإن كان كاذبا فقد اضاف إلى ذلك بهتها وقذفها بهذه الفرية العظيمة والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد وأوجبت عليه لعنة الله وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها وألزمته والفضيحة وأحوجته إلى هذا المقام المخزي فحصل لكل واحد نفرة من صاحبه لما حصل إليه من إساءته لا يكاد يلتئم لهما معها حال فاقتضت حكمه الشارع انحتام الفرقة بينهما وإزالة الصحبة المتمحضة مفسدة ولأنه إن كان كاذبا عليها فلا ينبغي أن يسلط على إمساكها مع ما صنع من القبيح إليها وإن كان صادقا فلا ينبغي أن يمسكها مع علمه بحالها ولهذا قال العجلاني : كذبت عليها أن أمسكتها .
المسألة الثانية : أنها تحرم عليه باللعان تحريما مؤبدا فلا تحل له وإن أكذب نفسه في ظاهر المذهب ولا خلاف بين أهل العلم في أنه إذا لم يكذب نفسه لا تحل له إلا أن يكون قولا شاذا وأما إذا أكذب نفسه فالذي رواه الجماعة عن أحمد أنها لا تحل له أيضا وجاءت الأخبار عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود Bهم أن المتلاعنين لا يجتمعان أبدا وبه قال الحسن و عطاء و جابر بن زيد و النخعي و الزهري و الحكم و مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و أبو عبيد و أبو ثور و أبو يوسف وعن أحمد رواية أخرى : إن أكذب نفسه حلت له وعاد فراشه بحاله وهي رواية شاذة شذ بها حنبل عن أصحابه قال أبو بكر : لا نعلم أحدا رواها غيره وينبغي أن تحمل هذه الرواية على ما إذا لم يفرق بينهما الحاكم فأما مع تفريق الحاكم بينهما فلا وجه لبقاء النكاح بحاله وقد ذكرنا أن مذهب البتي أن اللعان لا يتعلق به فرقة وعن سعيد بن المسيب إن أكذب نفسه فهو خاطب من الخطاب وبه قال أبو حنيفة و محمد بن الحسن لأن فرقة اللعان عندهما طلاق وقال سعيد بن جبير : إن أكذب ردت إليه ما دامت في العدة .
ولنا ما روى سهل بن سعد قال : مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا رواه الجوزجاني في كتابه بإسناده وروي مثل هذا عن الزهري و مالك ولأنه تحريم لا يرتفع قبل الحد والتكذيب فلم يرتفع بهما كتحريم الرضاع .
فصل : فإن كانت أمة فاشتراها ملاعنها لم تحل له لأن تحريمها تحريم مؤبد فحرمت به على مشتريها كالرضاع ولأن المطلق ثلاثا إذا اشترى مطلقته لا تحل له قبل زوج وإصابة فههنا أولى لأن هذا التحريم مؤبد وتحريم الطلاق ليس بمؤبد ولأن تحريم الطلاق يختص النكاح وهذا لا يختص به وهذا مذهب الشافعي