مسألتان وفصول : تكرير لفظ الطلاق للمدخول بها أو لغير المدخول بها .
مسألة : قال : وإذا قال لمدخول بها أنت طالق أنت طالق لزمه تطليقتان إلا أن يكون أراد بالثانية إفهامها أن قد وقعت بها الأولى فتلزمه واحدة وإن كانت غير مدخول بها بانت بالأولى ولم يلزمها ما بعدها لأنه ابتداء كلام .
وجملة ذلك أنه إذا قال لامرأته المدخول بها أنت طالق مرتين ونوى بالثانية إيقاع طلقة ثانية وقعت بها طلقتان بلا خلاف وإن نوى بها إفهامها أن الأولى قد وقعت بها أو التأكيد لم تطلق إلا واحدة وإن لم تكن له نية وقع طلقتان وبه قال أبو حنيفة و مالك وهو الصحيح من قولي الشافعي وقال في الآخر : تطلق واحدة لأن التكرار يكون للتأكيد والإفهام ويحتمل الإيقاع فلا توقع طلقة بالشك .
ولنا أن هذا اللفظ للإيقاع ويقتضي الوقوع بدليل ما لو لم يتقدمه مثله وإنما ينصرف عن ذلك بنية التأكيد والإفهام فإذا لم يوجد ذلك وقع مقتضاه كما يجب العمل بالعموم في العام إذا لم يوجد المخصص وبالإطلاق في المطلق إذا لم يوجد المقيد فأما غير المدخول بها فلا تطلق إلا طلقة واحدة سواء نوى الإيقاع أو غيره وسواء قال ذلك منفصلا أو متصلا وهذا قول أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث و عكرمة و النخعي و حماد بن أبي سليمان و الحكم و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي و أبي عبيد و ابن المنذر وذكره الحكم عن علي وزيد بن ثابت وابن مسعود وقال مالك و الأوزاعي و الليث : يقع بها تطليقتان وإن قال ذلك ثلاثا طلقت ثلاثا إذا كان متصلا لأنه طلق ثلاثا بكلام متصل أشبه قوله أنت طالق ثلاثا .
ولنا أنه طلاق مفرق في غير المدخول بها فلم تقع الأولى كما لو فرق كلامه ولأن غير المدخول بها تبين بطلقة واحدة لأنه لا عدة عليها فتصادفها الطلقة الثانية بائنا فلم يمكن وقوع الطلاق بها لأنها غير زوجة وإنما تطلق الزوجة ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا نعلم لهم مخالفا في عصرهم فيكون إجماعا .
فصل : فإن قال أنت طالق ثم مضى زمن طويل ثم أعاد ذلك للمدخول بها طلقت ثانية ولم يقبل قوله نويت التوكيد لأن التوكيد تابع للكلام فشرطه أن يكون متصلا به كسائر التوابع من العطف والصفة والبدل .
فصل : وكل طلاق يترتب في الوقوع ويأتي بعضه بعد بعض لا يقع بغير المدخول بها منه أكثر من طلقة واحدة لما ذكرناه ويقع بالمدخول بها ثلاث إذا أوقعها مثل قوله أنت طالق فطالق فطالق أو أنت طالق ثم طالق ثم طالق أو أنت طالق ثم طالق وطالق أو فطالق وأشباه ذلك لأن هذه حروف تقتضي الترتيب فتقع بها الأولى فتبينها فتأتي الثانية فتصادفها بائنا غير زوجة فلا تقع بها وأما المدخول بها فتأتي الثانية فتصادف محل النكاح فتقع وكذلك الثالثة وكذلك لو قال أنت طالق بل طالق وطالق ذكره أبو الخطاب .
ولو قال أنت طالق طلقة قبل طلقة أو بعد طلقة أو بعدها طلقة أو طلقة فطلقة أو طلقة ثم طلقة وقع بغير المدخول بها طلقة وبالمدخول بها طلقتان لما ذكرنا من أن هذا يقتضي طلقة بعد طلقة .
فصل : وإن قال أنت طالق طلقة قبلها طلقة فكذلك ذكره القاضي وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم لا يقع بغير المدخول بها شيء بناء على قولهم في المسألة السريجية وقال أبو بكر : يقع طلقتان وهو قول أبي حنيفة لأنه استحال وقوع الطلقة الأخرى قبل الطلقة الموقعة فوقعت معها لأنها لما تأخرت عن الزمن الذي قصد إيقاعها فيه لكونه زمنا ماضيا وجب إيقاعها في أقرب الأزمنة إليه وهو معها ولا يلزم تأخرها إلى ما بعدها لأن قبله زمن يمكن الوقوع فيه وهو زمن قريب فلا يؤخر إلى البعيد مع إمكان القريب .
ولنا أن هذا طلاق بعضه قبل بعض فلم يقع بغير المدخول بها جميعه كما لو قال طلقة بعد طلقة ولا يمتنع أن يقع المتأخر في لفظه متقدما كما لو فال طلقة بعد طلقة أو قال أنت طالق طلقة غدا وطلقة اليوم ولو قال جاء زيد بعد عمرو أو جاء زيد وقبله عمرو أو أعط زيدا بعد عمرو وكان كلاما صحيحا يفيد تأخير المتقدم لفظا عن المذكور بعده وليس هذا طلاقا في زمن ماض وإنما يقع إيقاعه في المستقبل مرتبا على الوجه الذي رتبه ولو قدر أن إحداهما موقعة في زمن ماض لامتنع وقوعها وحدها ووقعت الأخرى وحدها وهذا تعليل القاضي لكونه لا يقع إلا واحدة والأول من التعليل أصح إن شاء الله تعالى .
فصل : فإن قال أنت طالق طلقة معها طلقة وقع بها طلقتان وإن قال معها اثنتان وقع بها ثلاث في قياس المذهب وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقال أبو يوسف : يقع طلقة لأن الطلقة إذا وقعت مفردة لم يمكن أن يكون معها شيء .
ولنا أنه أوقع ثلاث طلقات بلفظ يقتضي وقوعهن معا فوقعن كلهن كما لو قال أنت طالق ثلاثا ولا نسلم أن الطلقة تقع مفردة فإن الطلاق لا يقع بمجرد التلفظ به إذ لو وقع بذلك لما صح تعليقه بشرط ولا صح وصفه بالثلاث ولا بغيرها وكذلك الحكم لو قال إذا طلقتك فأنت طالق معها طلقة ثم قال أنت طالق فإنها تطلق طلقتين لما ذكرنا .
فصل : فإن قال أنت طالق طلقة بعدها طلقة ثم أردت أني أوقع بعدها طلقة دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين وإن قال أنت طالق طلقة قبلها طلقة وقال أردت أني طلقتها قبل هذا في نكاح آخر أو أن زوجا قبلي طلقها دين وهل يقبل في الحكم ؟ على ثلاثة أوجه أحدها : يقبل والآخر : لا يقبل والثالث : يقبل إن كان وجد وإن لم يكن وجد لم يقبل والصحيح أنه إذا لم يكن وجد لا يقبل لأنه لا يحتمل ما قاله .
فصل : فإن قال أنت طالق طالق طالق وقال أردت التوكيد قبل منه لأن الكلام يكرر للتوكيد كقوله عليه السلام [ فنكاحها باطل باطل باطل ] وإن قصد الإيقاع وكرر الطلقات طلقت ثلاثا وإن لم ينو شيئا لم يقع إلا واحدة لأنه لم يأت بينهما بحرف يقتضي المغايرة فلا يكن متغايرات وإن قال أنت طالق وطالق وطالق وقال : أردت بالثانية التأكيد لم يقبل لأنه غاير بينها وبين الأولى بحرف يقتضي العطف والمغايرة وهذا يمنع التأكيد وأما الثالثة فهي كالثانية في لفظها فإن قال أردت بها التوكيد دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين إحداهما : يقبل وهي مذهب الشافعي لأنه كرر لفظ الطلاق مثل الأول فقبل تفسيره بالتأكيد كما لو قال أنت طالق أنت طالق .
والثانية : لا يقبل لأن حرف العطف للمغايرة فلا يقبل ما يخالف ذلك كما لا يقبل في الثانية ولو قال أنت طالق فطالق فطالق أو أنت طالق ثم طالق ثم طالق فالحكم فيها كالتي عطفها بالواو وإن غاير بين الحروف فقال : أنت طالق وطالق ثم طالق أو طالق ثم طالق وطالق أو طالق وطالق فطالق ونحو ذلك لم يقبل في شيء منها إرادة التوكيد لأن كل كلمة مغايرة لما قبلها مخالفة لها في لفظها والتوكيد إنما يكون بتكرير الأول بصورته .
فصل : ولو قال أنت مطلقة أنت مسرحة أنت مفارقة وقال أردت التوكيد بالثانية والثالثة قبل لأنه لم يغاير بينهما بالحروف الموضوعة للمغايرة بين الألفاظ بل أعاد اللفظة بمعناها ومثل هذا يعاد توكيدا وإن قال أنت مطلقة ومسرحة ومفارقة وقال : أردت التوكيد احتمل أن يقبل منه لأن اللفظ المختلف يعطف بعضه على بعض توكيدا كقوله * فألقى قولها كذبا ومينا * ويحتمل أن لا يقبل لأن الواو تقتضي المغايرة فأشبه ما لو كان بلفظ واحد .
مسألة : قال : وإذا قال لغير مدخول بها أنت طالق وطالق وطالق لزمه الثلاث لأنه نسق وهو مثل قوله أنت طالق ثلاثا .
وبهذا قال مالك و الأوزاعي و الليث و ربيعة و ابن أبي ليلى وحكي عن الشافعي في القديم ما يدل عليه وقال الثوري و أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور : لا يقع إلا واحدة لأنه أوقع الأولى قبل الثانية فلم يقع عليها شيء آخر كما لو فرقها .
ولنا أن الواو تقتضي الجمع ولا ترتيب فيها فتكون موقعا للثلاث جميعا فيقعن عليها كقوله أنت طالق ثلاثا أو طلقة معها طلقتان ويفارق ما إذا فرقها فإنها لا تقع جميعا وكذلك إذا عطف بعضها على بعض بحرف يقتضي الترتيب فإن الأولى تقع قبل الثانية بمقتضى إيقاعه وههنا لا تقع الأولى حين نطقه بها حتى يتم كلامه بدليل أنه لو ألحقه استثناء أو شرطا أو صفة لحق به ولم يقع الأول مطلقا ولو كان يقع حين تلفظه لم يلحقه شيء من ذلك وإذا ثبت أنه يقف وقوعه على تمام الكلام فإنه يقع عند تمام كلامه على الوجه الذي اقتضاه لفظه ولفظه يقتضي وقوع الطلقات الثلاث مجتمعات وهو معنى قول الخرقي لأنه نسق أي غير متفرق فإن قيل إنما وقف أول الكلام على آخره مع الشرط والاستثناء لأنه مغير له والعطف لا يغير عليه ونتبين أنه وقع أول ما لفظ به ولذلك لو قال لها أنت طالق لم يقع إلا واحدة قلنا ما لم يتم الكلام فهو عرضة للتغيير أما بما يخصه بزمن أو يقيده بقيد كالشرط وأما بما يمنع بعضه كالاستثناء وأما بما يبين عدد الواقع كالصفة بالعدد وأشباه هذا فيجب أن يكون واقعا ولولا ذلك لما وقع بغير المدخول بها ثلاث بحال لأنه لو قال لها أنت طالق ثلاثا فوقعت بها طلقة قبل قوله ثلاثا لم يكن أن يقع بها شيء آخر وأما إذا قال أنت طالق أنت طالق فهاتان جملتان لا تتعلق إحداهما بالأخرى ولو تعقب إحداهما شرط أو استثناء أو صفة لم يتناول الأخرى ولا وجه لوقوف إحداهما على الأخرى والمعطوف مع المعطوف عليه شيء واحد لو تعقبه شرط لعاد إلى الجميع ولأن المعطوف لا يستقبل بنفسه ولا يفيد بمفرده بخلاف قوله أنت طالق فإنها مفيدة لا تعلق لها بالأخرى فلا يصح قياسها عليها .
فصل : فإن قال أنت طالق طلقتين ونصفا فهي عندنا كالتي قبلها يقع الثلاث وقال مخالفون يقع طلقتان وإن قال دخلت الدار فأنت طالق وكرر ذلك فدخلت طلقت ثلاثا في قول الجميع لأن الصفة وجدت فاقتضى وقوع دفعة واحدة وإن قال : إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق فدخلت الدار طلقت ثلاثا وبه قال أبو يوسف و محمد وأصحاب الشافعي في أحد الوجهين وقال أبو حنيفة يقع واحدة لأن الطلاق المعلق إذا وجدت الصفة يكون كأنه أوقعه في تلك الحال على صفته ولو أوقعه كذلك لم يقع إلا واحدة .
ولنا أنه وجد شرط وقوع الثلاث طلقات غير مرتبات فوقع الثلاث كالتي قبلها وإن قال إذا دخلت الدار فأنت طالق طلقة معها طلقتان فدخلت طلقت ثلاثا وذكر مثل هذا بعض أصحاب الشافعي ولم يحك عنهم فيه خلافا .
فصل : وإن قال لغير مدخول بها أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار أو إن دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق أو إن دخلت فأنت طالق فطالق فطالق فدخلت فطلقت واحدة فبانت بها ولم يقع غيرها وبهذا قال الشافعي وذهب القاضي إلى أنها تطلق في الحال واحدة تبين بها وهو قول أبي حنيفة في الصورة الأولى لأن ثم تقطع الأولى عما بعدها لأنها للمهملة فتكون الأولى موقعة والثانية معلقة بالشرط وقال أبو يوسف و محمد : لا يقع حتى تدخل الدار فيقع بها ثلاث لأن دخول الدار شرط لثلاث فوقعت كما لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق .
ولنا أن ثم للعطف وفيها ترتيب فتعلقت التطليقات كلها بالدخول لأن العطف لا يمنع تعليق الشرط بالمعطوف عليه ويجب الترتيب فيها كما يجب لو لم يعلقه بالشرط وفي هذا انفصال عما ذكروه ولأن الأولى تلي الشرط فلم يجز وقوعها بدونه كما لو لم يعطف عليها ولأنه جعل الأولى جزاء للشرط وعقبه إياها بفاء التعقيب الموضوعة للجزاء فلم يجز تقديمها عليه كسائر نظائره ولأنه لو قال إن دخل زيد داري فأعطه درهما لم يجز أن يعطيه قبل دخوله فكذا ههنا وما ذكروه تحكم ليس له شاهد في اللغة ولا أصل في الشرع .
فصل : وإن قال لمدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق لم يقع بها شيء حتى تدخل الدار فتقع بها الثلاث وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف و محمد وذهب القاضي إلى وقوع طلقتين في الحال وتبقى الثالثة معلقة بالدخول وهو ظاهر الفساد فإنه يجعل الشرط المتقدم للمعطوف دون المعطوف عليه ويعلق به ما يبعد عنه دون ما يليه ويجعل جزاء ما لم توجد فيه الفاء التي يجازى بها دون ما وجدت فيه تحكما لا يعرف عليه دليل ولا نعلم له نظيرا وإن قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فطالق فدخلت طلقت ثلاثا في قولهم جميعا