فصول : الطلاق المعلق على مشيئة شخص أو محبته أو نحو ذلك .
فصل : فإن قال : أنت طالق إن شئت أو إذا شئت أو متى شئت أو كلما شئت أو كيف شئت أو حيث شئت أو أنى شئت لم تطلق حتى تشاء وتنطق بالمشيئة بلسانها فتقول قد شئت لأن ما في القلب لا يعلم حتى يعبر عنه اللسان فتعلق الحكم بما يتعلق به دون ما في القلب فلو شاءت بقلبها دون نطقها لم يقع طلاق ولو قالت : قد شئت بلسانها وهي كارهة لوقع الطلاق اعتبارا بالنطق وكذلك إن علق الطلاق بمشيئة غيرها ومتى وجدت المشيئة باللسان وقع الطلاق سواء كان على الفور أو التراخي نص عليه أحمد في تعليق الطلاق بمشيئة فلان وفيما إذا قال : أنت طالق حيث شئت أو أنى شئت ونحو هذا قال الزهري و قتادة وقال أبو حنيفة دون صاحبيه : إذا قال : أنت طالق كيف شئت تطلق في الحال طلقة رجعية لأن هذا ليس بشرط وإنما هو صفة للطلاق الواقع بمشيئتها .
ولنا أنه أضاف الطلاق إلى مشيئتها فأشبه ما لو قال حيث شئت وقال الشافعي في جميع الحروف إن شاءت في الحال وإلا فلا تطلق لأن هذا تمليك للطلاق على الفور كقوله اختاري وقال أصحاب الرأي في أن كقوله وفي سائر الحروف كقولنا لأن هذه الحروف صريحة في التراخي فحملت على مقتضاها بخلاف أن فإنها لا تقتضي زمانا وإنما هي لمجرد الشرط فتقيد بالفور بقضية التمليك وقال الحسن و عطاء إذا قال : أنت طالق إن شئت إنما ذلك لها ما داما في مجلسهما .
ولنا أنه تعليق للطلاق على شرط فكان على التراخي كسائر التعليق ولأنه إزالة ملك معلق على المشيئة فكان على التراخي كالعتق وفارق اختاري فغنه ليس بشرط إنما هو تخيير فتقيد بالمجلس كخيار المجلس وإن مات من له المشيئة أو جن لم يقع الطلاق لأن شرط الطلاق لم يوجد وحكي عن أبي بكر أنه يقع وليس بصحيح لأن الطلاق المعلق على شرط لا يقع إذا تعذر شرطه كما لو قال : أنت طالق إن دخلت الدار وإن شاء وهو مجنون لم يقع طلاقه لأنه لا حكم لكلامه وإن شاء وهو سكران فالصحيح أنه لا يقع لأنه زائل العقل فهو كالمجنون .
وقال أصحابنا يخرج على الروايتين في طلاقه والفرق بينهما أن إيقاع طلاقه تغليظ عليه كيلا تكون المعصية سببا للتخفيف عنه وههنا إنما يقع الطلاق بغير فلا يصح منه في حال زوال عقله وإن شاء وهو طفل لم يقع لأنه كالمجنون وإن كان يعقل الطلاق وقع لأن له مشيئة ولذلك صح اختياره لأحد أبويه وإن كان أخرس فشاء بالإشارة وقع الطلاق لأن إشارته تقوم مقام نطق الناطق ولذلك وقع طلاقه بها وإن كان ناطقا حال التعليق فخرس ففيه وجهان .
أحدهما : يقع الطلاق بها لأن طلاقه في نفسه يقع بها فكذلك طلاق من علقه بمشيئة .
والثاني : لا يقع بها لأنه حال التعليق كأنه لا يقع إلا بالنطق فلم يقع بغيره كما لو قال في التعليق إن نطق فلان بمشيئته فهي طالق .
فصل : فإن قيد المشيئة بوقت فقال : أنت طالق إن شئت اليوم تقيد به فإن خرج اليوم قبل مشيئتها لم تطلق وإن علقه على مشيئة اثنين لم يقع حتى توجد مشيئتهما وخرج القاضي وجها أنه يقع بمشيئة أحدهما كما يحنث بفعل بعض المحلوف عليه وقد بينا فساد هذا فإن قال : أنت طالق إن شئت وشاء أبوك فقالت قد شئت إن شاء أبي فقال أبوها قد شئت لم تطلق لأنها لم تشأ فإن المشيئة أمر خفي لا يصح تعليقها على شرط وكذلك لو قال : أنت طالق إن شئت فقالت قد شئت إن شئت فقال : قد شئت أو قالت : قد شئت إن طلعت الشمس لم يقع نص عليه أحمد على معنى هذا وهو قول سائر أهل العلم منهم الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لزوجته : أنت طالق إن شئت فقالت : قد شئت إن شاء فلان أنها قد ردت الأمر ولا يلزمها الطلاق وإن شاء فلان وذلك لأنه لم توجد منها مشيئة وإنما وجد منها تعليق مشيئتها بشرط وليس تعليق المشيئة بشرط مشيئة وإن علق الطلاق على مشيئة اثنين فشاء أحدهما على الفور والآخر على التراخي وقع الطلاق لأن المشيئة قد وجدت منهما جميعا .
فصل : فإن قال : أنت طالق إلا أن تشائي أو يشاء زيد فقالت : قد شئت لم تطلق وإن أخرا ذلك طلقت وإن جن من علق الطلاق بمشيئته طلقت في الحال لأنه أوقع الطلاق وعلق رفعه بشرط لم يوجد وكذلك إن مات فإن خرس فشاء بالإشارة خرج فيه وجهان بناء على وقوع الطلاق بإشارته إذا علقه على مشيئته .
فصل : فإن قال : أنت طالق واحدة إلا أن تشائي ثلاثا فلم تشأ أو شاءت أقل من ثلاث طلقت واحدة وإن قالت قد شئت ثلاثا فقال أبو بكر : تطلق ثلاثا وقال أصحاب الشافعي و أبي حنيفة : لا تطلق إذا شاءت ثلاثا لأن الاستثناء من الإثبات نفي فتقديره أنت طالق واحدة إلا أن تشائي ثلاثا فلا تطلقي ولأنه أو لم يقل ثلاثة لما طلقت بمشيئتها ثلاثا فكذلك إذا قال : ثلاثا لأنه إنما ذكر الثلاث صفة لمشيئتها الرافعة لطلاق الواحدة فيصير كما لو قال أنت طالق إلا أن تكرري بمشيئتك ثلاثا وقال القاضي : فيها وجهان : .
أحدهما : لا تطلق لما ذكرنا والثاني : تطلق ثلاثا لأن السابق إلى الفهم من هذا الكلام إيقاع الثلاث إذا شاءت كما لو قال علي درهم إلا أن يقيم البينة بثالثة وخذ درهما إلا أن تريد أكثر منه ومنه قول النبي A [ البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار ] أي إن بيع الخيار ثبت الخيار فيه بعد تفرقهما وإن قال : أنت طالق ثلاثا إلا أن تشائي واحدة فقالت : قد شئت واحدة طلقت واحدى على قول أبي بكر وعلى قولهم لا تطلق شيئا .
فصل : فإن قال : أنت طالق لمشيئة فلان أو لرضاه أو له طلقت في الحال لأن معناه أنت طالق لكونه قد شاء ذلك أو رضيه أو ليرضى به كقوله هو حر لوجه الله أو لرضى الله فإن قال : أردت به الشرط دين قال القاضي : يقبل في الحكم لأنه محتمل فإن ذلك يستعمل للشرط كقوله أنت طالق للسنة وهذا أظهر الوجهين لأصحاب الشافعي .
فصل : فإن قال : أنت طالق إن أحببت أو إن أردت أو إن كرهت احتمل أن يتعلق الطلاق بقولها بلسانها قد أحببت أو أردت أو كرهت لأن هذه المعاني في القلب لا يمكن الإطلاع عليها إلا من قولها فتعلق الحكم بها كالمشيئة ويحتمل أن يتعلق الحكم بما في القلب من ذلك ويكون اللسان دليلا عليه فعلى هذا لو أقر الزوج بوجوده وقع طلاقه وإن لم يتلفظ به ولو قالت : أنا أحب ذلك ثم قالت : كنت كاذبة لم تطلق وإن قال : إن كنت تحبين أن يعذبك الله بالنار فأنت طالق فقالت : أنا أحب ذلك فقد سئل أحمد عنها فلم يجب فيها بشيء وفيها احتمالان .
أحدهما : لا تطلق وهو قول أبي ثور لأن المحبة في القلب ولا توجد من أحد محبة ذلك وخبرها محبتها له كذب معلوم فلم يصلح دليلا على ما في قلبها .
والاحتمال الثاني : أنها تطلق وهو قول أصحاب الرأي لأن ما في القلب لا يوقف عليه إلا من لسانها فاقتضى تعليق الحكم بلفظها به كاذبة كانت أو صادقة كالمشيئة ولا فرق بين قوله إن كنت تحبين ذلك وبين قوله إن كنت تحبينه بقلبك لأن المحبة لا تكون إلا بالقلب