مسائل وفصول : العفو عن نصف المهر أو المهر كله .
مسألة : قال : والزوج هو الذي بيده عقدة النكاح فإذا طلق قبل الدخول فأيهما عفا لصاحبه عما وجب له من المهر وهو جائز الأمر في ماله برئ منه صاحبه .
اختلف أهل العلم في الذي بيده عقدة النكاح فظاهر مذهب أحمد C أنه الزوج روي ذلك عن علي وابن عباس وجبير بن مطعم Bهم وبه قال سعيد بن المسيب و شريح و سعيد بن جبير و نافع بن جبير مولى ابن عمر و مجاهد و إياس بن معاوية و جابر بن زيد و ابن سيرين و الشعبي و الثوري و إسحاق وأصحاب الرأي و الشافعي في الجديد وعن أحمد أنه الولي إذا كان أبا الصغيرة وهو قول الشافعي القديم إذا كان أبا أو جدا وحكي عن ابن عباس و علقمة و الحسن و طاوس و الزهري و ربيعة و مالك أنه الولي لأن الولي بعد الطلاق هو الذي بيده عقدة النكاح لكونها قد خرجت عن يد الزوج ولأن الله تعالى ذكر عفو النساء عن نصيبهن فينبغي أن يكون عفو الذي بيده عقدة النكاح عنه ليكون المعفو عنه في الموضعين واحدا ولأن الله تعالى بدأ بخطاب الأزواج على المواجهة بقوله : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } - ثم قال - { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } وهذا خطاب غير حاضر ولنا ما روى الدارقطني بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي A أنه قال ولي العقدة الزوج ولأن الذي بيده عقدة النكاح بعد العقد هو الزوج فإنه يتمكن من قطعه وفسخه وإمساكه وليس إلى الولي منه شيء ولأن الله تعالى قال : { وأن تعفوا أقرب للتقوى } والعفو الذي هو أقرب إلى التقوى هو عفو الزوج عن حقه أما عفو الولي عن مال المرأة فليس هو أقرب إلى التقوى ولأن المهر مال للزوجة فلا يملك الولي هبته وإسقاطه كغيره من أموالها وحقوقها وكسائر الأولياء ولا يمتنع العدول عن خطاب الحاضر إلى خطاب الغائب كقوله تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة } وقال تعالى : { قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } فعلى هذا متى طلق الزوج قبل الدخول تنصف المهر بينهما فإن عفا الزوج لها عن النصف الذي له كمل لها الصداق جميعه وإن عفت المرأة عن النصف الذي لها منه وتركت له جميع الصداق جاز إذا كان العافي منهما رشيدا جائزا تصرفه في ماله وإن كان صغيرا أو سفيها لم يصح عفوه لأنه ليس له التصرف في ماله بهبة ولا إسقاط ولا يصح عفو الولي عن صداق الزوجة أبا كان أو غيره صغيرة كانت أو كبيرة نص عليه أحمد في رواية الجماعة وروى عنه ابن منصور إذا طلق امرأته وهي بكر قبل أن يدخل بها فعفا أبوها أو زوجها ما أرى عفو الأب إلا جائزا قال أبو حفص : ما أرى ما نقله ابن منصور إلا قولا ل أبي عبد الله قديما وظاهر قول أبي حفص أن المسألة رواية واحدة وإن أبا عبد الله رجع عن قوله بجواز عفو الأب وهو الصحيح لأن مذهبه أنه لا يجوز للأب إسقاط ديون الصغيرة ولا إعتاق عبيده ولا تصرفه له إلا بما فيه مصلحته ولا حظ لها في هذا الإسقاط فلا يصح وإن قلنا برواية ابن منصور لم يصح إلا بخمس شرائط : .
أولها : أن يكون أبا لأنه الذي يلي مالها ولا يتهم عليها .
الثاني : أن تكون صغيرة ليكون وليا على مالها فإن الكبيرة تلي مال نفسها .
الثالث : أن تكون بكرا لتكون غير مبتذلة ولأنه لا يملك تزويج الثيب وإن كانت صغيرة فلا تكون ولايته عليها تامة .
الرابع : أن تكون مطلقة لأنها قبل الطلاق معرضة لإتلاف البضع .
الخامس : أن تكون قبل الدخول لأن ما بعده قد أتلف البضع فلا يعفو عن بدل متلف ومذهب الشافعي على نحو من هذا إلا أنه يجعل الجد كالأب .
فصل : ولو بانت امرأة الصغيرة أو السفيه أو المجنون على وجه يسقط صداقها عنهم مثل أن تفعل امرأته ما ينفسخ به نكاحها من رضاع من ينفسخ نكاحها برضاعة أو ردة أو بصفة لطلاق من السفيه أو رضاع من أجنبية لمن ينفسخ نكاحها برضاعة أو نحو ذلك لم يكن لوليهم العفو عن شيء من الصداق رواية واحدة وكذلك لا يجوز عند الشافعي قولا واحدا والفرق بينهم وبين الصغير أن وليها أكسبها المهر بتزويجها وههنا لم يكسبه شيئا إنما يرجع المهر إليه بالفرقة .
فصل : وإذا عفت المرأة عن صداقها الذي لها على زوجها أو عن بعضه أو وهبته له بعد قبضه وهي جائزة الأمر في مالها جاز ذلك وصح ولا نعلم فيه خلافا لقول الله تعالى : { إلا أن يعفون } يعني الزوجات وقال تعالى : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } قال أحمد في رواية المروذي ليس شيء قال الله تعالى : { فكلوه هنيئا مريئا } سماه غير المهر تهبه المرأة للزوج وقال علقمة لامرأته هيئي لي من الهنيء المريء يعني من صداقها وهل لها الرجوع فما وهبت زوجها فيها ؟ عن أحمد روايتان وإختلاف بين أهل العلم ذكرناه فيما مضى .
فصل : إذا طلقت قبل الدخول وتنصف المهر بينهما لم يخل من أن يكون دينا أو عينا فإن كان دينا لم يخل أما أن يكون دينا في ذمة الزوج لم يسلمه إليها أو في ذمتها بأن تكون قد قبضته وتصرفت فيه أو تلف في يدها وأيهما كان فإن للذي له الدين أن يعفو حقه منه بأن يقول : عفوت عن حفي من الصداق أو أسقطتك أو أبرأتك منه أو ملكتك إياه أو وهبتك أو أحللتك منه أو أنت منه في حل أو تركته لك وأي ذلك قال سقط به المهر وبرئ منه الآخر وإذا لم يقبله لأنه إسقاط حق فلم يفتقر إلى قبول كإسقاط القصاص والشفعة والعتق والطلاق ولذلك صح إبراء الميت مع عدم القبول منه ولو رد ذلك لم يرتد وبرئ منه لما ذكرناه وإن أحب العفو من الصداق في ذمته لم يصح العفو لأنه إن كان في ذمة الزوج فقد سقط عنه بالطلاق وإن كان في ذمة الزوجة فلا يثبت في ذمتها إلا النصف الذي يستحقه الزوج وأما النصف الذي لها فهو حقها تصرفت فيه فلم يثبت في ذمتها منه شيء ولأن الجميع كان ملكا لها تصرفت فيه وإنما يتجدد ملك الزوج للنصف بطلاقه فلا يثبت في ذمتها غير ذلك وأيهما أراد تكميل الصداق لصاحبه فإنه يجدد له هبة متبدأة وأما إن كان الصداق عينا في يد أحدهما فعفا الذي هو في يده للآخر فهو هبة له تصح بلفظ العفو والهبة التمليك ولا تصح بلفظ الإبراء والإسقاط ويفتقر إلى القبض فيما يشترط القبض فيه وإن عفا غير الذي هو في يده صح بهذه الألفاظ وافتقر إلى مضي زمن يتأنى القبض فيه إن كان الموهوب مما يفتقر إلى القبض .
فصل : إذا أصدق امرأته عينا فوهبتها له ثم طلقها قبل الدخول بها فعن أحمد فيه روايتان : .
إحداهما : يرجع عليها بنصف قيمتها وهو اختيار أبي بكر وأحد قولي الشافعي لأنها عادت إلى الزوج بعقد مستأنف فلا تمنع استحقاقها بالطلاق كما لو عادت إليه بالبيع أو وهبتها لأجنبي ثم وهبتها له .
والرواية الثانية : لا يرجع عليها وهو قول مالك و المزني وأحد قولي الشافعي وهو قول أبي حنيفة إلا أن تزيد العين أو تنقص ثم تهبها له لأن الصداق عاد إليه ولو لم تهبه لم ترجع بشيء وعقد الهبة لا يقتضي ضمانا ولأن نصف الصداق تعجل له بالهبة فإن كان الصداق دينا فأبرأته منه فإن قلنا لا يرجع فههنا أولى وإن قلنا يرجع ثم يخرج ههنا وجهان : .
أحدهما : لا يرجع لأن الإبراء إسقاط حق وليس بتمليك الأعيان ولهذا لا يفتقر إلى قبول ولو شهد شاهدان على رجل بدين فأبرأه مستحقه ثم رجع الشاهدان لم يغرما شيئا ولو كان قبضه منه ثم وهبه له ثم رجع الشاهدان غرما .
والثاني : يرجع لأنه عاد إليه بغير الطلاق فهو كالعين والإبراء بمنزلة الهبة ولهذا يصح بلفظها وإن قبضت الدين منه ثم وهبته له ثم طلقها فهو كهبة تعين لأنه تعين بقبضه وقال أبو حنيفة : يرجع ههنا لأن الصداق قد استوفته كله ثم تصرفت فيه فوجب الرجوع عليها كما لو وهبته أجنبيا ويحتمل أن لا يرجع لأنه عاد إليه ما أصدقها فأشبه ما لو كان عينا فقبضتها ثم وهبتها أو وهبته العين أو أبرأته من الدين ثم فسخت النكاح بفعل من جهتها كإسلامها أو ردتها أو إرضاعها لمن ينفسخ نكاحها برضاعه ففي الرجوع بجميع الصداق عليها روايتان كما في الرجوع بالنصف سواء .
فصل : وإن أصدقها عبدا فوهبته نصفه ثم طلقها قبل الدخول انبنى ذلك على الروايتين فإن قلنا إذا وهبته الكل لم يرجع بشيء رجع ههنا في ربعه وعلى الرواية الأخرى يرجع في النصف الباقي كله لأنه وجده بعينه وبهذا قال أبو يوسف و محمد و المزني وقال أبو حنيفة : لا يرجع بشيء لأن النصف حصل في يده فقد استعجل حقه وقال الشافعي في أحد أقواله كقولنا والثاني : له نصف النصف الباقي ونصف قيمة الموهوب والثالث يتخير بين هذا وبين الرجوع بقيمة النصف .
ولنا أنه وجد نصف ما أصدقها بعينه فأشبه ما لم تهبه شيئا .
فصل : فإن خالع امرأته بنصف صداقها قبل دخوله بها صح وصار الصداق كله له نصفه بالطلاق ونصفه بالخلع ويحتمل أن يصير له ثلاثة أرباعه لأنه إذا خالعها بنصفه مع علمه أن النصف يسقط عنه صار مخالفا بنصف الذي يبقى لها فيصير له النصف بالطلاق والربع بالخلع وإن خالعها بمثل نصف الصداق في ذمتها صح وسقط جميع الصداق ونصفه بالطلاق بالمقاصة بما في ذمتها من عوض الخلع ولو قالت له : اخلعني بما يسلم لي من صداقي ففعل صح وبرئ من جميع الصداق وكذلك إن قالت أخلعني على أن لا تبعة عليك في المهر صح وسقط جميعه عنه وإن خالعته بمثل جميع الصداق في ذمتها صح ويرجع عليها بنصفه لأنه يسقط نصفه بالمقاصة بالنصف الذي لها عليه ويسقط عنه النصف بالطلاق يبقى له عليها النصف وإن خالعته بصداقها كله فكذلك في أحد الوجهين وفي الآخر لا يجرع عليه بشيء لأنه لما خالعها به مع علمه بسقوط نصفه بالطلاق كان مخالعا لها بنصفه ويسقط عنه بالطلاق نصفه ولا يبقى لها شيء .
فصل : وإذا أبرأت المفوضة من المهر صح قبل الدخول وبعده وسواء في ذلك مفوضة البضع ومفوضة المهر وكذلك من سمي لها مهر فاسد كالخمر والمجهول لأن المهر واجب في هذه المواضع وإنما جهل قدره والبراءة من المجهول صحيحة لأنها إسقاط فصحت في المجهول كالطلاق وقال الشافعي : لا تصح البراءة في شيء من هذا لأن المفوضة لم يجب لها مهر فلا يصح الإبراء مما لم يجب وغيرها مهرها مجهول والبراءة من المجهول لا تصح إلا أن تقول أبرأتك من درهم إلى ألف فيبرأ من مهرها إذا كان دون الألف وقد دللنا على وجوبه فيما مضى فيصح الإبراء منه كما لو قالت أبرأتك من درهم إلى ألف وإذا أبرأت المفوضة ثم طلقت قبل الدخول فإن قلنا لا يرجع إلى المسمى لها لم يرجع ههنا وإن قلنا يرجع ثم احتمل أن لا يرجع ههنا لأن المهر كله سقط بالطلاق ووجبت المتعة بالطلاق ابتداء ويحتمل أن يرجع لأنه عاد إليها مهرها بسبب غير الطلاق وبكم يرجع ؟ يحتمل أن يرجع بنصف مهر المثل لأنه وجب بالعقد فهو كنصف المفروض ويحتمل أن يرجع بنصف المتعة لأنها التي تجب بالطلاق فأشبهت المسمى .
فصل : وإن أبرأته المفوضة من نصف صداقها ثم طلقها قبل الدخول فلا متعة لها لأن المتعة قائمة مقام نصف الصداق وقد أبرأت منه فصار كما لو قبضته ويحتمل لها أن يجب لها نصف المتعة إذا قلنا أن الزوج لا يرجع عليها بشيء إذا أبرأت من جميع صداقها .
فصل : ولو باع رجلا عبدا بمائة فأبرأه البائع من الثمن أو قبضه ثم وهبه إياه ثم وجد المشتري بالعبد عيبا فهل له رد المبيع والمطالبة بالثمن أو أخذ أرش العيب مع إمساكه ؟ على وجهين بناء على الروايتين في الصداق إذا وهبته المرأة لزوجها ثم طلقتها قبل الدخول وإن كانت بحالها فوهب المشتري العبد للبائع ثم أفلس المشتري والثمن في ذمته فللبائع أن يضرب بالثمن مع الغرماء وجها واحدا لأن الثمن ما عاد إلى البائع منه شيء ولذلك كان يجب أدؤه إليه قبل الفلس بخلاف التي قبلها ولو كان عبدا ثم أسقط عنه مال الكتابة برئ وعتق ولم يرجع على سيده بالقدر الذي كان يجب على السيد أن يؤتيه إياه كذلك لو أسقط عنه القدر الذي يلزمه إيتاؤه إياه واستوفى الباقي لم يلزمه أن يؤتيه شيئا لان اسقاطه عنه يقوم مقام الإيتاء وخرجه بعض أصحابنا على وجهين بناء على الروايتين في الصداق ولا يصح لأن المرأة أسقطت الصداق الواجب لها قبل وجود سبب استحقاق الزوج عليها نصفه وههنا أسقط السيد عن المكاتب ما وجد إتيانه إياه فكان إسقاطه مقام إيتائه ولهذا لو قبضه السيد منه ثم آتاه إياه لم يرجع بشيء ولو قبضت المرأة صداقها ووهبته لزوجها ثم طلقها قبل الدخول لرجع عليها فافترقا