مسألة وفصول .
مسألة : قال : ومن خطب امرأة فلم تسكن إليه فلغيره خطبتها .
الخطبة بالكسر خطبة الرجل المرأة لينكحها والخطبة بالضم هي حمد الله والتشهد ولا يخلو حال المخطوبة من ثلاثة أقسام : .
أحدها : أن تسكن إلى الخاطب لها فتجيبه أو تأذن لوليها في إجابته أو تزويجه فهذه يحرم على غير خاطبها خطبتها ملا روى ابن عمر [ أن النبي A قال : لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ] وعن أبي هريرة [ عن النبي A قال : لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك ] متفق عليهما ولأن ذلك إفسادا على الخاطب الأول وإيقاع العداوة بين الناس ولذلك نهى النبي صلى ا لله عليه وسلم عن بيع الرجل على بيع أخيه ولا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم إلا أن قوما حملوا النهي على الكراهية والظاهر أولى .
القسم الثاني : أن ترده ولا تركن إليه فهذه يجوز خطبتها لما [ روت فاطمة بنت قيس أنها أتت النبي A فذكرت أن معاوية وأبا جهم خطباها فقال رسول الله A : أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه انكحي أسامة بن زيد ] متفق عليه فخطبها النبي A بعد إخبارها إياه بخطبة معاوية وأبي جهم لها ولأن تحريم خطبتها على هذا الوجه اضرار بها فإنه لا يشاء أحد أن يمنع المرأة النكاح إلا منعها بخطبته إياها وكذلك لو عرض لها في عدتها بالخطبة فقال لا تفوتيني بنفسك وأشباه ذلك هذا لم تحرم خطبتها لأن في قصة فاطمة أن النبي A قال لها : [ لا تفوتينا بنفسك ] ولم ينكر خطبة أبي جهم ومعاوية لها .
وذكر ابن عبد البر أن ابن وهب روى بإسناده عن الحارث بن سعد بن أبي ديان أن عمر بن الخطاب خطب امرأة على جرير بن عبد الله وعلى مروان بن الحكم وعلى عبد الله بن عمر فدخل على المرأة وهي جالسة في بيتها فقال عمر أن جرير بن عبد الله يخطب وهو سيد أهل المشرق ومروان يخطب وهو سيد شباب قريش وعبد الله بن عمر وهو من قد علمتم وعمر بن الخطاب فكشفت المرأة الستر فقالت أجاد أمير المؤمنين فقال نعم ؟ فقالت فقد أنكحت أمير المؤمنين فأنحكوه فهذا عمر قد خطب على واحد بعد واحد قبل أن يعلم ما تقول المرأة في الأول .
القسم الثالث : أن يوجد من المرأة ما يدل على الرضا والسكون تعريضا لا تصريحا كقولها ما أنت إلا رضا وما عنك رغبة فهذه في حكم القسم الأول لا يحل لغيره خطبتها هذا ظاهر كلام الخرقي وظاهر كلام أحمد فإنه قال إذا ركن بعضهم إلى بعض فلا يحل لأحد أن يخطب والركون يستدل عليه بالتعريض تارة وبالتصريح أخرى وقال القاضي ظاهر كلاك أحمد إباحة خطبتها وهو مذهب الشافعي في الجديد لحديث فاطمة حيث خطبها النبي صلى ا لله عليه وسلم وزعموا أن الظاهر من كلامها ركونها إلى أحدهما واستدل القاضي بخطبته لها قبل سؤالها هل ويجد منها ما دل على الرضا أولا ؟ .
ولنا عموم قوله عليه السلام : [ لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ] ولأنه وجد منها ما دل على الرضا به وسكوتها إليه فحرمت خطبتها كما لو صرحت بذلك وأما حديث فاطمة فلا حجة لهم فيه فإن فيه ما يدل على أنها لم تركن إلى واحد منهما من وجهين : .
أحدهما : أن النبي A قال لها : [ لا تسبقيني بنفسك ] ـ وفي لفظ ـ [ لا تفوتيني بنفسك ] ـ وفي رواية ـ [ إذا حللت فآذنيني ] فلم تكن لتفتات بالإجابة قبل أن تؤذن رسول الله A .
والثاني : أنها ذكرت ذلك لرسول الله A كالمستشيرة له فيهما أو في العدول عنهما إلى غيرهما وليس في الإستشارة دليل على ترجيح أحد الأمرين ولا ميل إلى أحدهما على أنها إنما ذكرت ذلك للنبي A لترجع إلى قوله ورأيه وقد أشار عليها بتركهما لما ذكرنا من عيبهما فجرى ذلك مجرى ردها لهما وتصريحها بمنعهما ومن وجه آخر أن النبي A قد سبقهما بخطبتها تعريضا بقول لها ما ذكرنا فكانت خطبته بعدهما مبنية على الخطبة السابقة لهما بخلاف ما نحن فيه .
فصل : والتعويل في الرد والإجابة على الولي إن كانت مجبرة وعليها إن لم نكن مجبرة لأنها أحق بنفسها من وليها ولو أجاب هو ورغبت عن النكاح كان الأمر أمرها وإن أجاب وليها فرضيت فهو كإجابتها وإن سخطت فلا حكم لإجابته لأن الحق لها ولو أجاب الولي في حق المجبرة فكرهت المجاب واختارت غيره سقط حكم إجابة وليها لكون اختيارها مقدما على اختياره وإن كرهته ولم تجز سواه فينبغي أن يسقط حكم الإجابة أيضا لأنه قد أمر بإستئمارها فلا ينبغي له أن يكرهها على ما لا ترضاه وإن أجابته ثم رجعت عن الإجابة وسخطته زال حكم الإجابة لأن لها الرجوع وكذلك إذا رجع الولي المجبر عن الإجابة زال حكمها لأن له النظر في أمر موليته ما لم يقع العقد وإن لم ترجع هي ولا وليها ولكن ترك الخاطب الخطبة أو أذن فيها جازت خطبتها لما روي في حديث بن عمر [ عن النبي A أنه نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يأذن له أو يترك ] رواه البخاري .
فصل : وخطبة الرجل على خطبة أخيه في موضع النهي محرمة قال أحمد لا يحل لأحد أن يخطب في هذه الحال وقال أبو جعفر العكبري هي مكروهة غير محرمة وهذا نهي تأديب لا تحريم .
ولنا ظاهر النهي فإن مقتضاه التحريم ولأنه نهي عن الإضرار بالآدمي المعصوم فكان على التحريم كالنهي عن أكل ماله وسفك دمه فإن فعل فنكاحه صحيح نص عليه أحمد فقال لا يفرق بينهما وهو مذهب الشافعي وروي عن مالك و داود أنه لا يصح وهو قياس قول أبي بكر لأنه قال في البيع على بيع أخيه هو باطل وهذا في معناه ووجهه أنه نكاح منهي عنه فكان باطلا كنكاح الشغار .
ولنا أن المحرم لم يفارق العقد فلم يؤثر فيه كما لو صرح بالخطبة في العدة .
فصل : ولا يكره للولي الرجوع عن الإجابة إذا رأى المصلحة لها في ذلك لأن الحق لها وهو نائب عنها في النظر لها فلا يكره له الرجوع الذي رأى المصلحة فيه كما لو ساوم في بيع دارها ثم تبين له المصلحة في تركها ولا يكره لها أيضا الرجوع إذا كرهت الخاطب لأنه عقد عمري يدوم الضرر فيه فكان لها الإحتياط لنفسها والنظر في حظها وإن رجعا عن ذلك لغير غرض كره لما فيه من إخلاف الوعد والرجوع عن القول ولم يحرم لأن الحق بعد لم يلزمهما كمن سام سلعة ثم بدا له إلا يبيعها .
فصل : فإن كان الخاطب الأول ذميا لم تحرم الخطبة على خطبته نص عليه أحمد فقال لا يخطب على خطبة أخيه ولا يساوم على سوم أخيه إنما هو للمسلمين ولو خطب على خطبة يهودي أو نصراني أو استام على سومهم لم يكن داخلا في ذلك لأنهم ليسوا بإخوة للمسلمين وقال ابن عبد البر لا يجوز أيضا لأن هذا خرج مخرج الغالب لا لتخصيص المسلم به .
ولنا أن لفظ النهي خاص في المسلمين وإلحاق غيره به إنما يصح إذا كان مثله وليس الذمي كالمسلم ولا حرمته كحرمته ولذلك لم تجب إجابتهم في دعوة الوليمة ونحوها وقوله خرج مخرج الغالب قلنا متى كان في المخصوص بالذكر معنى يصح أن يعتبر في الحكم لم يجز حذفه ولا تعدية الحكم بدونه وللأخوة الإسلامية تأثير في وجوب الإحترام وزيادة الإحتياط في رعاية حقوقه وحفظ قلبه واستبقاء مودته فلا يجوز خلاف ذلك والله أعلم