مسألة وفصول : قال : ولا وصية لوارث إلا أن يجز الورثة ذلك وفروع في الوصية .
مسألة : قال : ولا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة ذلك : .
وجملة ذلك أن الإنسان إذا أوصى لوارثه بوصية فلم يجزها سائر الورثة لم تصح بغير خلاف بين العلماء قال ابن المنذر و ابن عبد البر : أجمع أهل العلم على هذا وجاءت الأخبار عن رسول الله A بذلك فروى أبو أمامة قال : [ سمعت رسول الله A يقول إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ] رواه أبو داود و ابن ماجة و الترمذي ولأن النبي A منع من عطية بعض ولده وتفضيل بعضهم على بعض في حال الصحة وقوة الملك وإمكان تلافي العدل بينهم بإعطاء الذي لم يعطه فيما بعد ذلك لما فيه من إيقاع العداوة والحسد بينهم ففي حال موته أو مرضه وضعف ملكه وتعلق الحقوق به وتعذر تلافي العدل بينهم أولى وأحرى وإن أجازها جازت في قول الجمهور من العلماء وقال بعض أصحابنا الوصية باطلة وإن أجازها سائر الورثة إلا أن يعطوه عطية مبتدأة أخذا من ظاهر قول أحمد في رواية حنبل : لا وصية لوارث وهذا قول المزني وأهل الظاهر وهو قول للشافعي واحتجوا بظاهر قول النبي A [ لا وصية لوارث ] وظاهر مذهب أحمد و الشافعي أن الوصية صحيحة في نفسها وهو قول جمهور العلماء لأنه تصرف صدر من أهله في محله فصح كما لو وصى لأجنبي والخبر قد روي فيه [ إلا أن يجيز الورثة ] والاستثناء من النفي إثبات فيكون ذلك دليلا على صحة الوصية عند الإجازة ولو خلا من الاستثناء كان معناه لا وصية نافذة أو لازمة أو ما أشبه هذا أو يقدر فيه لا وصية لوارث عند عدم الإجازة من غيره من الورثة وفائدة الخلاف أن الوصية إذا كانت صحيحة فإجازة الورثة تنفيذ وإجازة محضة يكفي فيها قول الوارث أجزت أو أمضيت أو نفذت فإذا قال ذلك لزمت الوصية وإن كانت باطلة كانت الإجارة هبة مبتدأة تفتقر إلى شروط الهبة من اللفظ والقبول والقبض كالهبة المبتدأة ولو رجع المجيز قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض صح رجوعه .
فصل : وإن أسقط عن وارثه دينا أو أوصى بقضاء دينه أو أسقطت المرأة صداقها عن زوجها أو عفا عن جناية موجبها المال فهو كالوصية له وإن عفا عن القصاص وقلنا الواجب القصاص عينا سقط إلى غير بدل وإن قلنا الواجب أحد شيئين سقط القصاص ووجب المال وإن عفا عن حد القذف سقط مطلقا وإن وصى لغريم وارثه صحت الوصية وكذلك إن وهب له وبهذا قال الشافعي و أبو حنيفة وقال أبو يوسف هو وصية للوارث لأن الوارث ينتفع بهذا الوصية وتستوفي ديونه منها .
ولنا أنه وصى لأجنبي فصح كما لو وصى لمن عادته الإحسان إلى وارثه وإن وصى لولد وارثه صح فإن كان يقصد بذلك نفع الوارث لم يجز فيما بينه وبين الله تعالى قال طاوس في قوله D : { فمن خاف من موص جنفا أو إثما } قال : أن يوصي لولد ابنته وهو يريد ابنته رواه سعيد قال ابن عباس الجنف في الوصية والأضرار فيها من الكبائر .
فصل : وإن وصى لكل وارث بمعين من ماله بقدر نصيبه كرجل خلف ابنا وبنتا وعبدا قيمته مائة وجارية قيمتها خمسون فوصى لابنه بعبده ولابنته بأمته احتمل أن تصح الوصية لأن حق الوارث في القدر لا في العين بدليل ما لو عاوض المريض بعض ورثته أو أجنبيا بجميع ماله صح إذا كان ذلك بثمن المثل وإن تضمن فوات عين المال واحتمل أن تقف على الإجازة لأن في الأعيان غرضا صحيحا وكما لا يجوز إبطال حق الوارث في قدر حقه لا يجوز من عينه .
فصل : وإذا ملك المريض من يعتق عليه بغير عوض عتق وورث وبهذا قال مالك وبعض أصحاب الشافعي وحكاه الخبري مذهبا للشافعي ولا خلاف بين هؤلاء في أنه إذا ملكه بالميراث أنه يعتق ويرث وقال أبو حنيفة : إن حمله الثلث عتق وورث وإلا سعى فيما بقي عليه ولم يرث ولم يفرق بين أن يملكه بعوض أو غيره وقال أبو يوسف ومحمد يحتسب ميراثهم من قيمتهم فإن فضل شيء أخذه وإن فضل عليهم شيء سعوا فيه .
ولنا أن المريض لم يضع فيهم شيئا من ماله وإنما تعاطى سبب ملكهم على دونه لم يستقر وزال بغير إزالته فلم يحتسب عليه من ثلثه كما لو اتهب شيئا فرجع الواهب فيه قبل قبضه أو اشترى شيئا فيه غبطة بشرط الخيار ففسخ البائع أو وجد بالثمن عيبا ففسخ البيع أو تزوجت المرأة فطلقت قبل الدخول وإذا لم تكن وصية لم تحتسب عليه من الثلث لم يمنع الميراث كما لو ملكه بالميراث عند من سلمه أو كما لو كان ذلك في صحته فإن ملكه بعوض كالشراء فحكى الخبري عن أحمد أنه يعتق ويرث وهذا قول ابن الماجشون وأهل البصرة وقال القاضي في المجرد : إن ملكه بعوض وخرج من الثلث عتق وورث وإلا عتق منه بقدر الثلث وهذا قول مالك وقال الخبري وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وحكى غيره عن الشافعي أنه لا فرق عنده بين أن يملكه بعوض أو غيره وإنه إن خرج من الثلث عتق وإلا عتق منه بقدر الثلث ولا يرث في الحالين لأنه لو ورث لكان إعتاقه وصية لوارث فيبطل عتقه ويبطل ميراثه لبطلان عتقه فيؤدي توريثه إلى إبطال توريثه فصححنا عتقه ولم نورثه لئلا يفضي إلى ذلك ومذهب أبي حنيفة وصاحبيه في هذا كمذهبهم فيما إذا ملكه بغير عوض .
ولنا على إعتاقه قول النبي A [ من ملك ذا رحم محرم فهو حر ] ولأنه ملك وجد معه ما ينافيه فبطل كملك النكاح مع ملك الرقبة أعني فيما إذا اشترى أحد الزوجين صاحبه وإذا أعتق ورث لأنه وجد سبب الميراث عريا عن الموانع فورث كما لو ورثه وقولهم أن عتقه وصية لا يصح لأن الوصية فعله والعتق ههنا يحصل من غير اختياره ولا إرادته ولأن رقبة العتق لا تحصل له وإنما تتلف ماليته وتزول فيصير ذلك كتلفه بقتل بعض رقيقه أو كإتلاف بعض ماله في بناء مسجد مثال ذلك مريض وهب له ابنه فقبله وقيمته مائة ثم مات المريض وخلف ابنا آخر ومائتين فإنه يعتق ويقاسم أخاه المائتين في قول الأكثرين وعند الشافعي فيما حكى عنه غير الخبري يعتق ولا يرث شيئا وعند صاحبي أبي حنيفة يعتق وله نصف التركة يحتسب عليه بقيمته ويبقى له خمسون وإن كان باقي التركة خمسين فعندنا يعتق وله نصف الخمسين وهو قول مالك وعند أبي حنيفة يعتق نصفه ويسعى في باقيه والخمسون كلها لأخيه وقال صاحباه تعتق ثلاثة أرباعه وعند الشافعي في قول غير الخبري يعتق نصفه ويرق نصفه ونصفه الرقيق والخمسون كلها لأخيه وإن كان باقي التركة ثلاثمائة فعندنا يعتق وله مائة وخمسون وعند الشافعي يعتق ولا يرث شيئا وعند صاحبي أبي حنيفة يعتق وله مائة فإن كان اشترى ابنه بمائة ومات وخلف ابنا آخر ومائة أخرى فعلى الرواية الأولى يعتق ويقاسم أخاه المائة الباقية وعلى ما حكاه القاضي يعتق منه ثلثاه ويرث أربعين ويعتق باقيه على أخيه ولا يرث بذلك الجزء شيئا لأن عتقه حصل بعد موت أبيه وعند الشافعي يعتق ثلثاه ولا يرث وقال أبو حنيفة يعتق ثلثاه ويسعى في باقيه ولا يرث وعند صاحبيه يعتق كله ولا يرث شيئا فإن كان قد تصدق قبل ذلك بثلثه أو حابى به لم يعتق لأن الثلث قد ذهب .
فصل : وإن ملك من ورثته من لا يعتق عليه كبني عمه فأعتقهم في مرضه فعتقهم وصية لأنه حصل بفعله واختياره وحكمهم في العتق حكم الأجانب إن خرجوا من الثلث عتقوا وإلا عتق منهم بقدر الثلث وينبغي أن يعتقوا ولا يرثوا لأنهم لو ورثوا لكانت وصية لوارث فيبطل عتقهم ثم يبطل ميراثهم وقد قال أبو الخطاب في رجل ملك ابن عمه فأقر في مرضه أنه كان أعتقه في صحته عتق ولم يرث وهذا في معنى ما ذكرنا لأن إقراره لوارث غير مقبول فمنعنا ميراثه ليقبل إقراره له بالإعتاق .
فصل : مريض اشترى أباه بألف لا مال له سواه فعلى رواية الخبري يعتق كله وعلى القول الآخر يعتق ثلثه على المعتق ويعتق باقيه على ابنه وهذا قول مالك وقال أبو حنيفة يعتق ثلثه ويسعى للابن في ثلثيه وعلى قول صاحبيه يعتق سدسه ويسعى في خمسة أسادسه وقيل : على قياس قول الشافعي يفسخ الشراء إلا أن يجيز الابن عتقه وقيل يعتق ثلثه ويفسخ البيع في ثلثيه وإن خلف الفين سواء عتق وورث سدسهما وبه قال مالك و أبو حنيفة وفي قول صاحبيه يعتق نصفه ويسعى في قيمة نصفه .
فصل : وإذا وهب الإنسان أبوه أو وصى له به استحب له أن يقبله ولم يجب وهذا قول الشافعي ويحتمل أن يجب عليه قبوله لأن فيه إعتاقا لأبيه من غير التزام مال .
ولنا أنه استجلاب ملك على الأب فلم يلزمه كما لو بذل له بعوض أو كما لو بذل له ابنه أو غيره من أقاربه ولأنه يلزمه ضرر بلحوق المنة به وتلزمه نفقته وكسوته .
فصل : إذا وصى لوارثه وأجنبي بثلثه فأجاز سائر الورثة وصية الوارث فالثلث بينهما وإن وصى لكل واحد منهما بمعين قيمتهما الثلث فأجاز سائر الورثة وصية الوارث جازت الوصية لهما وإن ردوا بطلت وصية الوارث في المسألتين وللأجنبي السدس في الأولى والمعين الموصى له به في الثانية وهذا قول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم وإن كانت الوصيتان بثلثي ماله فأجاز الورثة لهما جازت لهما وإن عينوا نصيب الوارث بالرد وحده فللأجنبي الثلث كاملا لأنهم خصوا الوارث بالإبطال فالثلث كله للأجنبي وسقطت وصية الوارث فصار كأنه لم يوص له وإن أبطلوا الزائد عن الثلث من غير تعيين نصيب أحدهما فالثلث الباقي بين الوصيين لكل واحد منهما السدس هذا الذي ذكره القاضي وهو قول مالك و الشافعي وذلك لأن الوارث يزاحم الأجنبي إذا أجاز الورثة الوصيتين فيكون لكل واحد منهما الثلث فإذا أبطلوا نصفهما بالرد كان البطلان راجعا إليهما وما بقي منهما بينهما كما لو تلف ذلك بغير الرد واختار أبو الخطاب أن الثلث جميعه للأجنبي وحكي نحو هذا عن أبي حنيفة لأنهم لا يقدرون على إبطال الثلث فما دون إذا كان للأجنبي ولو جعلنا الوصية بينهما لملكوا إبطال ما زاد على السدس فإن صرح الورثة بذلك فقالوا أجزنا الثلث لكما ورددنا ما زاد عليه في وصيتكما أو قالوا رددنا من وصية كل واحد منكما نصفها وبقينا له نصفها كان ذلك آكد في جعل السدس لكل واحد منهما لتصريحهم به وإن قالوا أجزنا وصية الوارث كلها ورددنا نصف وصية الأجنبي فهو على ما قالوا لأن لهم أن يجيزوا لهما ويردوا عليهما فكان لهم أن يجيزوا لأحدهما ويردوا على الآخر وإن أجازوا للأجنبي جميع وصيته وردوا على الوارث نصف وصيته جاز كما قلنا وإن أرادوا أن ينقصوا الأجنبي عن نصف وصيته لم يملكوا ذلك سواء أجازوا للوارث أو ردوا عليه فإن ردوا جميع وصية الوارث ونصف وصية الأجنبي فعلى قول القاضي لهم ذلك لأن لهم أن يجيزوا الثلث لهما فيشتركان فيه ويكون لكل واحد منهما نصفه ثم إذا رجعوا فيما للوارث لم يرد الأجنبي على ما كان له في حالة الإجازة للوارث وعلى قول أبي الخطاب يتوفر الثلث كله للأجنبي لأنه إنما ينقص منه بمزاحمة الوارث فإذا زالت المزاحمة وجب توفير الثلث لأنه قد أوصى له به ولو خلف ابنين ووصى لهما بثلثي ماله ولأجنبي بالثلث فردا الوصية فقال أبو الخطاب عندي للأجنبي الثلث كاملا وعند القاضي له التسع ويجيء فيه من الفروع مثل ما ذكرنا في التي قبلها .
فصل : وإن وصى بثلثه لوارث وأجنبي وقال إن ردوا وصية الوارث فالثلث كله للأجنبي كما وصى وإن أجازوا للوارث فالثلث بينهما لأن الوصية تتعلق بالشرط ولو قال أوصيت لفلان بثلثي فإن مات قبلي فهو لفلان صح وإن قال وصيت بثلثي لفلان فإن قدم فلان الغائب فهو له صح فإن قدم الغائب قبل موت الموصي صار هو الوصي وبطلت وصية الأول سواء عاد إلى الغيبة أو لم يعد لأنه قد وجد شرط انتقال الوصية إليه فلم ينتقل عنه بعد ذلك وإن مات الموصي قبل قدوم الغائب فالوصية للحاضر سواء قدم الغائب بعد ذلك أو لم يقدم ذكره القاضي لأن الوصية ثبتت لوجود شرطها فلم تنقل عنه كما لو لم يقدم ويحتمل أن الغائب إن قدم بعد الموت كانت الوصية له لأنه جعلها له بشرط قدومه وقد وجد ذلك .
فصل : وإن وصى لوارث فأجاز بعض باقي الورثة الوصية دون البعض نفذ في نصيب من أجاز دون من لم يجز وإن أجازوا بعض الوصية دون بعض نفذت فيما أجازوا دون ما لم يجيزوا فإن أجاز بعضهم بعض الوصية وأجاز بعضهم جميعها أو ردها فهو على ما فعلوا من ذلك فلو خلف ثلاثة بنين وعبدا لا يملك غيره فوصى به لأحدهم أو وهبه إياه في مرض موته وأجازه له أخواه فهو له وإن أجاز له أحدهما وحده فله ثلثاه وإن أجازا له نصف العبد فله نصفه ولهما نصفه وإن أجازا أحدهما له نصف نصيبه ورد الآخر فله النصف كاملا : الثلث نصيبه والسدس من نصيب المجيز وإن أجاز كل واحد منهما له نصف نصيبه كمل له الثلثان وإن أجاز له أحدهما نصف نصيبه والآخر ثلاثة أرباع نصيبه كمل له ثلاثة أرباع العبد وإن وصى بالعبد لاثنين منهما فللثالث أن يجيز لهما أو يرد عليهما أو يجيز لهما بعض وصيتهما إن شاء متساويا وإن شاء متفاضلا أو يرد على أحدهما ويجيز للآخر وصيته كلها أو بعضها أو يجيز لأحدهما جميع وصيته وللآخر بعضها فكل ذلك جائز لأن الحق له فكيفما شاء فعل فيه